الموت فقد قيمته
د. الياس ميشال الشويري
في وطنٍ يتهاوى تحت وطأة الانهيار، لم يعد الموت يحمل رهبة الوداع ولا حرمة الرحيل. ففي لبنان، صار الموت حدثًا عاديًا لا يثير الدهشة، ولا يدفع إلا القليلين للتوقف. لقد فقدت الحياة معناها، ومعها فقد الموت قيمته، لا لأن الموت تغير، بل لأن المجتمع تغيّر، وانسلخ عن أبسط معاني التوقير والسكينة، حتى بات بعض الناس يستغلون الفقد ليخوضوا معاركهم السياسية الرخيصة فوق نعوش الآخرين.
- تفريغ الموت من قدسيته في الثقافة اللبنانية المعاصرة
الموت في الفهم الإنساني هو لحظة توقف، لحظة خشوع، لحظة استيعاب لحقيقة الفناء. ولكنه في لبنان اليوم، تحول إلى مشهد عابر، لا يتجاوز كونه خبراً في شريط إخباري أو صورة على وسائل التواصل. لم يعد الحزن حقيقيًا، ولا الأسى صادقًا، بل باتت المظاهر طاغية والطقوس مفرغة من مضمونها، حتى صارت الجنازات أحيانًا مناسبات اجتماعية أكثر منها محطات تأملية في المصير.
الانهيار القيمي الذي يعيشه لبنان انعكس بوضوح على نظرة الناس إلى الموت. لم تعد الأرواح تُحتَرَم كما في السابق، بل أصبح الموت مجرد حلقة في مسلسل الانهيارات، لا يترك أثرًا عميقًا في النفوس. ماتت القدرة على التأثر، وتبلّدت المشاعر، نتيجة التكرار والتطبيع مع الفواجع، حتى صرنا نرى أخبار الموت تمرّ وكأنها حالة طقس.
في قلب هذا التفريغ القيمي، لم يعد للميت حق في وداع كريم. يتم اختزاله في سطور قليلة، وربما في جدل سياسي أو طائفي. فالمجتمع الذي فقد احترامه للحياة، فقد تبعًا لذلك احترامه للموت. لقد أصبح الموت بلا قيمة لأننا نعيش حياة بلا كرامة، ولا عدالة، ولا معنى حقيقي. فحين تموت الكرامة في الحياة، تموت رهبة الموت تلقائيًا.
- تسييس الموت واستغلاله كأداة خطابية
في لبنان، لم يعد موت الإنسان نهاية لحكايته، بل بداية لاستثمار سياسي أو تعبيري لدى البعض. يُختَطف الموت ليُجعل شاهدًا في نزاع سياسي أو طائفي. تُحَوَّل الجنازات إلى منصات خطابية، وتُستغل الفاجعة لتوجيه الاتهامات أو تأكيد الانتماءات، متجاهلين ألم الفقد ومقام الراحل، وكأن الموت ذاته صار أداة لتسجيل نقاط رخيصة.
هذا الاستغلال لا يصدر فقط عن السياسيين، بل أيضًا من جمهور ملوّث بالخطاب الطائفي والإيديولوجي. يهلل البعض لموت من يخالفهم، ويبكي آخرون موت من يمثلهم، لا من منطلق إنساني، بل من منطلق انتماء. وهكذا، بدل أن يوحّدنا الموت في وجع واحد، أصبح يفرقنا أكثر، ويكشف هشاشة نسيجنا الوطني والأخلاقي.
الأسوأ من ذلك، أن البعض لا يتوانى عن توظيف الموت لخلق روايات بطولية أو مظلومية، تتناسب مع أجنداته. يتم استثمار اسم الميت وتاريخه ولحظة رحيله، ليُفرض من خلالها موقف سياسي لا علاقة له بالراحل. وهكذا، يصبح الموت منصة للمتاجرة، بدل أن يكون فسحة صمت وتأمل، وهذا أحد أبرز مؤشرات الانحدار في المنظومة الأخلاقية اللبنانية.

- انحلال القيم العامة وتراجع حس التضامن الإنساني
لطالما كان الموت في المجتمعات المتماسكة لحظة جامعة، يتوقف فيها الناس ليتشاركوا في الحزن والتعاطف. أما في لبنان اليوم، فقد تراجع هذا الحس الجماعي، وصار كل حدث يُقرأ من زاوية مصلحية، حتى الموت. لم تعد تعزية الميت فعلًا إنسانيًا خالصًا، بل أصبحت مناسبة لتحصين المواقف أو تصفية الحسابات أو حتى تعزيز صورة الذات.
هذا الانحدار في الحس الجماعي سببه فقدان الثقة العميق بين اللبنانيين، والتشظي الذي أحدثته الطائفية والسياسة والانهيارات. بات الناس يتهربون من مشاعر التضامن الحقيقي، كأنها عبء، ويميلون إلى اختصار الحزن بعبارات سريعة على وسائل التواصل، محولين الموت إلى مجرد “ترند“. لقد تحوّل حتى الحزن إلى استهلاك رمزي لا أكثر.
في خضم هذا التراجع، تراجعت التربية على احترام الموت، وانهار الخطاب الديني والإنساني الذي كان يعلّم الناس كيف يتعاملون مع الفقد. اختلطت القيم، وغابت القدوة، وتحوّلت مشاعر المواساة إلى أداة بروتوكولية لا تُشعِر المكلوم بأي دفء. إن ضياع المعنى في الموت ليس إلا انعكاسًا لضياع المعنى في الحياة، وهذا ما يعانيه اللبناني كل يوم.
- لبنان بين موت المواطن وموت الوطن
لم يعد الموت في لبنان يعني فقط موت الأفراد، بل هو انعكاس رمزي لموت الوطن نفسه. كل جنازة باتت تشبه دفنًا جديدًا لفكرة الوطن. لم نعد ندفن موتانا فقط، بل ندفن معهم حلم الدولة، وكرامة المواطن، وأمل المستقبل. صار كل موت جرس إنذار لا يوقظ أحدًا، وصوت احتجاج لا يسمعه أحد.
في هذا السياق، تتماهى النعوش مع الخراب العام. ليس صدفة أن يموت المواطن قهرًا أو قنصًا أو جوعًا أو إهمالًا، بينما الدولة صامتة، والمجتمع متفرج. هكذا يُختصَر الوطن في نعش، لا تجد من يواكبه إلا باهتمام انتقائي أو محكوم بالهوية السياسية والطائفية، وليس بالمشترك الإنساني أو الوطني.
فقدان قيمة الموت هو آخر مظاهر الانهيار، إذ حين لا يعود لموت الإنسان أي قيمة، تصبح الحياة نفسها بلا وزن، والهوية الوطنية بلا جذور. وهذا ما يجعل لبنان على مفترق خطير: إما أن يستعيد الناس إنسانيتهم، فيتعاملوا مع الموت كما يليق به من إجلال وصمت وتفكر، أو أن نستمر في قتل الأحياء والموتى معًا بضمير ميت.
- الخاتمة
لم يعد الموت في لبنان نهايةً فحسب، بل صار مرآة لما نحن عليه: انكسار، تبلّد، وغياب المعنى. لقد ماتت حرمة الموت لأن الحياة نفسها فقدت قدسيتها. والمؤلم أن موت الإنسان لم يعد يوحّد، بل يُستَغل ويُوظَّف. فحين نستهين بالموت، فإننا نودّع ما تبقّى من إنسانيتنا، ونقف على عتبة مجتمعات لا تحزن إلا على من يخدم أجنداتها. هذه ليست خسارة فرد، بل انتحار جماعي بطيء لوطنٍ لم يبقَ فيه للإنسان قيمة، لا حيًا ولا ميتًا.