نعم، الجحيم يتسع للجميع
د. الياس ميشال الشويري
في عالمٍ تتصارع فيه الشعوب من أجل النهوض والعدالة والتقدّم، يبدو أن لبنان قد اختار مسارًا معاكس يتمثل بتنافس الطبقات السياسية والطائفية والمالية في ما بينها، على من سيكون الأكثر فسادًا ووقاحة. المقولة المنسوبة إلى فيودور دوستويفسكي: “اطمئنوا، الجحيم يتّسع للجميع، فالأمر لا يستحق كل هذه المنافسة الشرسة على من سيكون الأسوأ فيكم“، ليست مجرد تعبير ساخر، بل توصيف مرير لحالة يعيشها لبنان منذ عقود. ففي هذا البلد، لم يعد الفساد استثناءً، بل أصبح معيارًا للنفوذ، وشرطًا للبقاء في السلطة، ومسارًا للترقي السياسي. في هذا المقال، نستعرض كيف تحوّل لبنان إلى نموذج حيّ للجحيم الأرضي، حيث تتسابق القوى الفاسدة على تدمير ما تبقّى من الدولة، في سباق لا رابح فيه سوى الخراب.
- التنافس على الشرّ بدلًا من التنافس على الخير
في المجتمعات السليمة، تتنافس القوى السياسية والاقتصادية على تقديم الأفضل، سواء في الإدارة أو التشريع أو الابتكار أو خدمة الناس. أما في المجتمعات الفاشلة، مثل لبنان، فإن التنافس يتمحور حول من يسطو على المال العام أكثر، ومن يُمعن في تجهيل الناس، ومن يستغل الطائفية أكثر. أصبح التباهي بالمكر والدهاء، وتبرير الكذب والخداع تحت مسمى “الذكاء السياسي“، هو السلوك السائد.
عبارة دوستويفسكي تصبح توصيفًا دقيقًا لهذا الواقع: “لا داعي لهذه المنافسة على الشرّ، فالجحيم يتّسع للجميع“. كأننا أمام مباراة بلا شرف، يتسابق فيها المتنافسون إلى قعر الهاوية، لا إلى قمم العدالة أو الإصلاح. في لبنان، ترى من يتهم غيره بالفساد فيما هو يغرق حتى أذنيه فيه، ومن يزايد على غيره بالوطنية وهو مستعد لبيع البلاد مقابل مقعد وزاري أو نفوذ طائفي.
هذا النوع من التنافس لا ينتج عنه إلا مزيد من الخراب. تتوالى الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتغيب المحاسبة، لأن الجميع متورّط بطريقة أو بأخرى. الكارثة أن الناس بدأوا يعتادون هذا النموذج، ويعتبرون أن النقاء في السياسة مستحيل، وأن الخير هزيمة، والشر ضرورة، وهذا ما يحوّل لبنان إلى نسخة حقيقية من الجحيم الذي يتسع للجميع.
- الجحيم اللبناني كنموذج للعبث الجماعي
الجحيم ليس فقط عذابًا بعد الموت، بل يمكن أن يكون واقعًا يوميًا في بلدٍ منهوب، منهار، فاقد للثقة بكل شيء. في لبنان، الجحيم ليس خيالًا، بل معاشًا: كهرباء مقطوعة، ماء ملوّث، طبابة مفقودة، مدارس تنهار، وقضاء مخترق. والسبب؟ أن كل من في السلطة، أو معظمهم، يتصرّفون وكأنهم في سباق على من يصنع الجحيم الأكبر.
تتناقل النُخب الحاكمة المسؤولية في ما بينها، لكن لا أحد يعترف بدوره في الجريمة. كل حزب يتهم الآخر، وكل زعيم يدّعي البراءة. أما الناس، فقد أصبحوا رهائن في وطن لا يسأل عنهم، وقد أُجبروا على التعايش مع الانهيار كأنه قدر محتوم. إن الاستهتار الجماعي، وغياب الضمير، هما من يصنعان هذا “الجحيم المفتوح“.
في مثل هذا الواقع، تصبح مقولة دوستويفسكي نبوءة: لا تتنافسوا على الشرّ، لأن الجميع سيُجازى به. ويبدو أن المنظومة الفاسدة في لبنان قد أخذت بهذه القاعدة ولكن بطريقة عكسية، فراحت تنهب وتكذب وتخدع، مطمئنة إلى أن العقاب لن يُفرّق، والجحيم سيتّسع لكل الفاسدين، فالمسؤولية “مُعمّمة“، وبالتالي تضيع المحاسبة.

- سقوط المعايير وانهيار القيم
حين تغيب المعايير الأخلاقية، ويصبح الفساد هو القاعدة، تنقلب المفاهيم: يصبح الشريف مغفّلًا، والنزيه معرقلًا، والمجرم ذكيًا، والخائن بطلاً. وهذا تمامًا ما حدث في لبنان، حيث يُهمَّش أصحاب الكفاءة، ويُكافأ الفاسدون بمزيد من النفوذ. الجحيم هنا ليس عقابًا من السماء، بل نتيجة حتمية لسياسة بشرية ظالمة.
عندما تنهار القيم، تصبح اللغة ذاتها منحرفة. فالسلاح غير الشرعي يُسمّى “مقاومة“، والتهريب يُبرّر بـ”الصمود“، والسرقة تُغلّف بـ”الحقوق المكتسبة“، وشراء الذمم يُسمّى “خدمات انتخابية“. هذا التضليل المنظّم يصنع بيئة تسمح لكل فاسد بأن يستمر، ويُنافس غيره على من سيكون الأوقح لا الأكفأ.
في ظل هذه الفوضى الأخلاقية، يتلاشى الأمل، ويكفر الناس بالوطن. بعضهم يهاجر، وبعضهم ينعزل، وبعضهم ينضم إلى الفساد ليحمي نفسه. وبدل أن يكون النظام رادعًا، يصبح جزءًا من آلة الجريمة. هكذا يتحقّق الجحيم لا كمجاز أدبي فقط، بل كواقع سياسي واجتماعي، فيه يصبح لبنان نموذجًا للدولة التي فشلت لأنها سمحت لأبنائها بأن يتنافسوا في الشرّ بدلًا من التنافس في الخير.

- الخاتمة
المقولة التي بدأنا بها هذا البحث تبدو ساخرة ومؤلمة في آن. “اطمئنوا، الجحيم يتّسع للجميع“، ليست نكتة، بل صفعة أخلاقية. هي دعوة للتوقف عن الانحدار، لا للاطمئنان له. في لبنان، لم يعد الأمر بحاجة إلى رمزية أدبية أو فلسفية. الجحيم واقع، وصُنّاعه معروفون. لكن ما زال هناك متّسع في الجحيم … إن لم يُحاسب الفاسدون، وإن لم يستفق الناس، فلن ينجو أحد، لا الفقير ولا الغني، لا المُعارِض ولا المُوالِي، لأن الجحيم حين يُفتح، لا يفرّق بين من أشعله ومن سكت عنه.