رئيس الوزراء الهولندي مارك روته يتنقل على دراجة هوائية
د. الياس الشويري
حين نتأمل الخطاب السائد في المجتمعات المتقدمة مثل اليابان أو السويد، نلاحظ غياب الحديث عن الشيطان كعنصر مفسر للشرور أو سبب للفشل. هناك لا يحتاج الناس إلى تعليق الأخطاء على شماعة غيبية، بل يتعاملون مع الأزمات كنتاج طبيعي للخيارات والسياسات البشرية. أما في العالم الثالث، فإن الشيطان حاضر في الخطاب اليومي والسياسي والاجتماعي كجزء من منظومة تبرير العجز، بحيث يتم تصويره كقوة مطلقة تتلاعب بالعقول وتُفسد المجتمعات. هذه المقارنة تكشف أن الشيطان ليس مجرد كائن أسطوري يُسكنه البعض في عوالم غيبية، بل هو رمز ثقافي واجتماعي يزدهر حيث يسود الجهل وتنهار مؤسسات الرقابة، ويغيب حيث يعترف الإنسان بمسؤوليته عن أفعاله ويعتمد على العقل والعلم. لذلك، فإن البحث في مسألة “غياب الشيطان” عن المجتمعات المتقدمة ليس بحثًا في اللاهوت، بل هو تحليل لظاهرة مرتبطة بالوعي الجمعي، حيث يغدو الشيطان مؤشرًا على مستوى تطور المجتمع، أكثر مما هو حقيقة دينية.
- الشيطان كرمز للهروب من المسؤولية
في الدول المتقدمة، ينهض الفرد والمؤسسات بمسؤولياتهم تجاه الأخطاء التي تُرتكب. فإذا وقع خلل صناعي أو كارثة طبيعية، فإنّ الدولة تجري التحقيقات اللازمة، وتُحاسب المقصرين، وتعمل على إعادة بناء الثقة بين المواطن والسلطة. أما في العالم الثالث، فإن السلوك السائد هو البحث عن شماعة غيبية تُعلَّق عليها الأخطاء. هنا يظهر الشيطان كرمز للهروب من مواجهة الواقع، فيُقال مثلًا إنّ الفتنة من فعل إبليس، أو إنّ الانهيار الاقتصادي نتيجة حرب شيطانية ضد الأمة، أو إنّ الفساد من غوايات الشر. هذا الخطاب يريح الناس من ثقل الاعتراف بالذنب، لكنه في الوقت ذاته يكرّس التخلّف، لأن مواجهة الأخطاء هي السبيل الوحيد لتجاوزها، بينما الهروب منها يعمّقها أكثر. لذلك، يغيب الشيطان عن اليابان والسويد لأن المواطن هناك اعتاد منذ الصغر أن يُحاسب نفسه، وأن يعترف بخطئه، وأن يُصلح ما أفسده. أما في العالم الثالث، فقد تربى على ثقافة الاتكالية، حيث يُلقى باللوم على قوى خفية بدل مواجهة الواقع.
حين ننظر بعمق إلى المجتمع العربي أو الإفريقي أو بعض دول آسيا، نرى كيف يتم استدعاء الشيطان لتفسير الفشل السياسي والاجتماعي. في الانتخابات المزوّرة يُقال إن الشيطان فرّق الناس، وفي النزاعات الطائفية يُقال إن إبليس لعب دوره، وفي فساد الحكومات يُقال إنها غواية من قوى الشر. هذه الذهنية لا تُعفي الفاسدين فقط من المسؤولية، بل تُعفي الشعوب أيضًا من واجب المقاومة والتغيير، لأنهم يُقنعون أنفسهم بأنّ الأمر خارج عن إرادتهم. وهنا يتحوّل الشيطان من مجرد مفهوم ديني إلى مؤسسة متكاملة تُدار لصالح الطبقة الحاكمة، التي تستثمر فيه لتغطية فشلها وتبرير قمعها. في المقابل، حين ننظر إلى السويد أو اليابان، نجد أن الاعتراف بالمسؤولية جزء من الثقافة العامة، بحيث يستقيل الوزير إذا فشل، أو يعتذر علنًا إذا قصّر، ولا مكان للشيطان كذريعة تغطي تقصيره.
إنّ العلاقة بين حضور الشيطان وغياب المسؤولية علاقة عكسية واضحة. كلما زاد حضور الشيطان في الخطاب العام، تراجعت روح المسؤولية والمحاسبة، وكلما غاب الشيطان من المعادلة، تعاظمت ثقافة الإصلاح والاعتراف بالخطأ. ولذلك، فإن العالم الثالث لن يخرج من دوامة فشله إلا إذا ألغى من قاموسه عادة تعليق كل المصائب على قوى غيبية، واعترف بأنّ الحلول تكمن في إصلاح الذات، لا في مطاردة أوهام الشياطين.

- الشيطان كأداة سياسية واجتماعية
يُستَخدم الشيطان في العالم الثالث أداة سياسية بامتياز. فالأنظمة الاستبدادية بحاجة إلى قوة خفية تزرع الخوف في النفوس، وتُبرر القمع والسيطرة. من هنا يأتي الشيطان ليقوم بهذا الدور، حيث يتم تصوير كل معارض سياسي أو مفكر ناقد أو حركة احتجاجية على أنها “صنيعة الشيطان” أو “مؤامرة شيطانية”. بهذا الشكل، يصبح الشيطان شريكًا للسلطة، لأنه يُحوّل الغضب الشعبي من النظام الفاسد إلى عدو غيبي، لا يمكن مواجهته إلا عبر مزيد من الولاء للحاكم. أما في المجتمعات المتقدمة، فلا حاجة لاستدعاء الشيطان، لأن النظام السياسي مبني على الشفافية والمحاسبة، ولأن المواطن يستطيع مواجهة السلطة عبر القضاء أو الإعلام أو الانتخابات، من دون الحاجة إلى شماعات أسطورية.
الشيطان أيضًا حاضر بقوة في الخطاب الاجتماعي بالعالم الثالث. حين يعجز الأهل عن تفسير سلوك أبنائهم المختلف، أو حين يواجهون أمراضًا نفسية أو مشكلات اجتماعية، يلجؤون إلى فكرة المسّ أو السحر أو الشيطان. في اليابان مثلًا، يُعتبر هذا السلوك نوعًا من الجهل، لأن الطب النفسي والعلم يقدمان حلولًا واضحة لمثل هذه الحالات. أما في العالم العربي أو الإفريقي، فانتشار الشعوذة والدجل يعكس حضور الشيطان كعامل اجتماعي حاكم، يملأ فراغ العلم ويُعزز استغلال الضعفاء. إنّ الشيطان هنا ليس مجرد مخلوق غيبي، بل أداة تُوظفها بعض الفئات للاسترزاق والسيطرة على العقول، ما يساهم في تكريس الجهل وتفتيت المجتمع.
حين نضع هذه الصورة في إطارها الأوسع، ندرك أن استدعاء الشيطان سياسيًا واجتماعيًا هو وسيلة لإدامة بنية التسلط. فالشعب الذي يخاف من قوى غيبية لن يجرؤ على محاسبة حاكمه، والمجتمع الذي يصدق أنّ كل مشاكله من عمل إبليس لن يسعى إلى تطوير التعليم أو تعزيز البحث العلمي. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين العالم الثالث والدول المتقدمة: فالأولى ما زالت أسيرة الأساطير التي تُستغل لإخضاعها، بينما الثانية تحررت من هذه العقلية وبنت وعيها على أساس التجربة والعلم.
- الشيطان كحاجة نفسية في العالم الثالث
من الناحية النفسية، يمكن القول إنّ المجتمعات المتخلفة تحتاج إلى شيطان، لأنه يوفر لها مخرجًا سهلاً من مواجهة الذات. إنّ الاعتراف بأن الفقر سببه سياسات اقتصادية فاشلة، أو أن الجهل نتاج غياب التعليم، أو أن الاستبداد نتيجة خضوع طويل، يفرض مواجهة صعبة مع النفس ومع السلطة. لذلك، فإن إلقاء اللوم على الشيطان يوفر راحة نفسية كبيرة، لأنه يزيح المسؤولية عن الفرد والجماعة. في اليابان أو السويد، هذه الحاجة لا وجود لها لأن الثقافة التربوية تُعلّم الطفل منذ نعومة أظافره أن يتحمل نتائج أفعاله، وأن يعترف بخطئه ويُصلحه. أما في العالم الثالث، فإن الطفل يُربى على أن هناك دائمًا قوة خفية تتربص به، وأن فشله ليس ذنبه، بل ذنب قوة شريرة. بهذه الطريقة ينشأ عاجزًا عن التفكير الحر، وسهل الانقياد لأي سلطة تدّعي أنها تحميه من “الشيطان”.
هذا الاستخدام النفسي للشيطان يعكس هشاشة البنية الثقافية والاجتماعية للعالم الثالث. فالخوف من المجهول يُصبح مبررًا للركود، وعدم مواجهة الواقع يُصبح حيلة للهروب من الإصلاح. حتى في العلاقات الشخصية، نجد أنّ الشيطان حاضر: في الطلاق يُقال إن إبليس فرّق بين الزوجين، وفي الفشل الدراسي يُقال إن الشيطان شغل عقل الطالب، وفي انتشار الفساد يُقال إنه غواية شيطانية. كل هذه الأمثلة تكشف أن الشيطان يؤدي وظيفة تعويضية: إذ يمنح الناس تفسيرًا سهلًا لمشكلاتهم بدلًا من أن يجهدوا أنفسهم في البحث عن حلول واقعية.
في النهاية، يمكن القول إنّ الشيطان في العالم الثالث ليس فقط أداة سياسية أو خطابًا دينيًا، بل هو حاجة نفسية عميقة تُغذيها التربية الضعيفة والثقافة المشوهة. إنه تعبير عن العجز عن مواجهة الذات، وعن الحاجة المستمرة إلى عدو خارجي يُفسر الفشل. بينما في الدول المتقدمة، تحررت العقول من هذه الحاجة، فحلّت مكانها ثقافة المسؤولية والاعتماد على النفس. وهكذا، فإن غياب الشيطان عن اليابان أو السويد لا يعني غياب الشرور، بل يعني أنّ الناس هناك قرروا مواجهة الشر بعقولهم ومؤسساتهم، لا بأساطير تُريحهم من المسؤولية.

- الخاتمة
إنّ الشيطان لا يغيب ولا يحضر باعتباره كائنًا ميتافيزيقيًا، بل باعتباره رمزًا ثقافيًا واجتماعيًا ونفسيًا. ففي العالم الثالث، حضوره يعكس أزمة عميقة في بنية الوعي، حيث يُستخدم لتبرير الفشل والهروب من المسؤولية ولإدامة سلطة المستبدين. أما في الدول المتقدمة، فقد تم تجاوزه لأنه فقد وظيفته، وحلّت مكانه ثقافة الاعتراف بالخطأ وبناء الحلول الواقعية. لذلك، فإن الطريق إلى “اختفاء الشيطان” من مجتمعاتنا لا يمر عبر محاربته بالطقوس، بل عبر مواجهة الجهل بالعلم، والتواكل بالمسؤولية، والخوف بالجرأة على التغيير. عندها فقط يصبح الإنسان سيد مصيره، لا عبدًا لوهم صنعه بنفسه ليسكنه في عقول الضعفاء.