د.حنان حسن بلخي
بين 23 و 25 تموز الحالي، زارت لبنان د. حنان حسن بلخي المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة الإعلامية. عن هذه الزيارة والإنطباعات التي خرجت بها، كتبت المقال التالي الذي يُستشف منه الكثير، سواء عما شاهدت وسمعت، أو عن الخطوات المستقبلية الجاري إعدادها والتحضير لها.في ما يلي المقال الموزّع الصادر عن المكتب الإعلامي الإقليمي العائد لمنظمة Who.
خلال زيارتي الأخيرة إلى لبنان،تقول د.بلخي، وقفت وسط رُكام أحد مراكز الرعاية الصحية الأولية التي تعرّضت للقصف في الضواحي الجنوبية لبيروت. والتقيت بأمهات يبذلن قصارى جهدهن للحفاظ على صحة أطفالهن في ظل ارتفاع الأسعار وتضاؤل الخيارات المتاحة. ولمست العزيمة الصامتة لدى العاملين الصحيين الذين يواصلون أداء عملهم يوميًّا وخدمة أبناء مجتمعهم.
لقد ناقشتُ مع القيادات الوطنية الأولويات الصحية العاجلة للبنان، وأوّلها العبء المتزايد الناجم عن تعاطي مواد الإدمان. كان لقائي الأول مع رئيس الجمهورية، والحاجة الماسة إلى الحصول على الأدوية. ثم مع رئيس مجلس النواب، فمع السيدة الأولى التي تحدثتٌ معها عن الحاجة إلى توفير الرعاية الشاملة لمرضى السرطان. كما بحثت الدور الحاسم للسلطة التنظيمية الوطنية مع وزير الصحة العامة.
كذلك التقيتُ،تابعت تقول، وزير المالية الذي يعمل بلا كلل أو ملل في ظل أوضاع مالية بالغة التعقيد. وناقشنا الحاجة إلى تخصيص أبواب للصحة في ميزانية جميع الوزارات المعنية لضمان تناول القضايا الصحية المتداخلة بمزيد من الفعالية على نطاق الحكومة بأكملها.
كما استمعتُ إلى آراء الشركاء من منظومة الأمم المتحدة، والأوساط الأكاديمية، والمجتمع المدني، الذين يعملون بدأب لحماية الصحة، وتوفيرها، وتعزيزها في ظل الأزمات المتشابكة التي تشهدها البلاد.
أضافت : “في كل زاوية وركن قمت بزيارته، تملكني الإعجاب بالطاقات الكامنة العظيمة في هذا البلد، وقدرات مواطنيه، والأمل الذي لا يزال يحمله هذا البلد نحو المستقبل. غير أنني مدركة تمامًا التحديات الجسيمة التي يواجهها لبنان: فهناك نزاعات دائرة، وتراجع اقتصادي حاد، ونظام رعاية صحية مثقل بالأعباء، إلى جانب أحد أكبر المعدلات العالمية لاستضافة اللاجئين بالنسبة إلى عدد السكان. مع ذلك، أظهر القطاع الصحي قدرةً هائلةً على الصمود، ولكن الاحتياجات كبيرة ومتنامية. وهناك طلب مُلِح على توفير الرعاية للمصابين بالرضوح، وخدمات الصحة النفسية، والأدوية الأساسية، وإعادة التأهيل، والمنتجات المساعدة للأشخاص ذوي الإعاقة، علماً أن معظم المستشفيات يعمل بنصف طاقته بسبب قيود مالية. وقد حال تردِّي البنية التحتية دون حصول الملايين على مياه نظيفة ومأمونة، مما يجعل الكوليرا والإسهال المائي الحاد يشكلان تهديدًا مستمرًّا للسكان. وتتزايد احتياجات الصحة النفسية بشكل كبير، لا سيّما في صفوف أولئك الذين فقدوا منازلهم أو أحباءهم. ويؤثر انعدام الأمن الغذائي الآن على أكثر من خُمس السكان. وتتفاقم صعوبة التدبير العلاجي للأمراض غير السارية التي تمثل فعليًّا السبب الرئيسي للوفاة، مع انقطاع الحصول على الأدوية وتوقف استمرارية الرعاية”.

ويتجاوز مجموع فاتورة التعافي وإعادة إعمار قطاعي الصحة والمياه 600 مليون دولار. غير أن الموارد المالية للدولة منهكة بشدة، وأقل من نصف المتطلبات الصحية الواردة في خطة لبنان للاستجابة لعام 2025 حصلت على التمويل اللازم، بينما تبدو الآفاق أشد قتامة للعام المقبل.
ويمكن القول بإيجاز إن لبنان بحاجة ماسة إلى الاستثمار المحلي والدولي على حد سواء في مجال الصحة. ولكن الحيز المالي محدود للغاية، ولم يستجب المجتمع الدولي بعدُ على النطاق المطلوب. مع ذلك، يمكن رصد بعض التقدم المحرز. فقد أطلقنا، بالتعاون مع وزارة الصحة العامة، استراتيجية التعاون القُطري بين منظمة الصحة العالمية ولبنان 2026-2029، وهي خريطة طريق لتحقيق الأمن الصحي وتعافي النظام وإصلاحه، واتخاذ إجراءات بشأن مُحدِّدات الصحة، بما يشمل صحة البيئة.

الى ما تقدّم، تتابع د. بلخي: يُجري لبنان أيضًا استعراضًا لاستراتيجيته الوطنية لمكافحة السرطان، في إطار الجهود الرامية إلى التصدي لواحد من أعلى أعباء السرطان في الإقليم. ويتصدر الأمن الصيدلاني جدول الأعمال عن جدارة، مع وجود خطط جارية لإنشاء هيئة لبنانية للأدوية. فلا يمكن لأي نظام صحي أن يعمل دون إتاحة أدوية عالية الجودة وميسورة التكلفة. كذلك، يجري حاليًّا تحديث الاستراتيجية الوطنية المتعددة القطاعات بشأن تعاطي مواد الإدمان. ولا يزال يمكن تغيير مجرى الأمور عن طريق الاستثمار الحكيم، والتضامن الدولي، والالتزام الجاد في مجال الصحة العامة انطلاقًا من القاعدة الشعبية. ختمت قائلة: أمامنا فرصة محدودة لكنها بالغة الأهمية قبل أن تزداد الاحتياجات تعقيدًا وتغدو نتائج التقاعس عن العمل غير قابلة للإصلاح. بيد أن استمرار التقدم يتوقف على توفر قدر من الاستقرار يكفي لاستعادة ثقة المستثمرين، واجتذاب المهنيين الصحيين المهرة إلى وطنهم مجدَّدًا، وإعادة بناء نظام صحي كان يعتبر في السابق أحد أفضل النُّظُم الصحية في الإقليم.

وبرغم كل تلك الظروف، فإن منظمة الصحة العالمية تقف بثبات إلى جانب لبنان. وسنواصل العمل إلى جانب السلطات الوطنية والشركاء لحماية الصحة، وتعزيز النُّظُم، وضمان ألا يتخلف أحد عن الركب.