تحضير القهوة العربية من الألف الى الياء
د. غالب خلايلي
أشرنا في المقال الافتتاحي إلى أن القهوة لقيت – بادئ ذي بدء – معارضةً ما، حتى تغيرتِ الحال، وذاع صيتها عند العرب، وباتت رمزاً من رموز الكرم والرجولة.
ولا بد أن أكثرنا عرف شكلاً من أشكال القهوة، وعرف القهوة العربية صغيراً، في بيت جده مثلاً، يوم كان منقل الفحم جاهزاً معظم الوقت، فيما تفوح رائحة القهوة الشهية من الدِّلال الرسلانية، وعرفها أكثَرَ أولئك الآتون من بيئة قروية أو بدوية، حيث تُمارَس طقوسُ القهوة على أصولها، خلافاً لأهل المدن الذين اعتمدوا القهوة المسماة (التركية)، وانتقلوا لاحقاً إلى أنماط أخرى.
وفي صحرائنا العربية تحتل القهوة موقعاً فريداً، وإن اختلف شكل قهوتها قليلاً عن بلاد الشام.
أصول تحضير القهوة العربية:
تحمّص حبوب البُنّ على النار في إناءٍ معدنيٍ مقعّرٍ «المحماسة»، وتُحرّك بهدوء بعُصيّتين من الحديد حتى تنضجَ كلّ جهاتها، ثم تُدقُّ في إناءٍ معدنيٍ «النّجر» أو خشبي «المهباج»، وتوضع مع بهاراتها المعروفة كالقرنفل (المسمار) والزعفران والهيل في دلّة كبيرةٍ تُسمّى «القمقوم أو المبهار»، ثم تُسكَب بعد عدّة عملياتٍ (قد تكون لأيام في بلاد الشام) في دلّةٍ مناسبةٍ، وتُقدّم للضّيوف. وقد يضاف إليها الزنجبيل أو القرفة في بعض المناطق. هذا ويشرب بعضهم (مثل أهل اليمن) قشور القهوة بنقعها بالماء الساخن في الليل، لتطبخ في الصباح ثم تشرب.
وللقهوة أوانٍ خاصّة بها، وأشهر هذه الأواني الدَّلّة (وجمعها دِلال)، والدِّلال أنواع: الحساوية، والعمانية، والرسلانية (نسبة لآل رسلان في الشام)، والقُرشيّة (المكّية)، والبغدادية أقدمها وأثمنها وأجودها، وسميت الدّلّة اشتقاقاً من (الدَلَه) وهو الأُنس الذي يصاحب مجالس تناول القهوة.
المهباج (أو المهباش):
يعدّ المهباج أقدمَ الأدوات التي استخدمها العرب لطحن القهوة. وعلى الرغم من كثرة المطاحن الحديثة، ما زال المهباج مفضّلاً عند كثيرين، لأنه يعطي القهوة نكهةً أطيبَ كما يرون، فيما يوجد من يقتنيه بوصفه تراثاً شعبياً (فلكلور) وزينةً، خصوصاً في المضافات الكبيرة.
والمهباج جرنٌ خشبي لطحن البنّ بالدَّقّ، تلك العملية التي تعلن عن قُرب استقبالِ ضيف أو حبيب عائد من معركته، وتسمِّيه العرب «العــزّام»، لأن دَقّته في بيوت الكرام تعزِم القوم لشرب القهوة. وقد اشتُقّت التسمية من كلمة هَبَجَ (ضرب ضرباً متتابعاً فيه رخاوة، والهَبْجُ الضرب بالخشب).
يصنع المهباج من خشب البطم القاسي لأنه يساعد على تحمّل الدقّ الشديد، وينتقى خشبه الأقرب إلى الجذور، لأنه أقسى وأجود. وبعد كشط محيطه، يُجَوَّر في مركزه بعمق 30 سم تقريباً، ليأخذ شكلاً دائرياً مقبب الأعلى. وقد يوضع المهباج في حفرة ويطمر 20 يوماً حتى يتخمّر الخشب، وهذا النوع أقوى. بعدها تنقش على خصره رسوم مميزة، وقد يبخّ بألوانٍ زاهية ويلمع بـ (اللكر)، وتحاط فوهته بصفائح نحاس أو فضة أو ألمنيوم تفيد في نزول عصا الطحن بسهولة دون أن تتهشّم الأطراف.
وعدا عن غاية الطحن، هناك فن الدقّ الذي يحوّل المهباج إلى آلة موسيقية، لها محترفوها بدق نغمات تترافق وأهازيج ينشدونها. ولنذكر أن هناك مطربين تغنّوا بالمهباج منهم دريد عواضة (على دقّ المهباج يلّلا.. ارقصي يا صبية) وكذا مطربات منهن دلال الشمالي (دقّ المهباج يا حْمَيِّد.. نار الدلّات شعّالة) وسميرة توفيق (دقّ المهباش يا سويلم.. وادعقْ نيران مشبوبة، ودلال العزّ ما تعدم.. وجناب النار منصوبة، سمرا عالكيف عدّلها.. بهار الهيل حلّيها، بيدك يا زين ناولها.. وضيوف الخير حييها) وأخيراً الساحرة فيروز بأغنية (دقّوا المهابيج 1972) التي تعكسُ العنفوان اللبناني، بين انتظار الحبيب والحرب الطاحنة، وحيث الولع والشّوق والحزن معاً. تقول بعد مقدمة عن الخيام التي تضيء نارها في الصحراء، وعن الحبيبة الوحيدة: “دقّوا المهابيج.. خلّي الهوا جنوبي، صوت المهابيج ينده يا محبوبي، والريح السودا تهيج.. دقّوا المهابيج”…
رمز للكرم وحل المشاكل:
تعد القهوة العربية أحد مظاهر الكرم عند العرب، وأحد المكونات الأصيلة لحياة البادية في التعبير عن الفرح والحزن والكلام الذي لا يمكن قوله. وقد كانت القهوة رفيقة البدو في كل مناسباتهم لما لها من فوائد، ناهيك عن مكانتها في التراث العربي.
وللقهوة عادات وأسرار تعدّ من الأمور الحساسة بالنسبة للضيوف الذين قد يغادرون المجلس سريعاً في حال عدم الالتزام بها. واللافت أن للقليل منها القدرة على حل أكبر المشاكل، فترك الضيف للقهوة دون أن يشربها يعني أن له طلباً لدى المضيف، وهنا يسأل الأخير ضيفه عن طلبه، ويطلب منه شرب قهوته، فيعرف الضيف أن طلبه مقبول. ويحظر على الضيف ألا يشرب القهوة، أو أن يطلب الماء بعدها مباشرة، لأن ذلك يعني أن القهوة سيئة.
أما في المآتم فتترك الدلّة مقلوبة بعض الوقت، وتسكب القهوة على الأرض (يشبه ذلك تنكيس الأعلام)، ولا يقول الضيف: “دايم أو دايمة”، بل يترحّم على المتوفى بعد إنهاء فنجانه.
ولصبّ القهوة فنون، فيمسك من يصب القهوة الدلّة باليد اليسرى والفنجان باليد اليمنى، وهو واقف، ثم يدقّ الفنجان بمقدّمة الدلّة لتصدرَ صوتاً ينبّه الضيف، ويفترض بالأخير أن يهزّ الفنجان يميناً ويساراً حتّى تبرد القهوة ثم يرتشفها بسرعة، فإذا ما اكتفى هزّ فنجانه فيفهم المضيف ذلك، وإلا فعليه أن يصب له فنجانا تلو آخر. أما في الأحزان، فعلى مُقدّم القهوة ألا يصدرَ أي صوت.
والقهوة في العُرف العربي ليست ارتواء بل كيْفاً وفنّاً وذوقاً في التجهيز والصّب والتناول، كما أنها ليست للسّلم فقط بل للحرب، إذ كانت القبائل، إذا حدث بينها خلاف أو معارك وأعجز إحداها بطل معين، جمع شيخ العشيرة أفرادها وقال: “مَن يشرب فنجان فلان؟” (أي: مَن يتكفّل به أثناء المعركة ويقتله؟) فيردّ أشجع أفراد القبيلة: “أنا أشرب فنجانه”، ويسمى فنجان الفارس، وبذلك يقطع على نفسه عهداً بأن يقتلَ البطلَ في المعركة أو يُقتَل هو، وأيّ عارٍ يجلبه الرّجل لقبيلته إذا لم يُنفّذ وعده!

ومن العادات المتبعة:
- القهوة خَصّ والشاي قَصّ:أي يُخَص الأكبر سناً بأول فنجان قهوة في الجلسات العادية، أما في الجلسات الخاصة فيُخُصّ كبير القبيلة أو الأكبر وجاهةً بالفنجان الأول، بينما يصب الشاي للضيوف من اليمين. وفي حال كان الحضور كلّه وجهاء فهناك خياران: أن يبدأ الصب من اليمين إلى اليسار، أو يوضع أول فنجان بينهم ويقال: “حشمتكم بينكم” حتى يتنازل أحدهم للآخر.
- “كفى” أو هزّ الفنجان:هي الطريقة التي يعبر بها الضيف عن عدم رغبته بالمزيد.
- صبّة الحشمة:أي يجب ألا تزيد كمية القهوة المصبوبة في الفنجان عن ثلثه، فإذا زادت عن نصف الفنجان، يفهم الضيف أنه غير مُرحّب به، وأن عليه أن يشرب قهوته ويرحل.
والفناجين عند العرب أنواع:
- الهيف: وهو الأول الذي يشربه المُضيف، في الماضي للتأكيد على أن القهوة غير مسمومة، واليوم للتأكد من خلوّ القهوة من العيوب.
- الضيف: وهو الأول الذي يشربه الضيف، وعليه شربه إلا في حالة العداوة أو الطلب، ويلحق العار بالمضيف إذا أتى ضيفٌ بطلب ولم يلبّه له، وقد كان الشيوخ والوجهاء يطلبون من ضيوفهم شرب قهوتهم مما يعني أن طلباتهم ستلبى.
- الكيف: وهو الفنجان الثاني الذي يشربه الضيف للاستمتاع بطعم القهوة، ويمكنه الاعتذار عنه بلا حرج.
- السيف: ويشربه الضيف للدلالة على أنه سيقف مع مضيفه في حال تعرّضه لأيّ أذى، وكثير من الضيوف يتركون هذا الفنجان لما يفرضه من واجباتٍ إن تناولوه.
- الفارس:وذكر قبل قليل.

التصرّف عند وجود عيب في القهوة:
جرى العرف في عادات تقديم القهوة العربية ألا يعلن عن عيب في قهوة المضيف، وذلك لحساسية الأمر، لكن يمكن لفت الانتباه للخلل دون أن يشعر أحد بالقول: “قهوتك صايبة”، وفي هذه الحالة على المضيف أن يغيّر قهوته فوراً، إذا وجد الضيف أحد عيوب القهوة التالية: القهوة صايدة: أي وقعت بها حشرة تؤثر على طعمها. والقهوة غراق: أي غير محمّصة جيدًا. والقهوة حراق: أي حمصت حتى الاحتراق. والقهوة كثيرة الماء، والقهوة مسربة: وهي رواسب القهوة في نهاية الدلّة بعد نفاد القهوة، والقهوة دافية: أي بردت، والقهوة شايشة: أي صُبّت قبل أن تترسّب المواد الصلبة بها أسفل الدلة.
التصرّف إذا فرغت القهوة من الدلة:
- في السعودية يقول المضيف: “حقك بالفاير مو بالبايت”، فيرد الضيف: “النقص مو بيك، النقص بالدلة”.
- في العراق: يعود المقهوي ثلاث خطوات للخلف ويقول: “حصتك في الفايرة مو البايرة”، فيرد الضيف: “النقص مو بيك بالدلة”، ليرد المقهوي: “الدلّة زِعيرة وشأنك عالي”.
- في الكويت: يضرب الفنجان بأسفل الدلّة ثلاث مرات ويقال: “حقك بالفاير مو بالبايت”.
والقهوة الفايرة هي القهوة التي ما زالت على النار، أما القهوة البايتة فهي القهوة القديمة.
معنى وضع السكّين على الدلّة: هذا يعني عدم وجود رجل في الدار، وهنا على الضيف أن يضيف نفسه ويأكل ويشرب دون أن يطلب المبيت. وفي بعض الثقافات لا يجوز للضيف الدخول لتناول الطعام أو الشراب إن غاب رجل البيت. وفي ثقافات أخرى يعني وضع السكّين على الدلة أن يذبح الضيف لنفسه. وبعضهم يعبّر عن غياب الرجل بوضع الفنجان فوق الدلّة، وعلى الضيف أن يصب القهوة بنفسه. وتنطلق تلك العادة من قاعدة أصيلة لدى العرب تجعلهم يحُثّون الضيف على المبيت ثلاث ليال، ولكن يشترط وجود رجل بالمنزل يعمل على راحة الضيف، وتمنع النساء من خدمة الرجال.
ترى هل ما زالت هذه العادات قائمة؟
أقوال العرب عن القهوة العربية:
كان العرب يقولون عن فناجين القهوة ولذة احتسائها: “الأول لراسي والثاني لبأسي والثالث لعماسي”، وهو ما يعني أن الأول ينشط العقل والذهن، والثاني يزيده بأساً وشجاعة، أما الثالث فهو لعلاج الصداع.
وعندما يقول الضيف: “قهوتكم مشروبة” فذلك شكر مهذب للمضيف، أما في حال قوله: “قهوتكم مشروبة وقهوتكم مقلوبة”، فذلك يعني شكراً أيضاً ولكن في إطار معاتبة غير لائقة.
ويُعد كسر الفنجان في المملكة العربية السعودية دليلا على إكرام الضيف ومعزته، ويعني أنه لا يمكن لضيف آخر أن يشرب في هذا الفنجان بعده. وقد انتقد العرب قديماً من يكثر من شرب القهوة في مجلس واحد، وسموه “غير راعي كيف”.
هذا ويقال في الأمثال الإماراتية: “اللي ما عندو دلّة.. ما حدّ يندلّه”، أي لا يعرفه الناس، فالدلّة (أو الترمس) هي رمز الضيافة والكرم في الثقافة الإماراتية، كما تشكل القهوة العربية جزءاً أصيلاً من الثقافة في الإمارات، لا يكتمل التكريم بدونها. ثم إن فنجان القهوة عنصر رئيس عند طلب الزواج، ويعبر عن الالتزام بالعهود، التي يقال عند توثيقها: “بينا فنجان قهوة مشروب في حضرة خوان شما”.
كما تعد القهوة العربية أحد أعمدة الضيافة في الأردن، و”الفداوي” هو العامل المتخصص في صنع القهوة، فيما يقوم صباب القهوة بالانحناء قليلاً عند الصب، بحيث يصبح الفنجان في متناول يد الضيف، وفي ذلك يقول المؤرخ د. محمد أبو حسان: “أَذكر أنني كنت ضيفاً عند أحد البيوت ولم ينحنِ صبَّاب القهوة، فلاحظ ذلك المعزب وقام بصرفه من البيت، واعتذر لي اعتذاراً خجلت لشدة صدقه وإلحاحه”. ويؤكد الباحث سليمان عبيدات أن من المعيب أن ينسى المقهوي أي شخص، سواء أكان ذلك سهواً أم عمداً، إلا أن يكون ذلك الشخص قد هرب من المعركة أو قام بعمل مشين.
تصب القهوة في الفنجان بكمية صغيرة (مقدار ملعقة طعام)، ويرجع ذلك إلى كرم الأردنيين، فهم من يصفون كمية القهوة بالفنجان بـ “شفّة وهفّة”، وفلسفتهم في ذلك أن الدلّة يجب أن تكفي عشرات الجالسين، فالقهوة من الأشياء العزيزة، وامتلاء فنجان القهوة يعني امتلاء الصباب أو المقهوي بالغضب، وهو أمر معيب وشائن. وعلى الضيف أن يرجع فنجان القهوة إلى الصباب يدًا بيد، وعليه ألا يضع الفنجان جانبًا إلا في حالات فنجان الجاهة.
وفي طلب العروس لا يشرب أهل العريس قهوتهم في البداية، فيسألهم المضيف عن السبب، فيجيب ممثلهم، ويلقي التحية، وتُدار الحوارات، وبعد الاتفاق تبادر الجاهة بقولها: “صبوا القهوة”، وهنا يأتي المثل الشهير: “الجاهة الشاطرة قهوتها لا تبرد”، كناية عن قدرتها السريعة على الإقناع والتأثير.
ولنذكر أن أهم ما يقدم مع القهوة وأطيبه هو التمر أو الرّطب، وربما حلويات أخرى.

انتبه لعبارة “فنجان قهوة” التي شاعت منذ عقود!
قد يقدّم لك شخصٌ ما هدية قيمة أو مبلغاً مالياً في ظرف تحت مسمّى (فنجان قهوة) أو (ثمن فنجان قهوة) أو (حلوى للأولاد) امتناناً على ما قمت به في عمل طبي أو هندسي أو دراسي.. إلخ، أو لم تقم به بعد، وهي هنا غالبا ما تعني الرشوة كي تسهّل تلك المهمّة أو تزيد العناية أو تمرّر قضية ما.
والمؤسف أن الرشوة الصريحة أو المستترة منتشرة في كثير من بقاع وطننا، إلى درجة أن هناك من يوحي بطلبها ضمن كلماته أو عبر وسيط، أو يطلبها صراحة (ولحّق فناجين قهوة كما يقال).
ولا ننفي هنا حُسن النية عند أناس كرام (وبعضهم على قدّ الحال) في شكرك على عملٍ جميل قمتَ به وانتهى، والتعبير عن امتنانهم الحقيقي بلفتةٍ طيبة ما تجاهك، مثلما لا ننفي غياب أي امتنان ولو لفظي عند آخرين، مهما فعلت لهم.
يتبع….
العين في 4 أيلول 2025