من التظاهرات اللبنانية المثمرة
د. الياس ميشال الشويري
في عالمٍ يزداد تعقيدًا، قد يبدو من البديهي أن الذكاء والمعرفة هما المحرّكان الرئيسان للمجتمعات، إلا أن الواقع كثيرًا ما يناقض هذا التصوّر. فقد تكون الكثرة، لا الحكمة، هي مصدر القوة، وقد تتحوّل الجماعة إلى أداةٍ للتضليل بدلًا من أن تكون وسيلة للنهوض. من هذا المنطلق، تأتي مقولة الفكاهي الأميركي جورج كارلين: “لا تستهن أبدًا بقوة الأغبياء عندما يكونون في مجموعاتٍ كبيرة“، كمفتاحٍ لفهم سلوكيات جماعية تقود أحيانًا إلى كوارث سياسية واجتماعية وفكرية. ورغم الطابع الساخر للمقولة، إلا أنها تحوي في طياتها تأملاً عميقًا حول توازنات القوة، وتفسيرات سوسيولوجية لحالات الانقياد الجماهيري والانسلاخ عن التفكير النقدي. في هذا البحث، سنغوص في أبعاد هذه الظاهرة عبر ثلاثة محاور: أولًا الفهم الفلسفي والاجتماعي للمقولة، ثم استعراض نماذج تاريخية وسياسية تبرز حقيقتها، وأخيرًا مناقشة سبل مواجهة هذا الواقع عبر الوعي والتربية والإصلاح.
1. الفهم الفلسفي والاجتماعي لمقولة كارلين
مقولة جورج كارلين ليست مجرد تهكّم ساخر، بل تلخّص حقيقة فلسفية وسوسيولوجية عميقة. فالفرد في الجماعة يتخلّى أحياناً عن قدراته النقدية لصالح الشعور بالانتماء، مما يخلق بيئة خصبة لانتشار السطحية والقرارات الخاطئة. من منظور فلسفي، يوازي هذا الموقف ما طرحه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حول “سقوط الإنسان في المجموع”. فالفرد يفقد خصوصيته أمام ضغط الجماعة ويصبح صدىً لا صوتًا. وهذا السقوط الفكري يُمكّن حتى الأقل فكرًا من قيادة الجموع أو التأثير فيها بقوة لا تتناسب مع مؤهلاتهم. إذًا، فالقوة لا تأتي من الحكمة، بل من العدد والانسياق الجماعي.
عندما يتجمّع الأفراد، تنشأ لديهم حالة تُعرف في علم الاجتماع بـ”عقلية القطيع“. في هذا السياق، يتحوّل الذكاء الفردي إلى تصرّف جماعي غير عقلاني. إميل دوركايم يفسّر ذلك بأن المجتمع يمتلك وعياً جماعيًا قد يكون مختلفًا عن وعي أفراده، وهذا الوعي يمكن أن يقود إلى قرارات خاطئة إذا تشكّل في بيئة غير عقلانية. فالجهل المنظم أو المشترك يصبح مصدرًا للقوة، لا لأنه عقلاني، بل لأنه جماعي. وقد تتكرر هذه الظاهرة في الانتخابات، وفي الحركات الشعبوية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تبرز مواقف جماعية تفتقر إلى العمق ولكنها تحمل تأثيرًا واسعًا ومدمّرًا أحياناً.
لعبت التكنولوجيا والإعلام الحديث دورًا محوريًا في تضخيم صوت الجماعات غير الواعية. فوسائل التواصل الاجتماعي لا تميّز بين صوت خبير وعابر سبيل، بل تعطي الأفضلية للأكثر تفاعلاً. في هذا السياق، يمكن أن تنتشر معلومات خاطئة بسرعة البرق، وتحشد حولها جيوشًا من المتابعين دون تمحيص. وهكذا، تصبح المقولة واقعية: الأغبياء بفضل الحشد والضجيج ىيكتسبون قوة تضليلية كبيرة. الأمر يشبه “الجهل المنظَّم”، حيث تُبنى قناعات على وهم، ويُعاد إنتاج الجهل بمساعدة الأدوات التكنولوجية التي كان يُفترض أن تكرّس الوعي لا العكس.
2. الأمثلة التاريخية والسياسية لظاهرة “قوة الأغبياء“
شهد التاريخ العديد من اللحظات التي ارتقى فيها إلى السلطة قادة لا يملكون الكفاءة، بل استغلوا المشاعر الجماهيرية والتحريض. الشعبوية مثال واضح على هذه الظاهرة، حيث ينجح قادة في استقطاب الجماهير بخطابات بسيطة، تلامس الغرائز لا العقول. هؤلاء القادة يعتمدون على تأجيج الغضب والخوف، لا على تقديم حلول منطقية. وغالباً ما تكون الجماهير التي تصطف خلفهم غير ملمة بالتفاصيل المعقدة للواقع السياسي أو الاقتصادي، لكنها تشعر أنها تمثَّل، فتمنحهم دعمًا مطلقًا. وهكذا، تتحول الغوغائية إلى آلة انتخابية فعّالة تُقصي العقل وتُمكّن الجهل من الحكم.
واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث الهولوكوست لم تكن ممكنة لولا انخراط جماهير واسعة في منظومة عنصرية قاتلة. كثير من الذين دعموا النظام النازي لم يكونوا أشرارًا بطبيعتهم، بل انساقوا وراء الدعاية وخضعوا لضغط الجماعة. الأمر لا يقتصر على ألمانيا، بل يتكرّر في كل مرة تُستغل فيها الجماهير الجاهلة لصناعة مجازر أو حروب أو تدمير داخلي. الجماعة قد تعطي للفرد المبرر للتخلي عن ضميره، أو الاعتقاد بأنه غير مسؤول، لأنه “يتبع الأغلبية”. وهذا ما يجعل الأغبياء، حين يتجمعون، قوة تهدد القيم والأخلاق والمجتمعات.
في لبنان، تنعكس مقولة كارلين بوضوح في واقع سياسي معقّد تغذّيه الزبائنية والطائفية. فغالبًا ما تُنتخب شخصيات لا تحمل أي مشروع وطني، بل تعتمد على الانتماء الطائفي أو الخطابات الشعبوية. الناخبون لا يختارون بناءً على الكفاءة أو البرامج، بل بناءً على العصبية والانتماء. هذا النمط من السلوك الانتخابي يكرّس الرداءة ويفسح المجال أمام شخصيات هامشية لا تملك من أدوات القيادة شيئًا سوى قدرتها على تعبئة الشارع. وهكذا، يصبح البرلمان مرآةً لجهل منظم، لا منبرًا للتغيير. وهذا دليل على أن “قوة الأغبياء” ليست نكتة، بل مأساة سياسية حقيقية.
3. مقترحات لمواجهة الجهل الجماعي وتعزيز الوعي
السبيل الأهم لكسر هذه الحلقة هو التربية النقدية. فالمدارس والجامعات يجب ألا تقتصر على تلقين المعلومات، بل عليها أن تزرع في الأفراد قدرة على التفكير والتحليل والمساءلة. التربية النقدية تمكّن الفرد من التفرقة بين الحقيقة والوهم، بين القيادة والشعبوية، بين الحكمة والضجيج. إن خلق جيل قادر على التمييز هو التحدي الأكبر لأي مجتمع يريد النجاة من “قوة الأغبياء”. وهذا يتطلب تغييرًا في المناهج التربوية، بحيث تتحوّل من أدوات للتكرار إلى منصّات للفكر الحر والنقاش البنّاء.
الإعلام المستقل يلعب دورًا حاسمًا في توعية الرأي العام. فمتى كان الإعلام تابعًا لمراكز النفوذ، يصبح شريكًا في تضليل الناس. أما الإعلام الحر، فيشكّل خط الدفاع الأول ضد الجهل. إضافة إلى ذلك، من المهم تشجيع المبادرات الثقافية التي تستهدف التثقيف الشعبي، عبر ورش عمل، ندوات، كتب مبسطة، ومنصات تفاعلية. فالجماعة الواعية ليست خطراً، بل قوة إيجابية. وإذا أمكن تحويل العدد إلى أداة وعي بدلاً من أن يكون كتلة عمياء، فقد نكسر مقولة كارلين، أو على الأقل نمنع تحققها في الواقع.
لبنان، كحالة نموذجية، يحتاج إلى إعادة صوْغ للعقد الاجتماعي، بحيث يُبنى على المواطنة لا الطائفة، وعلى الكفاءة لا الولاء. هذه المهمة ليست بسيطة، لكنها ضرورة وجودية. على المجتمع المدني، والأحزاب الجديدة، والنخب الثقافية، أن تعمل على خلق وعي جماعي جديد، يرفض التسطيح والتبعية. كذلك، لا بد من آليات دستورية وإدارية تحصّن المؤسسات من التلاعب والجهل، مثل قوانين الانتخابات العادلة، والمساءلة القانونية، والشفافية. فالحل لا يكمن في إلغاء الجماعة، بل في إعادة تشكيلها على أسس عقلانية وعادلة.
4. الخاتمة
تُبيّن لنا مقولة كارلين، حين نغوص في أبعادها، أنها ليست مجرد سخرية عابرة بل إنذار مبكر لخطرٍ متجذر في بنية المجتمعات الحديثة. فالجهل، حين يصبح جماعيًا ومنظمًا، لا يُنتج فقط قرارات خاطئة، بل يُهدد أسس العدالة، والديمقراطية، والتقدّم. وقد رأينا في هذا البحث كيف يمكن للجماعة، حين تفتقد إلى الوعي والنقد، أن تتحول إلى أداةٍ تُكرّس الفساد وتُفرغ المؤسسات من معناها، كما في التجربة اللبنانية وسواها. غير أن الأمل لا يزال ممكنًا، إذ إن التربية النقدية، والإعلام الحر، وإعادة بناء العقود الاجتماعية على أساس المواطنة والعقلانية، يمكن أن تُعيد التوازن وتُعيد للعدد معناه البنّاء. وبين القوّة الصامتة للفكر، وقوة الضجيج في الجهل، يبقى الخيار مفتوحًا أمام المجتمعات: أن تكون شعوبًا تفكر، أو جموعًا تُقاد.
