د. غالب خلايلي في “كيبيك” الفرنسية
يتابع رحلته السياحية والثقافية في كندا:
الساحر “اريك” داس على سيف قاطع
واستلقى على “وسادة” مسامير حادة!
شلالات كيبيك أقل شهرة من نياغارا
لكنها تتميّز بارتفاعها الشاهق
واطلالاتها الخلاّبة… (الحلقة الخامسة)

رسام في شارع بيتي شامبلان

د. غالب خلايلي

قد يسأل سائل: لماذا كندا؟ ولماذا كل هذه المقالات؟ وماذا تهمّنا أصلاً، ونحن في ألف انشغالٍ وشأنٍ وهمّ؟ والجواب بسيط.

أولاً: كندا بلد مَهْجَرٍ كبير غير عادي، متقدم وحضاري، وقد يكون بلدَك يوما ما (ورجائي ألا تضطر)، ثم إن ما أكتبه ليس درساً في الجغرافيا أو التاريخ، بل نبضاً أدبياً صادقاً ينقل صورة عالم يشبه كثيراً عوالم أميركا وأستراليا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، كما أخبرني بعض قرائي (وبعضها عريق في الاستعمار بأشكاله).

وثانياً: لا شيء آخر أعمله في إجازتي عند ابنتي البكر، ولو تكرّمتْ عليّ دول غير كندا بِسِمة دخول لما قصّرتُ في نقل نبضها.

***

الاتجاه شمالاً إلى فرنسا الجديدة
بعد الإفطار “الترمبلاني!”، من بيض وجبن وزيتون وشاي، حزمنا أمتعتنا صباح الإثنين 28 تموز 2025 في تمام الحاديةَ عشرةَ (الوقت المتعارف عليه لإخلاء النُزُل)، مغادرين المبنى الجبلي الجميل الذي مكثنا فيه يومين من أجمل الأيام، واتجهنا إلى كيبيك سيتي، التي تبعد 368 كم عنا (نحو أربع ساعات)، وهي تقارب المسافة بين دمشق وحلب.
وصلنا عصراً إلى وسط المدينة، واتجهنا إلى مطعم كمبودي يدعى (Bati) حسب رغبة كُبرى الحفيدتين، وتشاركْنا وجباتٍ مختلفةً كان معظمها جديدا علينا، ما بين حلو ومالح وحامض وحار، يختلف كثيراً عن طعامنا العربي. تجربة لا بأس بها.

بعدها اتجهنا إلى نُزُل حجزه صهرنا العزيز ومنسّق رحلتنا، فوضعنا حقائبنا واسترحنا، ثم انطلقنا في طرقٍ قديمة خالية معتمة في المساء، محبطة إلى حد ما، تحيط بها أبنية قديمة، إلا أننا بعد مسيرة نصف ساعة صعوداً متعباً، وجدنا أنفسنا في غير عالم تماما.. عالم كرنفالي بهيج مليء بالبشر في شارع مزدحم يضجّ بالحياة والناس والألوان والمحال التجارية.

إنه شارع شامبلان الصغير Rue du Petit-Champlain:
وهو أقدم شارع تجاري في أميركا الشمالية، ويعود تاريخه إلى بداية الاستعمار الفرنسي (ويا لنشاط هذا الاستعمار، وعديقه البريطاني “العين مقصودة هنا”، في أماكن مختلفة من العالم!) شاهداً على ولادة فرنسا الجديدة. هو شارع ضيق مرصوف بالحجارة السوداء، ومليء بالمباني القديمة والمتاجر الفريدة والمصنوعات المحلية، مما يجعله وجهة ساحرة للتسوّق والمشي في أي فصل.

لمحة عن كيبيك أو كباك Québec:
في عام 1608 م أسس المستعمر الفرنسي صامويل دي شامبلان أول مستعمرة كندية دائمة لفرنسا “كيبيك”. وسرعان ما أنشأ الفرنسيون المزيد منها في المنطقة، وأطلقوا عليها اسم “فرنسا الجديدة”.

وكيبيك هي ثاني أكبر أقاليم كندا مِساحةً، عاصمتها كيبك سيتي، وأهم مدنها مونتريال.

أما معنى “كيبيك” عند السكان الأصليين فهو المكان الذي يضيق فيه النهر (نهر سان لوران) تدريجياً.

تقع كيبيك شرق كندا بين أونتاريو وأقاليم المحيط الأطلسي، ولها حدود مع الولايات المتحدة في الجنوب، فيما يعبرها نهر سان لوران (الممتد من بحيرة أونتاريو إلى المحيط الأطلسي). مساحتها نحو 1.55 مليون كم مربع ويقطنها 8 ملايين نسمة من أغلبية فرنكوفونية (وأقلية أنغلوفونية ومن بقي حياً من السكان الأصليين)، ولهذا تسود اللغة الفرنسية.

والعاصمة كيبيك أوروبية الطابع، ووجهة سياحية غنية بالمعالم التاريخية والطبيعية والثقافية، ومن أبرزها، عدا الشارع الذي ذكرنا:

-المدينة القديمة Old Quebec: وتُعدّ موقعًا تراثيًا عالميًا لليونسكو، وتضم ساحة رويال التي تمثل المركز التجاري التاريخي، وتضم أجواء فرنسا المُعاد تجسيدها.

–قلعة كيبيك (La Citadelle de Québec): منشأة عسكرية أعلى رأس الماس (Cap Diamant)، وهو الزاوية عند انحناء نهر سان لوران بجوار سهول أبراهام (صاحب أرض)، وبها تقع كيبيك. تشكل القلعة جزءا من تحصينات المدينة، وهي واحدة من مدينتين في أميركا الشمالية لا تزال محاطة بالتحصينات (الأخرى في المكسيك). وقد أدرك الفرنسيون الأهمية الاستراتيجية لهذا المكان في وقت مبكر من عام 1608م، فتم بناء التحصينات الدفاعية في الموقع من قبلهم، ثم من قبل البريطانيين بعد غزوهم ل “فرنسا الجديدة”. تم بناء القلعة الحديثة بين  1820 و 1850، في محاولة لتأمين كيبيك ضد هجوم أمريكي محتمل، الأمر الذي لم يتم.

استخدم البريطانيون القلعة حتى عام 1871م عندما سلموا الملكية رسميًا إلى الحكومة الكندية، فاستُخدمت منشأةً عسكرية من قبل القوات المسلحة الكندية، ومقر إقامة ملكي ونائب ملكي.

فندق فيرمونت لو شاتو فرونتيناك الأفخر في العالم
Fairmont Le Château Frontenac

يُعدّ فندق فرونتيناك الفاخر أشهر معلم في كيبيك. وقد أخذ اسمه من أول حاكم فرنسي. صُمّم أواخر القرن 19، ليعكس فخامةً قصوى تتماشى مع محيطه التاريخي. وعندما بدأ المسؤولون التنفيذيون في شركة السكك الحديدية الكندية الباسيفيكية أعمال البناء عام 1892، كان هدفهم فندقًا مرموقًا. وكيبيك (بفضل مينائها الذي يستقبل السفن من أوروبا والولايات المتحدة، وشبكة القطارات فيها) هي الموقع الأمثل.

في البداية، استلهم المعماري النيويوركي بروس برايس التصميم من قصور وادي لوار الفرنسي، إذ أراد مالكو الفندق إضفاء طابع فرنسي. وُسِّع الفندق أربع مرات بين عامي 1897 و1993، فزاد عدد غرفه من 170 إلى 618 غرفة. هذا وفي الفندق 12 كم من الممرات، و2000 نافذة على نهر سان لوران والحدائق، ويجنى 650 لتراً من العسل سنويا من خلايا في حدائقه، ناهيك عن أنه الموقع الأكثر تصويرا في العالم.

وقد شهد الفندق أحداثا تاريخية مهمة:
1. زيارة ملك إنجلترا، جورج السادس عام 1939 دعما لشركة كنديان باسيفيك. وصل الملك والملكة على متن سفينة “إمبراطورة أستراليا”، إحدى سفن الشركة، واستضافتهما حكومتا كيبيك وكندا في قاعة الطعام المرموقة بالقصر (غُطيت طاولات الضيوف ال 350 بالورود، وقُدِّم سمك السلمون المرقط اللورنطي ولحم الضأن الكيبيكي على أنغام موسيقى جمعية كيبيك السيمفونية).
2. استضافت كندا عام 1943 الوفدين البريطاني والأميركي إلى مؤتمر كيبيك “كوادرانت”. وهنا اتخذ تشرشل وروزفلت قرارات حاسمة بشأن الحرب العالمية الثانية (أهمها مكان إنزال الحلفاء على شواطئ نورماندي في 6 يونيو 1944).
3. استضافت كندا عام 1985 الرئيس الأميركي رونالد ريغان في القصر وأبرمت اتفاقية التجارة الحرة بين كندا والولايات المتحدة عام 1987.

مع الساحر العجيب إريك في ساحة القصر:
وكأنّنا كنّا على موعد مع Eric الساحر الأسترالي، كما عرّف نفسه، والذي أدى أعمالاً خارقة بحضور عائلي كبير صفق له كثيراً، ووضع عشرات الدولارات في كيسه في الختام (ترى أتسمنه أم تغنيه من جوع؟ لدي شك).

والحق أنه بالغ بالمخاطرة عندما داس بقدميه العاريتين على سيف حاد قاطع، وعندما استلقى فوق “وسادة” مسامير حادة، وابتلع النار. كان بارعا حقا، خفيف الوزن والحركة والظل معا، بثلاث لغات: الفرنسية والإنجليزية والحركية.
وقريبا منه، قبل الوصول إلى الساحة، شهدنا رساماً بارعاً يرسم وجوه الراغبين، وصادف مرورنا سيدة شقراء جميلة (أربعينية؟) يرسمها وعزيز عليها، على ما بدا لي، ربما كان بعلها الراحل أو الحي، لا أعلم، وقد رحّبت بتصويري لها.

ونحن في ختام المشي، نفكر بالخطوة التالية، وكان الظلام قد حل في التاسعة ليلا، بدأ البرق والرعد، بموعد لم نعرْه اهتماماً، فجلسنا تحت مظلة وعائلة مهاجرة من جبيل الفينيقية اللبنانية، وإذ زخ المطر أكثر هربنا إلى إحدى قاعات فندق فيرمونت القريب، وعدنا إلى النزل مع سائق (أوبر) أفريقي من الكاريبي، وعندما وصلنا كان التعب قد حل بنا، فنمنا بانتظار الصباح والكلام المباح، عند شلالات كيبيك.
شلالات مونتمورنسي Montmorency Falls :
تشتهر كندا بشلالات نياغارا الكبيرة الغزيرة في الجنوب المحاذي للولايات المتحدة، وتجني منها كهرباء مهمة جدا، وحركة سياحية لا تهدأ.

على أن شلالات كيبيك الأقل شهرة تتميز بارتفاعها الشاهق وإطلالاتها الخلابة، من خلال جسر كبير معلق فوقها، ذكرني كثيرا بالجسر المعلق في دير الزور، قبل أن يهدم.

والحق أنها كانت رحلة جميلة (مدفوعة الثمن لمن هم دون الخامسة والستين!) إلى هذا الشلال، صعودا بالتلفريك، ثم مشيا فوق الجسر الذي يعلو الشلال، ثم هبوطا على الأدراج الطويلة والمساحات الخضراء بين أحضان الجبل حيث لا يتوقف هدير الشلال مشكلا خلفية موسيقية للرحلة الطويلة عودةً إلى المحطة بعد ساعتي مشي، لننطلق منها إلى مونتريال، معرجين في الطريق على قرية جميلة، قيل لنا إن فيها مصنع أجبان شهيرا، كونه طبيعيا تماما، وهو يبيع منتجاته في محل صغير على الطريق، مع مربيات هي نتاج المزارع ذاتها، مثل مربى الفريز والكرز، وشراب القيقب. على أن بضع شرائح جبن مع بعض شرائح خبز بيعت بثلاثين دولارا! (يمكنك بهذا المبلغ شراء ما لا يقل عن 2 كيلو من الجبن حسب نوعه، مع كيس خبز كبير من أغلى الأنواع، حتى في أبو ظبي). حقا إنها طيبة، لكنها غالية جدا، في بلد أخبرتكم سلفاً أنه شديد الغلاء.

هذا وقد تفضلت البائعتان الخمسينيتان مشكورتين بملء عبوتي ماء لنا من بئر محلي (سعة نصف لتر لكل عبوة)، إذ لم نجد مصدر مياه آخر، فشربناهما من شدة عطشنا، حلالاً زلالاً سائغاً، لا مثيل لهما سوى نبع بقين وبلودان والفيجة، حسب خبرتي، إلا أن تعبئتهما مرة جديدة كاحتياط للطريق لم تكن بالأريحية ذاتها أول مرة.

ماذا لو عاش هؤلاء، الذين يكادون يسبحون في الماء، بلا ماء يوماً أو بعض يوم، فيما تعيش شعوب “على بعل“ ولا تبخل بقطرة ماء؟

ماذا لو حرمت من الكهرباء والطعام أيضا؟

دمتم بخير

مسساجا 5 آب 2025