ألعاب مائية على جانب حديقة الحيوانات
د. غالب خلايلي
يصعب إعطاء صورة دقيقة عن كندا بمقال، فهي دولة مترامية الأطراف (الثانية في العالم مِساحة، 10 ملايين كم مربع، بعد روسيا 17 مليون، وبعدها الصين 9 ملايين)، والأقل كثافة سكانية (3.3 نسمة لكل كم مربع)، لكن لهذه الدولة سمعتها وشهرتها بين الوافدين الجدد (وهي أصلا دولة مهاجرين)، ولو كانت ذات قوة بشرية كبيرة لأضحت من أقوى دول العالم، ومع ذلك تقتر وتختار وتعيق. تقتر بالأعداد التي تقبلها، حتى للزيارة، وتختار من بينهم من تراه مناسبا لها، وربما ما تفرضه الاتفاقات الدولية، وتعيق أصحاب مهن معينة كالطب من المهاجرين، أن يمارسوا المهنة، مع أنها بأشد الحاجة إليهم، وأن بعضهم أصحاب كفاءة عالية، إنما آثروا الهجرة بعد أن لفظتهم بلادهم المنكوبة بألف بلوى.
ورغم كل التشديد ترى غلبة جنسيات ليست بالكفاءة المثالية، مما قد يرجح انتشار فيروس الفساد و(التغيم الوطني) بين بعض الموظفين، ولم لا ما دام الفساد يجتاح العالم، فهل كندا بمنأى؟

التركيبة السكانية الكندية خليط أمم:
مثل معظم البلاد التي وصلها البريطاني بشكل رئيس (فهناك الإسباني والبرتغالي والهولندي والفرنسي..) تم القضاء على السكان الأصليين أو تهميشهم أو تهجينهم، وأمامنا أمثلة كثيرة من كندا والأميركيتين وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، ناهيك عن الشمال الاسكندنافي، وغيره الأكثر شهرة، ولا أدري ما سر الوحشية التي اتصف بها الإنسان الغربي على مر التاريخ، فجعلته يستعبد حتى من هو مثله (الايرلنديين مثلا لاختلاف بسيط في المذهب)، وكل من يشاء حتى بلا سبب، ولا أدري سر الآخرين في قابلية الاستعباد.
وتشكل الأصول الأوروبية (بريطانية وفرنسية وألمانية وإيطالية وأوكرانية..) أكبر مجموعة ديموغرافية في كندا، تليها الأصول الآسيوية (الصين، الهند، الفلبين)، ثم السكان الأصليون ( 5 % وهم دون المليونين)، ثم الأفريقية والكاريبية واللاتينية الأمريكية، والعرب من مختلف البلدان.
والكنديون الأصليون Aboriginal Canadians هم الأمم الأولى والإنويت والميتي الذين عرفوا سابقا باسم ‹‹الهنود›› و‹‹الإسكيمو››، الوصفين اللذين توقّف استخدامهما إذ عدّا مُسيئين. وحتى تعبير ‹‹السكان الأصليين›› المستخدم في بعض الوثائق صار من الكلمات المكروهة.
عاش أسلاف الهنود – البلانو والكلوفيس وما قبل الدورسيت في كندا قبل أكثر من عشرة آلاف عام، وانتقلوا إلى أراضٍ جديدة ظهرت بعد ذوبان الأنهار الجليدية. أما ثقافة الميتي المختلطة فقد نشأت في منتصف القرن 17 عندما تزاوجت شعوب الأمة الأولى والإنويت مع الأوروبيين، وعُقِدت العديد من المعاهدات والتشريعات التي توفر حق السكان الأصليين في الحكم الذاتي.

القيم المشتركة بين الكنديين:
لا أستطيع تخيل أن ينسى المرء لونه وأصله وموطنه مهما طالت غربته، ومهما علت مكانته. هذا صحيح عند الجيل الأول، ليطمس عند الأجيال التالية التي انغمس آباؤها في العمل أو اللهو، وما اهتموا بتعريف أبنائهم بأصولهم.
ولأن الإنسان ابن بيئته وثقافتها، فالجيل الثاني أقل تعلقا ببيئة لم يرها أو يحدثه أحد عنها.
ومن الطبيعي في الغربة أن يتكتل الناس حسب مناشئهم، وربما دياناتهم، ليشكلوا مجتمعات صغيرة (هندية، صينية، عربية… مسلمة، هندوسية، مسيحية..)، ومهما حاول المرء التماهي مع الفئة الغالبة يجد جدارا يفصله عنها، وقد يجد من يذكره دائما بأنه غريب.
على أن هذه الحالات الفردية لا تغطي السلوك الكندي العام المتميز بالود، والتسامح، والانفتاح، واحترام خصوصية الآخرين، وتقدير قيم المساواة والسلام، والتركيز على النظام العام والاهتمام بالرياضة والثقافة والبيئة. وقد قيل: إن الكنديين يعدون أنفسهم أفرادًا بالدرجة الأولى، لا أعضاءً في جماعة، وغالبًا ما تُتخذ القرارات المتعلقة بالمهنة والتعليم والأنشطة بناءً على المصالح الشخصية. كما أن الكنديين يتمتعون باللباقة، فتسمع منهم “من فضلك” و”شكرًا لك” في العديد من المواقف؛ وكثيرًا ما يعتذرون: “معذرةً” أو “أنا آسف” إذا اصطدم بهم شخص، ولا يرتاحون في المواقف العدوانية الفظة؛ فيحاولون تجنب الخلاف والمواجهة.
وهم يرون الوقوف في الدور أمرًا مقدسا، متبنين فكرة الأولوية، ليشعروا بالإحباط عندما يتجاوز أحدهم الدور، كما يشيع في بلادنا.

ولأن كندا بلد متعدد الثقافات، يسعى الكنديون إلى تجنب التعابير أو الأفعال التي قد تُسيء إلى الآخرين. وبشكل عام، يتبنى الكنديون نهجًا أكثر تحررا تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية.
كما تتميز كندا، عدا التعليم المجاني وتعزيز الطفولة، بإعطاء كل ذي حق حقه دون تمييز، وبالتأمين الصحي والاجتماعي اللذين يجذبان المهاجرين لا سيما كبار السن الذين ما عادوا يشعرون بالأمان في بلدانهم، ولا حرية الحركة، فالجواز الكندي يمنحهم أجنحة يحلقون بها.
وللكنديين فضول تجاه البلدان الأخرى، وليس من النادر أن يسألوا: “من أين أنت؟” أو “ما خلفيتك/ تراثك؟”
وفي البيئة الجامعية، قد يطلب بعض الأساتذة مناداتهم بأسمائهم الأولى؛ ويشجعون على طرح الأسئلة أو إبداء الرأي، الأمر شبه المفقود في غير بلاد.
يُقدّر الكنديون الوقت، ويتوقعون من الآخرين الالتزام بالمواعيد، سواء أعند حضور محاضرة أم اجتماع أم أي مناسبة أخرى، عكس بلادنا مع الأسف. كما يولي المجتمع الكندي اهتمامًا بالنظام العام واحترام حقوق الأفراد، بالإضافة إلى اهتمامه بالرياضة والثقافة والموسيقى والطعام والطقس، وإن راودته مخاوف اقتصادية مثل التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، والضرائب العالية.
نظام ورقابة.. ورواق.. و.. حشيش
ومع كل اتساع الرقعة فإن الكنديين مكبلون بأنظمة تجعلهم محاصرين في كل الأوقات.
لكل شيء عندهم قانون وميزان تجعل أمثالنا حائرين أين نضع أيدينا إذا نمنا أو قمنا ومشينا.
القمامة مثلا لها قواعد وأوقات، ويندر أن ترى عقب سيجارة أو كيس رقائق بطاطا مرميين في أي مكان. الكاميرات تملأ الحارات والبيوت، فلا تمر نسمة دون أن تسمع صوتها على شكل تنبيه يقول لك: مرت نسمة من هنا. القصة أمنية بحتة لتنبيه السكان إلى أي حضور غريب.
ويلفت نظرك في كندا حضور التسميات البريطانية في معظم الولايات الإنجليزية، فلا عجب مثلا أن تقرأ لندن أونتاريو، ولا شارع ونستون تشرشل أو هاملتون أو ترافلجار (الطرف الأغر) ولا غيرها، كأنهم استنسخوا بريطانيا بقضها وقضيضها. الحمد لله أنهم لم يستنسخوا القيادة على اليمين.
وفي المساء ترى البلاد شبه نائمة. تهدأ الحركة في الشوارع عدا بعض الذين أو اللاتي ينزهن كلابهن، وكنا قد تحدثنا عن ولع الناس بالكلاب، فإن تجولت بين المنازل لا بد أن تشم الرائحة غير المستحبة للحشيشSativa Cannabis (القنب الهندي) الذي يدخنه أولئك الشاعرون بالوحدة أو بالهم، وما أقل الهموم إن قورنت بغير أمم، لكن يبدو أن: كل مين همّو ع قدّو.
حرائق الصيف
ومع تمتع الناس بصيف لطيف مقارنة بشتاء ثلجي طويل، يخرجون إلى الحدائق الغناء، ويلجؤون إلى الشواء. بعضهم يرمي الفحم بين الأشجار، مما قد يؤدي إلى مأساة الحريق. وقد أتت حرائق الغابات في كندا على أكثر من 13.6 مليون فدان (5.5 مليون هكتار) خلال عام 2025، مما يجعل هذا الموسم واحدًا من أكثر مواسم الحرائق تدميرًا في تاريخ البلاد. وأحصت السلطات الكندية نحو 3,000 حريق غابات هذا العام. وتشير السجلات التاريخية إلى أن موسم 1995 كان ثاني أكثر المواسم تدميرًا باحتراق 17.5 مليون فدان، تسهم ظروف الجفاف والتغير المناخي وارتفاع الحرارة خلال الربيع ونقص هطل الثلوج في تفاقم الحرائق (شتاء أقصر وأكثر اعتدالًا، وظروف صيفية مبكرة) وانتشارها بسرعة.

حديقة الحيوانات في مدينة هاملتون
بعد مسيرة ساعة بالسيارة من مسساجا نحو الجنوب أميركي الطابع، وصلنا إلى مدينة هاملتون ذات الطبيعة الجميلة، وحيث حديقة الحيوانات الشهيرة African Lion Safari . وكلمة سفاري تعني رحلة استكشافية برية، وهذا ما كان بالفعل في مساحات شاسعة تقبع بينها الحيوانات المختلفة، بدءا من أسد نائم مسترخ، ولبؤات نشيطات، وزرافات وطيور وأيائل…، تمشي بينها بسيارات مغلقة النوافذ، إذ تعرف سلفا أن الأذية ممكنة، والمسؤولية تقع على كاهلك.
تفاجئك في هذا المكان التسعيرة العالية للدخول (50 دولاراً للبالغ، و 37 للطفل فوق السنتين، كما يفاجئك العدد الهائل للزوار من كل الألوان الذين يقضون وقتا مثيرا بين الحيوانات، ثم في العروض التي تجريها صبايا خبيرات عن الطيور المختلفة كالببغاوات والصقور والنسور وديوك الحبش والطواويس وغيرها، وأخيرا في الألعاب المائية المختلفة التي يستمتع بها الأطفال كما الكبار.
ها قد حل الظلام وأدركنا التعب لنعود أدراجنا على النغمات المحببة للأحفاد، والتي انتهت ب (وين ع رام الله) أمام البيت، فيما أنا أفكر بحيوانات تتمتع بكامل حقوقها التي يفتقدها إخوة لنا، وما أكثرهم على وجه البسيطة.

دمتم بخير
مسساجا الأربعاء 23 تموز 2025
