د. الياس ميشال الشويري
حين يرحل الكبار، لا تكون المسألة مجرد خبر عاجل تتناقله وسائل الإعلام أو منشورًا حزينًا يُكتب على عجل في وسائل التواصل. الأمر أعمق من ذلك بكثير. لأن بعض الراحلين لا يغادرون كالأجساد، بل يغادرون كأركان للوعي الجمعي، كأعمدة متينة في بنية الثقافة الوطنية. زياد الرحباني، هذا الاسم الذي ظلّ طوال خمسين عامًا حالة خاصة في لبنان والعالم العربي، لم يكن مجرد فنان بل كان اختزالًا لمشروع فكري، سياسي، فني، إنساني. هو الوريث الطبيعي لمدرسة الرحابنة، لكنه اختار أن يشق طريقًا مغايرًا، لا يخضع للحنين، بل يواجه الواقع بجرأة. برحيله، لم نفقد صوتًا أو قلمًا أو لحنًا، بل فرغت مساحة كانت تشغلها الحقيقة المغلفة بالسخرية، والوجع الممهور بالنغمة. نبدأ إذًا رحلة تفكيك هذا الأثر الكبير من خلال محاور ثلاثة: الموسيقى كأداة مقاومة، المسرح كمرآة مجتمع، والفراغ الذي خلفه هذا الغياب الكبير.
- زياد الرحباني والموسيقى كوسيلة مقاومة
منذ مطلع شبابه، كان زياد الرحباني واعيًا لحجم الخراب الذي ينهش لبنان من داخله، لذلك لم يكن من الممكن أن تكون موسيقاه تقليدية أو رومانسية فحسب. حين قدّم أولى ألحانه لوالدته السيدة فيروز، كان لبنان يتفكّك طائفيًا واجتماعيًا، فحوّل الأغنية إلى منبر سياسي. لم تكن النغمة عنده تُعزف للترفيه، بل للتأمل، للمواجهة، وربما للصدام. ألبوماته لم تكن تُستقبل بسهولة، لأنها تسير عكس التيار، وتنبش في الألم الجمعي للناس. لا يمكن مثلًا الاستماع إلى “أنا مش كافر” دون أن يشعر الإنسان بالاختناق، فالموسيقى هنا تصرخ بدلًا عن المواطن العادي. المقاومة عند زياد لم تكن بالبندقية بل بالكلمة، بالموقف، وبالاختلاف الصارخ عن السائد.
ما يُميز تجربة زياد الرحباني الموسيقية هو اتكاؤه على التجريب الحرّ، وتمرده الدائم على القوالب الجاهزة. لم يتردد في دمج الجاز بالفلكلور اللبناني، أو مزج الإيقاع الشرقي باللاتيني، أو إدخال الآلات الغربية على مقامات عربية صرفة. كان يرى أن الموسيقى يجب أن تعبّر عن “الواقع“، وهذا الواقع لا يشبه موسيقى البلاط ولا أناشيد المناسبات. لذلك، قدّم أصواتًا غير مصقولة، وجعل النشاز جزءًا من الجمال، والركاكة المقصودة جزءًا من الصدق. لم يغوَهُ اللحن الجميل وحده، بل كان دائمًا يبحث عن المعنى العميق خلف الصوت، عن السبب الذي يجعل المستمع يتوقف، لا يطرب فقط. من هنا، تحولت أغانيه إلى وثائق اجتماعية تُؤرّخ لحالة شعب لاجئ في وطنه، مطحون تحت صراعات لا تنتهي.
في سياق أكثر اتساعًا، تُعدّ موسيقى زياد تجسيدًا نادرًا لما يُعرف بـ “الموقف الجمالي المقاوم“. لم يكن الفن عنده ترفًا، بل ضرورة. لم يكن الصوت أداة إمتاع، بل أداة صراخ. هذه الموسيقى التي يُنتجها لم تعش في استوديوهات فاخرة، بل في الأزقة والضواحي والمقاهي، حيث نبض الناس. أغانيه عن الحب ليست بريئة، بل مشبعة بقلق الهوية والانتماء. حتى الحب عند زياد كان مشروع مقاومة للحرب والعزلة. هذه المقاومة لم تكن تستهدف العدو الخارجي فقط، بل المنظومة الطائفية، الإعلام الرخيص، والزيف الاجتماعي. وبذلك، استطاع أن يصنع من كل أغنية حالة من التمرّد، وأن يجعل من الموسيقى جسدًا ينبض بفكر، لا مجرد ترفيه سمعي.

- المسرح عند زياد الرحباني… سخرية تحاكي المأساة
في زمن الحرب اللبنانية، كانت بيروت تتفكك، والناس تهرب من الواقع بالهجرة أو الصمت أو الطائفية. أما زياد، فقد قرر أن يفتح مسرحًا في وسط هذا الخراب، ويضع مرآة ضخمة في وجه الجمهور، ليجبره على رؤية نفسه، حتى وإن تألم. مسرحه لم يكن يبحث عن النجومية أو التصفيق، بل كان يفتش عن الوعي الغائب. شخصياته المسرحية كانت نماذج حقيقية من الشارع اللبناني: الموظف البائس، الفتاة المهمشة، الشاب المنكسر، اليساري الضائع، رجل الدين الانتهازي. هذه الشخصيات تتكلم مثلنا، تتلعثم، تشتكي، تلعن وتضحك، لكنها تفضح في النهاية الواقع الذي نعيشه جميعًا.
لا يمكن الحديث عن مسرح زياد الرحباني دون التوقف عند “فيلم أميركي طويل“، تلك المسرحية التي يُمكن اعتبارها “دستورًا” لفهم لبنان. كان الحوار حادًا، لكنه يومي، والسينوغرافيا بسيطة لكنها نافذة، والمواقف هزلية لكنها مأساوية. السخرية التي استخدمها زياد لم تكن أداة تزيين، بل كانت وسيلة لكشف العفن. كان يُضحكك لتبكي، ويُبكيك لتفكر. وفي ذلك يتجاوز المسرح الكلاسيكي نحو مسرح ملتزم بالفكر لا بالتقليد. رفض أن يُقسم الجمهور إلى نخب وجماهير، بل خاطب الجميع بلغة واحدة: لغة الحقيقة الساخرة. وهكذا، صار المسرح عنده منبرًا يوميًا للناس، تمامًا كالرغيف والكهرباء والماء.
بمغادرة زياد للمسرح في السنوات الأخيرة، خسرنا أحد أجرأ الأصوات النقدية في لبنان. لم يجرؤ أحد بعده أن يسخر من الطوائف بهذه الوقاحة الفكرية، أو أن يُعرّي الأحزاب دون خوف. لقد واجه الجميع، من الميليشيات إلى زعماء الطوائف، ومن الإعلاميين إلى المثقفين المزيفين. ولم يكن يخاف سوى من الناس أنفسهم، حين يصمتون. المسرح اللبناني بعد زياد دخل مرحلة الانحدار، فصار أقرب إلى عروض الترفيه الرخيص، لا مواجهات الوعي. ومع كل أزمة يعيشها اللبناني اليوم، يتذكر تلك الجملة الخالدة من مسرحيته: “شو يعني سرقونا؟ عادي… كانوا عم يمزحوا معنا!” هذه العبارة وحدها تختصر لبنان في زمن الانهيار.
- زياد الرحباني والفراغ الثقافي في لبنان بعد رحيله
زياد لم يكن مجرد فنان عابر في سجلّ الغناء والمسرح، بل كان “بوصلة ثقافية” كاملة. برحيله، لم يخسر اللبنانيون صوتًا فنيًا فقط، بل خسروا مرشدًا فكريًا، وعيًا حيًا، ومقاومًا بالفكر. كان زياد يمثل أحد أعمدة “الثقافة الممانعة الحقيقية“، التي لا ترفع شعارات، بل تحفر في العمق. ولأنه لم يهادن أحدًا، بقي دائمًا خارج المؤسسة الثقافية الرسمية، ولم يُحتضن من الدولة التي احتفت بصغار الفنانين وأهملت الكبار. وها نحن اليوم نواجه رحيله وسط تصحّر ثقافي شامل، لا يملأه أحد. الإعلام مشغول بالتفاهات، والمسرح خاوٍ، والموسيقى بلا روح. زياد كان آخر الأصوات التي تُربك السلطة وتُثير الرأي العام بذكاء.
لبنان، البلد الذي يُنتج الكارثة كل يوم، لا يعرف كيف يصون رموزه. منذ سنوات، رحل الكبار واحدًا تلو الآخر، ولم تتوقف عجلة الرداءة. لكن رحيل زياد مختلف، لأنه لا يُعوّض. هو لم يترك تلامذة، لأن لا أحد استطاع أن يُقلده دون أن يسقط في السطحية. كان فنانًا صعبًا، معقدًا، صادقًا حد القسوة. لم يترك مدارسًا أو جوائزًا أو مؤسسات باسمه، بل ترك لنا سؤالًا مرًّا: من يُفكر فينا بعده؟ من يقول “لا”؟ من يجرؤ على مواجهة القطيع؟ في مجتمع فقد القدرة على الصراخ، كانت موسيقاه ومسرحه آخر ما تبقى من ذاكرة الصوت الحرّ. واليوم، كل دقيقة صمت بعده، هي دقيقة فراغ من المعنى.
الأجيال الجديدة التي لم تعاصر زياد بشكل مباشر، ستعود إليه حتمًا، لأن أعماله لا تموت. لكن ما يخيف هو أن يتحول هذا الإرث إلى “نوستالجيا“، لا إلى وعي نقدي. يجب أن نقرأ زياد لا كحنين بل كمشروع، أن نُدرّسه في الجامعات لا أن نبكيه في الجنازات. لأن غيابه ليس فقط مناسبة للرثاء، بل فرصة لإعادة طرح الأسئلة التي ظلّ يكررها طوال حياته: ما هو الوطن؟ من يحكمنا؟ لماذا نسكت؟ لماذا نستمر في العيش على هامش الحقيقة؟ هذا هو إرث زياد الحقيقي: أنه ترك لنا مسؤولية التفكير، والاختيار بين الصمت أو الرفض، بين القطيع أو الحرية. وفي لبنان الذي يتهاوى كل يوم، هذا الفراغ الذي خلّفه زياد يبدو أكثر امتلاءً من أي حضور آخر.

- الخاتمة
في حضرة الكبار، لا تكفي كلمات الرثاء، ولا تنفع المبالغات. زياد الرحباني لم يكن نجمًا، بل ظاهرة. لم يكن موسيقيًا فقط، بل مفكرًا. لم يكن يساريًا عابرًا، بل حامل مشروع ثقافي تحرري. وحين يغيب أصحاب المشاريع، تسقط البلاد في الفراغ. فراغ لا يُملأ بالفن التجاري، ولا بالشعارات، ولا بالصراخ. بل يُملأ بإرثه، وبالعودة إلى ما كتبه، وما قاله، وما غنّاه. زياد لا يحتاج إلى تمثال، بل إلى ذاكرة حية تحفظ المعنى الذي قاتل من أجله. وحين نقول إن رحيل الكبار لا يُقاس بالفقد بل بالفراغ، فإننا نقول الحقيقة، لأن رحيله فجّر فينا سؤالًا موجعًا: من بعدك يا زياد؟