كلب الرئيس بوتين لا يتمرد على الاوامر
د. الياس ميشال الشويري
يضرب المثل الإنجليزي “كلاب الحراسة لا تنبح على سيدها، حتى لو سَرَق” في توصيف العلاقة بين الخادم الجبان والسيد المتسلط، وبين الموظف الفاسد والحاكم المستبد، حيث تختلط مشاعر الخوف بالولاء الأعمى، ويصبح السكوت عن الخطأ هو القانون غير المكتوب في أنظمة التبعية والفساد. هذا المثل يعكس واقعًا عالميًا لكنه يجد في العالم العربي، وخصوصًا في لبنان، صورة أكثر حدة وتجذرًا. في وطن يُنهش من الداخل وتُنهب خيراته منذ عقود، نجد طبقة من “كلاب الحراسة” – من إعلاميين، قضاة، موظفين، وأزلام حزبيين – لا تنبح على الزعماء حتى ولو سُرقت البلاد علنًا. في هذا المقال، سنغوص في أبعاد هذا المثل على مستويات السلطة والولاء، وربطه بواقع لبنان المرير في ظل “الزعماء النصّابين” الذين نصبوا أنفسهم أربابًا على الناس، في حين صمتت الحناجر التي من المفترض أن تحرس الوطن لا السارقين.
- فلسفة الولاء الأعمى وتحوّله إلى خيانة وطنية
الولاء في أصله فضيلة إنسانية، لكنه حين ينقلب إلى طاعة عمياء لمن يسرق ويظلم، يتحول إلى لعنة. فبعض الناس يختارون السكوت عن ظلم الحاكم طمعًا بالرزق أو خوفًا من البطش. في لبنان، نشهد طبقة من الموظفين والمسؤولين تتغاضى عن مخالفات صارخة، فقط لأن المرتكب محسوب على “الزعيم”. الولاء هنا لا يخدم الوطن بل يكرّس حكم المافيات. وهكذا يتحول الإنسان من مواطن إلى تابع، ومن شاهد إلى شاهد زور.
الفرق بين شرعية الدولة وشرعية الزعيم تتجلى في لحظة اتخاذ القرار الصعب. “كلاب الحراسة” تبرر خيانة الوطن بحجة خدمة “الشرعية السياسية” الممثلة في الزعيم أو الطائفة. لكنها تتجاهل أن الشرعية الحقيقية تنبع من القانون والأخلاق. في لبنان، اختلطت الأمور، فصار الدفاع عن الحرامي بطولة، ومعارضة السارق خيانة. وكل من يحاول النباح على السيد يُنبَح عليه من القطيع.
حين لا تنبح كلاب الحراسة على السارق، فإنها تشاركه الجريمة بطريقة غير مباشرة. في لبنان، كم من موظف في الجمارك أو المصرف أو القضاء يعلم أن هناك سرقة ولا يفتح فمه؟ الصمت هنا ليس حيادًا، بل خيانة موصوفة. الزعيم يسرق، والأبواق الإعلامية تبرّر، والمجتمع يدفع الثمن. وهكذا تُبنى منظومة الفساد فوق حطام الصمت الجماعي الذي رعاه أولئك الذين يفترض أنهم حرّاس للوطن.
- نموذج لبنان – الزعماء النصّابون وحرسهم من المنافقين
في لبنان، لا يخضع الزعيم للمحاسبة، مهما تكن الجرائم التي ارتكبها. الزعيم “خط أحمر“، وتتبعه شبكة من الكلاب التي تدافع عنه في كل محفل. الإعلام، القضاء، رجال الدين، والمستشارون، كلهم يتحولون إلى دروع بشرية تحجب الحقيقة وتمنع العدالة. هذه الطبقة تحمي السارق، وتشوه صورة من يحاول محاسبته، حتى يصبح من يطالب بالحق هو “الخائن“، ومن يسرق هو “الحامي“.
في الدول المتقدمة، يلعب الإعلام دور الرقيب، لكنه في لبنان تحوّل إلى بوق مأجور. كل قناة تخدم زعيمًا، وكل صحفي ينبح على معارضيه لا عليه. حين تُفتح ملفات فساد، يسلّط الإعلام الضوء على التفاصيل الهامشية لتشتيت الرأي العام، ويحّرف النقاش عن أصل القضية. وهكذا يصبح الإعلام اللبناني مثالاً حيًا للمثل الإنجليزي: “كلاب الحراسة لا تنبح على سيدها، حتى لو سرق“.
الزعيم في لبنان لا يحكم فقط بالقوة، بل عبر التوظيف الطائفي. يُعين الحراس في مناصب الدولة بحسب ولائهم له، لا بحسب كفاءتهم. وكلّ موظف يعلم أنه إن تجرأ على “النباح”، فمصيره الطرد أو النفي أو الإقصاء. وبذلك تبنى دولة على قاعدة “السكوت مقابل الوظيفة“، و”الصمت مقابل الامتيازات“، بينما ينهار الوطن تحت أقدام النصّابين.

- الآثار المدمّرة لسكوت الحراس على الانهيار العام
حين يُحصّن السارق نفسه بكلاب لا تنبح، يطمئن للسرقة أكثر. في لبنان، الفساد لا يتمّ بشكل عشوائي، بل هو ممنهج ومدعوم بشبكة حماية من “الحرس القديم” والجديد. في المرفأ، في قطاع الكهرباء، في المصارف، وفي القضاء، كلها ملفات اختفت فيها الحقيقة خلف ستار الحماية السياسية. وكلّ من تسوّل له نفسه كشف المستور، يُتهم فورًا بأنه “مأجور“.
غياب النباح الحقيقي على السارقين يؤدي إلى تفريغ مفهوم الدولة من مضمونها. حين تسكت كلاب الحراسة، تتلاشى فكرة المسؤولية. من يسرق لا يُحاسب، ومن يقتل لا يُحاكم، ومن ينهب لا يُسجن. في لبنان، نجد كل النصّابين خارج السجن، وكل المطالبين بالإصلاح في التهديد أو الإقصاء. الدولة تتآكل من الداخل لأن الحماية ليست للمواطن بل للزعيم.
الأسوأ من كل شيء هو أن السكوت يتحوّل إلى ثقافة، والعبودية إلى طبع. يتعوّد المواطن على الصمت، ويكفّ عن المطالبة بالحق، ويتحول إلى عبد لزعيمه. وتصبح الكرامة تهمة، والنباح على السارق خيانة. هذه الحالة تنتج مجتمعًا مفككًا، عديم الثقة، يائسًا من التغيير. في لبنان، تحوّل الصمت إلى سلوك جماعي مدمّر، تغذيه سلطة تدير البلاد كأنها مزرعة خاصة.
- كسر حاجز الصمت والنباح في وجه اللصوص
رغم كل شيء، شهد لبنان موجات من الصحوة، خاصة في ثورة 17 تشرين. بدأت كلاب تنبح، والأقلام تكتب، والأصوات ترتفع. أدرك جزء من الشعب أن الصمت جريمة، وأن النباح على السارق واجب وطني. هذه الصحوة هزّت أركان المنظومة ولو بشكل جزئي، لكنها أثبتت أن صوت الحقيقة لا يمكن دفنه إلى الأبد، حتى في وطن تحكمه “الكلاب المروّضة“.
في ظلّ تواطؤ الإعلام الرسمي والحزبي، ظهرت منصّات إعلامية مستقلة أو شعبية، تحمل همّ الناس، وتكشف المستور. هذا الإعلام الجديد، الذي لا يخضع لزعيم أو مموّل فاسد، بدأ يربك المنظومة التقليدية. نباحه حرّ، وكلامه جريء، وشجاعته مستمدة من الشعب لا من القصر. إنه النقيض الحي لكلاب الحراسة التي لا تنبح على سادتها، بل تنقض على من يفضحهم.
التغيير الحقيقي يبدأ حين يتحوّل “كلب الحراسة” من تابع أعمى إلى حارس وطني، أي حين يكون القضاء نزيهًا، والإعلام حرًا، والموظف شريفًا، والمواطن مسؤولًا. لبنان لا يحتاج إلى مزيد من الكلاب الصامتة، بل إلى رجال أحرار يحمون الدولة من السرقة لا السارق من الدولة. تلك هي معركة الكرامة التي سيحسمها من ينبَح في وجه الباطل، لا من يسكت عنه.
- الخاتمة
“كلاب الحراسة لا تنبح على سيدها، حتى لو سرق“، مثلٌ يكشف مأساة الدول التي تتحوّل فيها السلطة إلى صنم، والطاعة إلى عبودية، والسكوت إلى شراكة في الجريمة. وفي لبنان، تجسّد هذا المثل بأبشع صوره، حيث تحوّل الزعيم إلى مقدّس، وكل من حوله إلى كلاب مدربة على السكوت. لكن الأمل لا يموت، فكل نباح في وجه السارق هو بداية طريق نحو استرداد الوطن. وما من فجر يُولد دون أن تسبقه صيحاتُ يقظة، تهز جدران الزيف وتفتح أبواب التغيير.