روايتان عالميتان عن الحب والحرب
د. غالب خلايلي
أكتب إليكم أعزائي القراء بعد أيام من العودة إلى مستقرّنا في العين (أبو ظبي)، وأنا ما زلتُ في دوخة السفر المضنية، وعناء تغيّم الدماغ في بيت يغلي كالفرن، وتعسُّرِ النوم في غرفة لاهبة، يعمل مكيّفها بكامل طاقته وكأنّه لا يعمل، إلى درجة أنني -عند الوصول- غيرتُ ثيابي المتبلّلة ثلاث مرات، بعد حمّامين (بالماء الساخن طبعاً) حتى استطعتُ أن أنام ساعتين، عامداً عدم ترك نفسي، كيلا أنام إلى اليوم التالي (1).
وما أصعب النعاس القاهر والاستيقاظ القسري، عذابٌ حقيقي، لكن لا بد من كسر حلقة النوم كي أعودَ إلى سابق العهد، وأتدبّرَ أمورَ بيتٍ شبه خالٍ من الزاد، عدا بعض ما تبقى معنا في رحلتنا (2)، وأمورَ شابّ سوف يغادرنا في اليوم التالي إلى ما وراء البحار سعياً إلى شهادة عالية وحياة جديدة، وكذا أمور سيارات واقفة طالتها أيادي الطقس الحارّ والغبار والإهمال، وأمور عيادة تشكو الوحدة إذ أغلقت شهرين في صيفٍ أرعبت حرائقه أنحاء المعمورة.
والحقيقة أنني ما كنت بوارد كتابة المزيد عن كندا لولا حدثٌ تاريخيّ مهمّ صادف يوم سفرنا، ألا وهو إضراب مضيفات شركة الطيران الكندية Air Canada أول مرة في تاريخها منذ تأسيسها، ولولا أننا اعتمدنا طيران الإمارات من قبلُ، لأكلنا (علقة ساخنة) ليس وقتها (3).
***

أمور كثيرة كان بإمكاني كتابتها في الحلقات السابقة، فضّلتُ تركها للزمن، لكن ما دمتُ بصدد جديد، فليكن عن قضايا إنسانية، في عصر يتصف بغيابها، وبتململ البشر داخل قيوده ليتخلص منها.
والقضية التي لا يمكن تناسيها هي أنّ كندا أصلاً بلدُ غازين ومهاجرين، ولكل مهاجر حكاية.
حكايات وقصص لا تنتهي، خاصة لأهلنا الفلسطينيين والسوريين (واللبنانيين والعراقيين…)، بعضهم خرج من أتون الحرب، وآخر خرج من جحيم اللا اعتراف واللا تصنيف، مع أن كثيراً منهم أعلامٌ وأشخاص ناجحون في الحياة، وعلى قدر كبير من الثقافة والتخصص طبا وهندسة وتدريساً…، لكنه بقي يعامَل على أنه نكرة أينما توجّه في المطارات، عربيّةً (إلا ما ندر) وأجنبيةً، ولو كان أفضل من كثير من المتشكّكين المتجبّرين عن سبق إصرار، إلا أن عذاب اللامكان يبقى يطارده في صحوه ومنامه، حتى ييئس ويقرر قطع آخر خيط في حبله السرّي المهترئ. هذا العذاب بين ماضٍ تليد ووميض حلم (في الذهن) وحاضرٍ مشتّت (في الواقع) يصبح أمرَّ مع بدء الشيخوخة ومشاكلها، وتآكل ما تبقى من زمن افتراضي (لا يعلمه إلا الله)، لنجد كثيرين اتخذوا القرار المبكر بقطع كل الشرايين والحبال، وهي بكامل قوتها عند نفرٍ فقد الأمل مبكراً وغاب عن ناظريه أي بصيص ضوء، أو قبْلَ اهترائها التام عند نفر آخر لاحتْ أمامه نُذُرُ الخطر، من جسم عليل، وربما خبز قليل.
على أن أمر القرار خارجٌ عن كل دلال، فليس الأمر هيناً في النهاية، ولا كندا فارشةٌ الورد في طريق الزائرين أو المهاجرين، ولا سجّاد أحمر لأحد (كما عند استقبال بوتين في ألاسكا)، ولا حتى مثل استقبال ترمب لـ “زعماء أوربا” من وراء مقعده الوثير، لا، الأمر أصعب بكثير مما يتخيل القارئ.
ترى هل هذا ما يمكن أن نرى بعض ترجمة له عند مضيفات الكندية، ومعظمهن – كما بدا لي بنظرة عابرة – كنديات من غير البيض؟

الإضراب الأول في تاريخ الطيران الكندي:
حضرنا إلى المطار الكندي الأكبر بيرسون (تورونتو) صباح الأحد 17 آب 2025، لنفاجأ بجمهرة كبيرة لمضيفي الطيران الكندي ومضيفاته أمام بوابات المطار، بلافتاتهم وهتافاتهم، فيما جثمت طائراتهم (أسطول يعد بالمئات) في المطارات بلا حراك، لتشل حركة الطيران وتلغى مئات الرحلات لنصف مليون مسافر (130 ألف شخص يوميا) في أصعب وقت من موسم الصيف، الوقت الذي يعود فيه الناس إلى أعمالهم في مختلف البلدان، ناهيك عن أن البرلمان الكندي (في حال لزِم الحكومة) معطّل حتى منتصف أيلول. وقد أكد المضربون أن الشركة أهملت مطالبهم، وتحدى الاتحاد الكندي لموظفي القطاع العام (نقابة تمثل 10 آلاف من أطقم إير كندا) أمراً قضائياً يأمر بالعودة إلى العمل الأحد، مما أدى إلى مواجهة غير مسبوقة مع الحكومة الكندية.
أما السبب فهو كندا الغالية والضغوط الاقتصادية التي لا تحتمل الغبن، حيث دأبت شركات الطيران على تحديد أجور المضيفات تبعاً لعدد ساعات عملهن عند إغلاق أبواب المقصورة فحسب (نحو 30 دولاراً للساعة)، دون احتساب الوقت اللازم لصعود الركاب ونزولهم، ودون حساب التعب مع زيادة أعداد المسافرين، وثقل ما يحملونه، أو في حال إلغاء الرحلات، لتجيء تباشير النصر بعد ثلاثة أيام، نصر عبّر عنه بيان الاتحاد الكندي بالقول: «انتهى العمل بلا مقابل. لقد استعدنا صوتنا وقوتنا». هي مسألة الغبن المادي إذن، والتي نراها في قطاعات كثيرة، حيث يغبن جهد الشخص، لا سيما في الأعمال الفكرية (من يحسب حساب وقت شاعر أو صحفي أو رسام مثلا؟). أضرب المضيفون ونجحوا، دون أن ينالهم فصلٌ تعسّفي أو عقوبات قاسية، مما كان ينتظرهم لو أنهم من أهل اللامكان واللا زمان (4).
صيف كندي حتى الصعود إلى الطائرة:
كانت إجازتنا في صيف كندي جميل (مقبول بالنسبة لنا نحن أهل الحرّ)، إذ يمكن تدبّره ولو سخن قليلا أو ترطّب. وقد بقي الجو كذلك (عدا مناسبات قليلة من المطر) حتى ليلة سفرنا، وإضراب موظفي إير كندا. فبعد منتصف ليلة السبت – الأحد بدأت حرارة الجو بالانخفاض، ورحت أسمع في نومي صوت الرعد والمطر، حتى إذا ما جاء الصباح انقطع، معطياً لنا فرصة الوصول إلى المطار بهدوء، ليهطل بعدئذ غزيراً. هذا ما أخبرتني به ابنتي التي رافقتنا (وابنتيها) حتى تسليم الحقائب تقريباً، وغادرتنا والدموع تملأ عينيها، فيما ضبطتُ بصعوبة بالغةٍ دموعي، وأنا الأب العاطفي الذي لا يطيق الوداع، ولا التفكير بما آلت إليه أحوال البشر بشكل عام.
ها قد أخذنا مقاعدنا أخيراً في وسط الصف 65 من الايرباص 380 العملاقة كأنها السفينة. جلستْ “أم العيال” على يميني، واستقرت على يمينها شابة سمراء “مجذبة” من أصول هندية، تعمل محامية حكومية، وكم كانت سعادتها بالغة أنها تحوّلت من الكندية إلى طيران الإمارات دون مقابل! فرصة نادرة في زحمة المسافرين، ناهيك عن فرحها بما سمعته عن الوجبات المتعددة، فيما هي واحدة فقط على الكندية (؟)، والحقيقة أنني غبطتُها كثيراً على “غِبْطتِها”، و”نومها معظم الوقت”، فيما لم يغمض لي جفن تقريباً.
على يساري إلى الأمام قليلا جلس رجل عجوز فائق البدانةِ والنظرِ نحونا، فيما جلست زوجته التي بدت أكثر صباً أمامي على يمينه، يفصل بينهما ممرّ الطائرة، وقد ظننت في البداية أنه لبناني، ليتبيّن لي لاحقا أنه حلبي غادر حلب لاجئا قبل عقد من الزمان، وأن له ولدين في كندا (تفصله عن أحدهما ستّ ساعات بالطائرة) وثالثاً في دبي، وقد عُقدتْ حلقة من حلقات الحديث بيننا كوني عارفاً بكل ما يعرفه الرجل وزوجته.

في الطائرة: فيلمان عالميان عن الحرب الأهلية الأميركية والروسية
في الأدب العالمي، هناك روايتان شهيرتان جدا، قلتُ أتابع فيلميهما السينمائيين في الطائرة ما دام الوقت طويلاً، وما دام ليس لي صبر في العادة على متابعة الأفلام الطويلة.
الأول: “ذهب مع الريح” Gone with the Wind وهي رواية إنسانية ملحمية عن الحرب والحب، وحيدة الأميركية مارغريت ميتشل الصادرة عام 1936، بنحو ألف صفحة، والتي تحولت إلى فيلم رائع الإخراج عام 1939، ما زال يحتفظ بجودته رغم مرور الزمن. زمن الرواية هو عام 1861 م وما بعده، وأجواؤها هي الحرب الأهلية في الجنوب الأميركي، وما نجم عنها من دمار وفقر ومصائب. بطلة الرواية شابة جميلة متمردة تدعى سكارليت أوهارا، تقع في حب شخص يحبّها لكنه يتزوّج ابنة عمه (كأنها حالتنا بعد قرن)، لتتزوج ضابطاً يتوفى في الحرب بمرض الحصبة والالتهاب الرئوي. وفي سلسلة أحداث درامية متعددة تصبح سكارليت أخيراً زوجة لضابط كبير جذاب لكنه غامض مخادع، فيتركها في النهاية لأنها ما زالت تكن حباً لأول رجل قابلته (5)، وعندما ترجوه بمرارة أن تبقى معه، يرفض بشدة، لتقع في كربٍ شديد ما تلبث أن تخرج منه حينما تفكر بالعودة إلى مزرعتها في تارا، وقد ذهبت كل الآمال مع الريح، وينتهي الفيلم بالقول: “غدا، يوم آخر”.
الثاني: دكتور زيفاغو Doctor Zhivago وهي أيضا رواية إنسانية ملحمية عن الحرب والحب للروائي الروسي بوريس باسترناك عام 1957، ولم تنشر في روسيا وقتها لانتقادها الشيوعية، إنما تحولت إلى فيلم رائع 1965، زمنه ما قبل الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية (1917-1922)، وبطله الدكتور الشاب الوسيم يوري زيفاغو (عمر الشريف) الطبيب والكاتب والشاعر الذي عاش طفولة قاسية، لكنه امتهن الطب كونها مهنة أفضل للعيش. وفي الرواية يتوزع قلبه بين امرأتين أحبهما بالقدر نفسه، زوجته وعشيقته، وهو ما تزامن واندلاع الثورة الروسية وما عقبها من أحداث صعبة، لتنتهي القصة بموته وهو يبحث عن زوجته وولده.
والخلاصة المرّة: هي أن الحروب، منذ فجر التاريخ، لا تترك غير الخراب واليتم والترمّل والفقر، مما لا نزال نراه في عالمنا حتى اليوم. والسؤال: أما من فجر؟
أما المضحك في هذه الرحلة فهو أنني وضعت كتابَيّ الموسيقي العالمي السوري غزوان زركلي في جيب المقعد أمامي وما تذكّرتهما إلا في البيت. يبدو أنني تأثرت بعالم السينما، فنسيت هوايتي الأثيرة.
استنساخ الوطن بحواكير في بيت صغير:
مساء الجمعة 15 آب 2025 (يوم لقاء ترمب بوتين) كان لنا (فنجان قهوة) في بيت مهاجر فلسطيني قديم، هو بيت كندي ريفي جميل ترى خلفه عمارات (مارلين مونرو) الشاهقة. خلطة لطيفة. يفاجئك عند المهندس المتقاعد وابن برج البراجنة في ماضيه (السحيق) أنه استنسخ بعضا من وطنه (ترشيحا) في حديقة المنزل الصغيرة. حواكير صغيرة للنعنع والزعتر والميرمية، وأخرى للملوخية والفول والبندورة والخيار والباذنجان، وبضع أشجار للخوخ والدرّاق والتفاح، ذكرتني كلها ببيت جدي (والد أمي حسين خلايلي رحمهما الله) في مخيم النيرب، مستنسخاً بعض رزقه وحلاله في بلدة الجش في الجليل الأعلى. إنه الحنين الذي لا يعيش المرء بدونه، والذي نراه في صور مختلفة في بيوت اللاجئين والمهاجرين، بإصرار عجيب، ينجح حتى في أقسى الظروف. ترى قاعة شامية في بيت، وأخرى حلبية في بيت آخر، ناهيك عن الطعام العربي بأشكاله تبعا لبلد المنشأ (الفلافل، المسقوف، اليالنجي، الدونمة، الكشري، المجدرة، المحاشي، التسقية..)، كلها تضيء ليل المهاجرين.

صدفة تجمعني بزميل متميز بعد أربعة عقود:
فيما كنا نودّع صيف كندا في إحدى حدائق Oakville (قرب مسساجا)، حيث اجتمعت عائلات شبّانٍ مهاجرين من مختلف بلاد الشام، عرف أحدُهم أنني طبيب أطفال، فذكر لي اسم طبيب بارع تعرفُه المِنطقة كلها، إلى درجة أنه لو أوقفه أي شرطي مسساجي أو أوكافيلي لقال له: أنت عالجتني صغيراً. أثارني التعبير المبالغ به (على الطريقة الشامية أو قل إن شئت باب الحارة)، لكن كم كانت المفاجأة كبيرة عندما عرفت أن المقصود زميل الدراسة في مستشفى الأطفال بدمشق ابن صفد الدكتور طارق خليفة. دُهش الحاضرون (وهو طبيب أطفالهم) أنني أعرفه بل أعرف له قصة طبية إنسانية لا أظن أن لها مثيلا في تاريخ الطب. الحاصل: أعطوني رقمه، فاتصلت به من هاتف صهري، وسجّلت له رسالة دون ذكر اسمي، فإذا به يتصل بعد نحو ساعة، ولما عرفني أصرّ على التلاقي الذي حدث في الساعة التالية في مقهىً راقٍ يقدم القهوة والبوظة المشكّلة بكرم، مقهى بدا أن معظم رواده عرب غير مدخّنين، فقضينا أكثر من ساعتين في الهواء الطلق نراجع تفاصيل أربعة عقود من الجهاد (الطبي والإنساني)، خاصة أن عمل أي طبيب (غريب) في كندا هو أقرب إلى المعجزة، وقد أعاد زميلنا سنوات الاختصاص هناك، ونجح وزوجته الطبيبة بامتياز.

في الختام.. أمنيّات تحققت وأخرى شطّ بها النوى:
أستطيع القول إن الزيارة حقّقت هدفها بقضاء وقت عائلي من السكينة والهدوء (أنا بحاجة كبيرة إليهما) والجو البارد (إلى درجة أنني لم أنزع اللفحة في البيت). كانت اللقاءات الإنسانية، إلى حد ما قليلة (منها زيارة عائلتيّ صهري وابنة عمّي الظريفتين الكريمتين في لندن أونتاريو) فيما تعثّر كثير منها لأسباب يمكن فهمها. تأثرتُ لخبر مرض زميلٍ عزيز عملتُ وإياه عشر سنين في مستشفى العين، ولم أستطع حتى التواصل معه مع أنني كنتُ قربه في لندن أونتاريو، وكذا لأحباب عرفناهم قبل عقود، حال النوى بيننا وبينهم. وهنا أتذكر قصيدة للشاعر العذري الأموي الصِّمّة القُشيري، أحبّه والدي خليل خلايلي رحمه الله كثيراً، وكتب قصيدة غزلية معارضاً لقصيدته (قصيدة لها الوزن نفسه والقافية والبحر والموضوع)، يقول فيما غنت فيروز (6):
كأنا خلقنا للنوى وكأنما حرامٌ على الأيام أن نتجمّعا
وقد مرّ نحو أسبوع على عودتنا، أنظر الآن إلى خارطة العالم، وأميركا الشمالية البعيدة جدا، وأتساءل: هل حقاً كنا هناك؟
دمتم بخير.
العين، الأحد 24 آب 2025

هوامش:
- أخبرني الصديق د. علاء العجيلي أنني كنت سأحمد الله كثيراً على الجو الحار لو أنني زرت كندا في ذات كانون، لشدة البرد في أميركا الشمالية عموما.
- تعلمنا منذ طفولتنا ألا نرمي أي طعام تمكن الاستفادة منه ولو لإطعام الطيور.
- كانت تدعى عند تأسيسها الخطوط الجوية عبر كندا (ترانس كندا إيرلاينز)، وسميت إير كندا 1965.
- نواجه هذه المشكلة وعكسها في الطب، حيث يستغل بعض المرضى المحادثات الحاضرة والهاتفية والواتس أب وغيرها دون تقدير لجهد الطبيب، فيما يستغل زملاء كل ثانية في محاسبة مرضاهم.
- أتذكر هنا بيت أبي تمام: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
- شاعر عذري (= غير فاحش) أموي من بني عامر، وينتهي نسبه إلى مضر بن نزار. والصمة تعني الشجاع كالأسد. وقد أحب ريّا ابنة عمه دون أن يحظى بها.