تجمعات للمودعين أمام أحد المصارف
د. الياس ميشال الشويري
منذ اندلاع الأزمة المالية والمصرفية في لبنان عام 2019، برزت الحاجة إلى إطار قانوني ينظّم إعادة هيكلة القطاع المصرفي المترهل ويواجه العجز الهائل في السيولة. وفي هذا السياق، جاءت المادة 37 من قانون إصلاح المصارف كإحدى النقاط الأكثر إثارة للجدل، إذ تمنح السلطات أدوات قانونية قد تُستخدم لإعادة رسملة المصارف أو شطب بعض الالتزامات، بما في ذلك أموال المودعين. ورغم أن الهدف المعلن هو حماية النظام المصرفي واستعادة الاستقرار المالي، إلا أن التطبيق العملي لهذه المادة يثير مخاوف حقيقية من تحميل المودعين الجزء الأكبر من الخسائر، في ظل غياب ضمانات قوية لحقوقهم وضعف الثقة بالمؤسسات الرسمية.
هذا المقال يسعى إلى تحليل هذه المادة بعمق، واستكشاف مخاطرها المحتملة على المودعين، ومقارنتها بتجارب دول أخرى، لرسم صورة شاملة عن التحديات التي قد تترتب على تنفيذها.

- الإطار القانوني للمادة 37 ومضمونها
المادة 37 من قانون إصلاح المصارف في لبنان تمثل جزءًا من التشريعات التي تهدف إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي المتعثر. تنص هذه المادة على صلاحيات واسعة للمصرف المركزي أو الهيئة المعنية بإعادة هيكلة المصارف، تشمل إعادة تقييم الأصول، تحديد حجم الالتزامات، وإعادة توزيع الخسائر بين المساهمين والدائنين والمودعين. الصياغة القانونية تبدو فضفاضة في بعض النقاط، ما يفتح الباب لتفسيرات متعددة قد تؤثر على سلامة التطبيق. هذه الصلاحيات، إذا لم تقترن بضوابط رقابية وقضائية قوية، قد تتحول إلى أداة لتصفية الديون على حساب أموال المودعين، خاصة في ظلّ غياب الشفافية التي لطالما وُجهت انتقادات للبنان بسببها.
من الناحية التقنية، المادة تتيح ما يعرف بـ”قص الشعر” على الودائع (Haircut) كإجراء لتوزيع الخسائر، وهو ما قد يُبرر في إطار إنقاذ المصارف لكن على حساب الثقة الشعبية بالنظام المصرفي. النص لا يضع سقفًا واضحًا لنسبة الاقتطاعات، ولا يحدد آليات تعويض المودعين الصغار، الأمر الذي يثير مخاوف من تحميلهم عبئًا يفوق قدرتهم على التحمل. هذه المخاوف تزداد حدّة مع تراجع قيمة العملة الوطنية وتآكل القدرة الشرائية، ما يعني أن أي اقتطاع فعلي سيضاعف الخسارة الحقيقية للمودعين.
النقطة الأخطر في المادة تكمن في إمكانية تطبيقها بأثر رجعي على ودائع قائمة قبل صدور القانون، وهو ما يشكل خرقًا لمبدأ حماية الحقوق المكتسبة. في الأنظمة القانونية السليمة، مثل هذه الإجراءات تتطلب موافقة صريحة من أصحاب الحقوق أو تدخلًا قضائيًا صارمًا، لكن التجارب السابقة في لبنان تظهر ضعف القضاء في مواجهة المنظومة المالية والسياسية الفاسدة. وعليه، فإن الخطر القانوني يتجاوز النص نفسه إلى البنية المؤسسية التي ستشرف على تنفيذه، حيث يمكن لأي ثغرة أو استنسابية أن تُفقد المودعين كامل ثقتهم بما تبقى من النظام.
- المخاطر المباشرة على المودعين
تطبيق المادة 37 دون ضمانات كافية سيؤدي إلى تآكل مباشر في أموال المودعين، خاصة إذا تم اللجوء إلى اقتطاعات واسعة أو تحويل الودائع القسرية إلى أسهم في مصارف متعثرة. هذه الآلية، المعروفة بالـ”Bail-in“، قد تُسوّق كحلّ لإعادة رسملة المصارف، لكنها في الواقع تنقل عبء الخسائر من المساهمين والمسؤولين عن سوء الإدارة إلى المودعين الذين لم يشاركوا في صنع الأزمة. الأخطر أن هؤلاء المودعين، بعد تحويل ودائعهم إلى أسهم، قد يجدون أنفسهم شركاء في مؤسسات مفلسة بلا قيمة سوقية حقيقية.
المودعون الصغار هم الأكثر عرضة للخطر، إذ لا يمتلكون القدرة القانونية أو السياسية للدفاع عن حقوقهم. في غياب شبكة أمان اجتماعي أو نظام فعال لضمان الودائع، فإن خسارة حتى جزء بسيط من مدخراتهم قد تدفعهم إلى الفقر أو العجز عن تلبية احتياجاتهم الأساسية. هذا الانعكاس الاجتماعي قد يؤدي إلى اضطرابات واسعة، خصوصًا إذا ترافق مع شعور عام بأن الدولة تحابي كبار المودعين أو السياسيين المرتبطين بالمصارف.
جانب آخر من المخاطر هو انهيار الثقة بشكل كامل بالنظام المصرفي، ما سيدفع أي تدفقات نقدية جديدة إلى الخروج فورًا من لبنان بدل الاستثمار فيه. هذا الانكماش في القاعدة الائتمانية سيشلّ الاقتصاد، ويجعل أي خطة إنقاذ لاحقة أكثر صعوبة. وبما أن الثقة تُبنى ببطء وتُفقد بسرعة، فإن أي تطبيق متسرع أو غير عادل للمادة 37 سيترك أثرًا طويل الأمد، قد يتجاوز جيل المودعين الحالي ليؤثر على الأجيال المقبلة.
- البعد السياسي والاقتصادي لتطبيق المادة
القطاع المصرفي في لبنان ليس مجرد مؤسسات مالية، بل هو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلطة السياسية. أي إجراء يعيد توزيع الخسائر سيتأثر حتمًا بالتوازنات السياسية والطائفية، ما قد يحول المادة 37 إلى أداة لتصفية حسابات أو حماية مصالح معينة. هذا التداخل بين الاقتصاد والسياسة يضاعف من خطر الانحراف عن الأهداف المعلنة للإصلاح.
من الناحية الاقتصادية، أي إجراء يستهدف أموال المودعين سيؤثر مباشرة على الاستهلاك المحلي والاستثمار. فالمودع الذي يخسر جزءًا من أمواله سيتجه إلى تقليص إنفاقه، ما يفاقم الركود. ومع تراجع النشاط الاقتصادي، ستتراجع إيرادات الدولة الضريبية، ما يضعها أمام خيارين: مزيد من الاستدانة أو مزيد من التقشف، وكلاهما يحمل أعباء إضافية على المواطنين.
الأثر النفسي لا يقل أهمية عن الأثر المادي. اللبنانيون الذين عايشوا تجارب الخسائر المصرفية في السنوات الأخيرة باتوا أكثر حساسية تجاه أي إجراء يمسّ ودائعهم. هذا القلق قد يتحول إلى موجات احتجاج أو حتى إلى هجرة جديدة لرؤوس الأموال والكفاءات. وعليه، فإن تطبيق المادة 37 دون خطة واضحة لطمأنة الرأي العام سيكون بمثابة وصفة مؤكدة لفقدان الاستقرار.

- تجارب دول أخرى في ظروف مشابهة
قبرص عام 2013 واجهت أزمة مصرفية حادة دفعتها إلى تطبيق ما يشبه المادة 37 اللبنانية، حيث فرضت اقتطاعات على الودائع التي تتجاوز 100 ألف يورو، وحولت جزءًا منها إلى أسهم في المصارف المتعثرة. النتيجة كانت فقدان الثقة لسنوات طويلة، رغم أن الدولة وفرت لاحقًا ضمانات للمودعين الصغار. التجربة أظهرت أن غياب الشفافية يضاعف من حدة الصدمة، حتى لو كانت الإجراءات ضرورية اقتصاديًا.
اليونان خلال أزمتها المالية فرضت قيودًا صارمة على السحب والتحويلات، لكنها تجنبت الاقتطاع المباشر على الودائع الصغيرة، ما ساعد على الحفاظ على حد أدنى من الثقة. بالمقابل، تم تحميل المودعين الكبار جزءًا من الخسائر عبر أدوات مالية طويلة الأجل، وهو ما حدّ من الانهيار الاجتماعي، رغم استمرار الأزمة الاقتصادية لسنوات.
في الأرجنتين عام 2001، أدى تجميد الحسابات البنكية ومنع السحب إلا بمبالغ صغيرة أسبوعيًا إلى انهيار الثقة التام بالنظام المصرفي، وهروب رؤوس الأموال، واضطرابات سياسية واسعة. هذه التجربة تُظهر أن الإجراءات القسرية على الودائع، إذا لم تقترن بإصلاح شامل وبناء للثقة، تتحول إلى شرارة لانهيار شامل يتجاوز القطاع المالي ليشمل النظام السياسي برمته.

- الخاتمة
المادة 37 من قانون إصلاح المصارف في لبنان تقف على مفترق طرق حاسم بين أن تكون أداة إنقاذ مدروسة للقطاع المصرفي أو أن تتحول إلى فخ قاتل للمودعين. التجارب الدولية تثبت أن تحميل المودعين عبء الخسائر دون حماية صغارهم أو ضمان الشفافية يؤدي إلى انهيار الثقة وضرب الاقتصاد على المدى الطويل. في الحالة اللبنانية، حيث الثقة بالمؤسسات ضعيفة أصلًا، فإن المخاطر تتضاعف، ما يستدعي مقاربة دقيقة تتضمن خطة تعويض عادلة، وإصلاحات هيكلية حقيقية، وإطارًا رقابيًا صارمًا. وإلا، فإن المادة 37 قد تُسجّل في التاريخ كنقطة فاصلة في انهيار ما تبقى من العقد الاجتماعي بين الدولة (التي يديرها لصوص من الدرجة الأولى) ومواطنيها.