حقول على مدّ البصر وغنى
د. غالب خلايلي
خرجنا من مطار تورنتو متأخّرين بسبب الإجراءات الصارمة التي حدّثتكم عنها في الجزء الأول، وكانت نحو الثانية عشرة ظهر الإثنين 7 تموز (1).
شوارع مسساجا مزدحمة بالسيارات والشاحنات الكبيرة، فهذه كندا الدولة الصناعية الكبرى التي تنهمك بالعمل دون استفاقة شعبها من ضغطه (إذ تلاحقه متطلبات الحياة وضغوط الجوار بلا هوادة)، وهذا هو الإثنين أول أيام الأسبوع والمفترض أنه أنشط الأيام.
بعد مسيرة نصف ساعة، وصلنا منطقة هادئة خضراء مشجّرة تكاد لا تسمع صوتا في بيوتها الجميلة المتباعدة، وهناك استقرّ بنا المقام، وكان في استقبالنا باقي أفراد العائلة: زوج ابنتي، وحفيدتي الكبرى، وأخت زوجتي الضيفة المرحة التي حضرت من مونتريال وابنها الشاب الوسيم، حيث شاركا في مهرجان كبير في تورنتو (أحدثكم عنه بعد قليل)، وفيه عرضا بضاعتهما من “العطور” الشرقية والغربية، بين ألوان من العروض والاحتفالات.

أيام من الهدوء واضطراب التوقيت… والبرد
اضطراب التوقيت Jet Lag هو حالة كل من يعبر القارات، إذ يختلف التوقيت ساعات طويلة، وتضطرب الساعة الحيوية، ومن ثم يضطرب النوم. لا ليلك يا سيدي ليل، ولا نهارك نهار حتى تمرّ عدة أيام، تتأقلم بها ساعتك مع نهار طويل وليل قصير، فنحن الآن في شمال الكرة الأرضية.
الجو بمقاييسنا الخليجية ربيعي جميل (كما كان شعورنا في دمشق). الحرارة هنا بين 25 و 30 مئوية (وكانت في الشام بين 30 و 37)، لكنه بمقاييس الطرفين الكندي والشامي صيفي قاس.
على أنه في الشام لم تسمح حالة الكهرباء برفاه تبريدي سواء أبالمكيف أم بالمروحة، وإن لم نشعر بالحاجة إلى ذاك الرفاه في حزيران إلا ما ندر.
أما في كندا فالمكيفات تشتغل ليل نهار، ولا كلمة سواء بين جماعة (المشوّبين والبردانين) سوى تسميك اللباس والغطاء، والرزق على الله.
كنا أشرنا إلى ذلك في مقال قديم، وتفسيره الأولي سهل، فبين شتاء قارس حرارته – 15 أو – 20، وصيف يصل إلى + 30، نحو خمسين درجة، لا يمكن التأقلم معها إلا بعقوبات دولية كالتي (تحظى بها بلادنا!) وحظر للكهرباء وغير حاجات، وما يتلوها من عقبات مثل تقنين الماء وكل الضرورات. عندها تفهم عضلات الجسم ودهونه البنّية وغدده الصمّ وأوعيته الدموية (ولو كانت كندية أصيلة!!) أن لا فائدة ترجى من الانتظار أو التأمل، لتصبح سباحة المرء في عَرَقِه خيراً من أعظم مكيف (كما أخبرني سائق عمومي في الشام)، وتصبح النسمة العابرة و”سرسوبة” ماء الصنبور خيراً من ليالي فيينا وشلالات نياغارا (2).
ولكن، وكيلا نظلم القوم، أخبركم أننا اختبرنا الحر والرطوبة عندهم في بعض الأوقات، فشعرنا بقسوة الشمس (ربما لقربها)، وفداحة الرطوبة، وما هذا، رغم صعوبته، سيئ إن عرفنا أن حقول القمح ذات الطول والعرض سوف تصطبغ باللون الذهبي، وأن أنواع الفواكه من توت بري وفريز وغيرهما من المحاصيل سوف تنضج ويؤذن بقطافها.

مهرجان “نكهة” الشرق الأوسط في تورونتو من 3 إلى 7 تموز 2025
لا أدري إذا بقي “طَعْم” ما أو نكهة للشرق الأوسط، بعد أن نزحت “طعومه” ونكهاتها خارجه مع من نزح وهاجر في أرض الله الواسعة.
لكن في كندا، رغم بعدها وصعوبة القبول بها، تجد عددا هائلا من المغتربين والمهاجرين، ومن هؤلاء عرب من الأصقاع كافة، ممن ارتضوا حياة الصقيع ورأوها خيرا من أحلى ربيع.
والمهرجان المسمّى Taste of the Middle East, Toronto هو حدث ثقافي ضخم للعام السابع على التوالي، مع فقرات لأكثر من 60 فنانًا بين ناشئ ومحترف من المجتمع العربي (التورنتي)، يقدمون منوعات من الموسيقى العربية التقليدية والمعاصرة، ناهيك عن “شيء مهم جدا في حياة الناس ألا وهو التسوق” في بازار يشارك به نحو 100 بائع يعرضون البضائع والفنون والمجوهرات والأزياء ومنتجات الحرف اليدوية، وناهيك أيضا عن “الأهم وأعني المأكولات” التي يقدمها طهاة مهرة بدءاً من أطعمة الشوارع التقليدية إلى الأطباق الحديثة، علما أن الدخول مجاني في ساحة Nathan Phillips Square وسط تورنتو )التي قلّ ان يوجد بها شيء مجاني).
المهرجان حقا صاخب، ويُعدّ منصةً للتعبير الثقافي تسمح للمقيمين في كندا بالحفاظ على الاتصال مع تراثهم، وتدعم التفاعل بين الأقليات وعامة السكان، في بلد لا يسمح بالتمييز من أي نوع، تحت طائلة المسؤولية، فيتعايش الناس جميعهم تحت سقف القانون، كنديين فحسب، أما في بيوتهم فيعودون إلى أصولهم بعد أن “يكشطوا” كل طبقات “المكياج”، وشيئا فشيئا يسيطر المكياج الجديد على الأجيال التالية، ويصبح جلدهم المفضل.

في حقول التوت والفريز
في كندا نحو ستة أشهر من ثلج وبرد لا يطاقان، مثل معظم دول الشمال، وستة أشهر دافئة تزرع فيها شتى أنواع المحاصيل.
وإذا أخذنا المِساحة الهائلة للبلد بعين النظر، أدركنا الثروة الزراعية لها ناهيك عن غير ثروات مثل النفط (قيل إنها رابع دولة في العالم) والخشب…، مما يطرح سؤالا مشروعا عن سبب معاناة الناس من الغلاء الشديد، والذي يبرّر بعضهم أحدَ أسبابه بندرة اليد العاملة وارتفاع أجورها، وبهيمنة جارتها الجنوبية، كما يجد إجابة لتهرب كثيرين من الضرائب ولعبهم على القوانين التي تكبل الناس إلى درجة الاختناق أحيانا.
أما بصفتنا زائرين فلنا الظاهر في مزارع خضراء عطاؤها على مد البصر في مواسم قصيرة متلاحقة يزورها الناس زرافات ووحدانا، يخوضون تجربة ممتعة (مدفوعة الثمن) في الحقول، ويقطفون منتجات مختلفة من أحضان أمهاتها، فتارة هو موسم الفريز، وأخرى هو التوت الوردي أو الأسود، وثالثة هو الأزرق، وقد يكون في موسم لاحق المشمش أو التفاح أو الدراق أو الخوخ، وقد يكون الجزر والكوسا والباذنجان، وكل بحساب لا يقل عن عشرة دولارات للعلبة، ناهيك عن حساب الدخول، مع السماح لك بأن تأكل ما تستطيع وأنت في الحقل، إن كان المنتَج قابلا للأكل، دون أدنى مسؤولية لأصحاب المزرعة إن حدث لك أي مكروه، كما يؤكدون لك ذلك على الباب.
وعند العودة بالعربة التي أقلت الجمهور إلى الحقل، ينتشر الأطفال وأهلوهم في زرائب الحيوانات المختلفة، لتضاف خبرات جديدة لا تتوفر في الخارج.
ومع توفر مقاعد خشبية يمكن للعائلات الاستراحة وتناول الطعام أو المرطبات، حتى إذا ما شعروا بالإشباع أمكنهم أن يغادروا لكن عبر حجرات أُعِدّت سوقا للبضائع الزراعية ومن ضمنها منتجات المزرعة وشراب القيقب Maple Syrup الشهير والعسل، مع افتخار لم يكن واردا في الماضي القريب، أن كل ذلك “منتجات كندية”، فهذه إحدى التحديات في مواجهة ضرائب السيد ترمب.
يقول الخبير لاري جيرستون أستاذ السياسات العامة بجامعة سان خوسيه: “الكنديون شعب فخور، وغضبهم هذه المرة غير مسبوق!”.

متاجر أميركية عملاقة في كندا وإقبال لا تخطئه العين
تتواجد العديد من المتاجر الأمريكية الشهيرة في كندا، بما في ذلك محلات البقالة والمتاجر المتخصصة ومحلات بيع الأجهزة والإلكترونيات. ومن بين أبرز هذه المتاجر: وول مارت (Walmart) (Costco) (Home Depot) (Gap) للملابس، تيم هورتون للمقاهي Tim Horton، كنتاكي للدجاج KFC… وهي تنتشر في كندا بشكل واسع جدا، وعليها إقبال شديد بسبب عروضها وغناها وتنظيمها. في متاجر كوستكو العملاقة مثلا تجد شتى البضائع والملابس والأغذية والأدوية (وعلب الفيتامينات الضخمة بأسعار تنافسية) والخدمات مثل تبديل إطارات السيارات وزيوتها..، بتسهيلات خيالية، مع أماكن اصطفاف كثيرة وواسعة، ويمكنك أن تعيد البضاعة التي لا تعجبك ولو بعد شهر. للحياة لغتها وللاقتصاد منطقه وللناس حاجاتهم وأعذارهم.
مع ليلي

وليلي Lily (وتعني النقاء أو الزهرة باللاتينية) هي القطة التي بدأت تملأ حياة حفيدتيّ منذ نحو شهرين، وتبعدهما عن الأجواء الإلكترونية، دون أن تؤثر على دراستهما وهوايتهما الموسيقية.
إنها المرة الأولى التي أتعايش فيها مع قطة عن قرب. ولأن (الفاضي بيعمل قاضي كما يقولون) أكتشف كم هي كائن حساس وروح كأي روح، ولا تنس كم هي نشيطة وسريعة تذرع البيت جيئة وذهابا بسرعة صاروخية، دون أن توقع أذى بمزهرية أو غيرها إلا ما ندر. وهي تحتاج إلى من يلاعبها وتسعد في ذلك، مثلما يسعد الأطفال بها. إنها عضو جديد عليك أن تحسب حسابه في كل شيء. حقيقة أنا غير مستعد لذلك، ولا لكلاب تحيط بالمرء في كندا من كل جانب، فالناس هنا مولعون بالكلاب، ومنها أغرب الأنواع وأجملها.

أهي حياة الوحدة التي حبّبت الناس بكائنات اشتهرت بالوفاء وفاقت بذلك معشر البشر؟
دمتم بخير
مسساجا الخميس17 تموز 2025
هوامش:
1. رحلة كندا
https://taminwamasaref.com/dr-ghaleb-khalayli-canada-trip/
2. لمزيد من المعلومات حول التأقلم مع البراد
https://www.perplexity.ai/search/a08307c6-81ca-42d5-ae90-5af044774f50