د. الياس ميشال الشويري
منذ فجر التاريخ، شكّل الدين أحد أبرز المحرّكات في حياة الإنسان، إذ كان مصدرًا للقيم والشرائع، وركيزة لتفسير الوجود وتنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات. غير أنّ هذه القوة الروحية العظيمة لم تسلم من الاستغلال وسوء الفهم، فتحوّل الدين أحيانًا من وسيلة لبناء العدالة إلى أداة لزرع الانقسام والكراهية. من هنا تبرز أهمية التمييز بين جوهر الدين الحقيقي وبين الممارسات البشرية التي تلتصق به دون أن تعبّر عنه. فالإيمان، أيًا يكن شكله، لا يقاس بما يحمله الإنسان من شعارات أو بطاقات هوية، بل بما يترجمه في سلوكه وأفعاله اليومية. من يكذب، يسرق، ويظلم، لا يمكن أن يكون ممثلًا للدين مهما رفع من شعارات. والعكس صحيح، من يصدق، يعدل، ويخدم مجتمعه، فإنه يعبّر عن روح الدين حتى وإن لم يعلن انتماءه العقائدي صراحة.
في لبنان، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والدروز وسواهم منذ قرون، يُفترض أن يشكّل التنوع الديني مصدر غنى حضاري وروحي، لكن الواقع أثبت أنّه تحوّل مرارًا إلى ساحة صراع. السبب ليس في الأديان ذاتها، بل في استخدام الهوية الدينية معيارًا للولاء والعداوة بدل اعتماد الأفعال مقياسًا حقيقيًا للحكم على الناس. هذا الخلل قاد البلاد إلى حروب دامية، وسمح للفاسدين بالبقاء في السلطة تحت غطاء طائفي، بينما عوقب الشرفاء فقط لأنهم لا يملكون حماية طائفتهم. من هنا، تكتسب المقولة “لا تعادي إنسانًا بناء على دينه بل على أعماله” بعدًا مصيريًا في السياق اللبناني، لأنها تُعيد تعريف معيار الانتماء: العمل لا الهوية، النزاهة لا الطائفة، العدالة لا المحسوبيات.
إنّ هذه القاعدة ليست دعوة للتسامح فحسب، بل هي ثورة فكرية وأخلاقية على منطق الانقسام. فهي تطالب الناس بالتحرر من أحكام مسبقة ضيقة، والالتفات إلى ما يفعله الأفراد فعلًا في حياتهم اليومية. بهذا تصبح العدالة ممكنة، ويصبح التعايش واقعًا حيًا لا مجرد شعار. هذا البحث يسعى إلى إضاءة الأبعاد المتعددة لهذه القاعدة، من خلال قراءة فلسفية وأخلاقية وتاريخية، مع إسقاطات مباشرة على الواقع اللبناني، حيث الحاجة إلى مثل هذا التحول الفكر ي باتت أشد من أي وقت مضى.
- الدين والأخلاق بين النظرية والتطبيق
الدين في جوهره منظومة قيمية تهدف إلى تهذيب النفس الإنسانية وتوجيهها نحو الخير العام، لكن عبر التاريخ كثيرًا ما استُخدم الدين كأداة تقسيم بدل أن يكون جسرًا للتلاقي. عندما نتمعن في مختلف الأديان نجد أنها تلتقي جميعها عند دعوة الإنسان إلى المحبة والرحمة والعدل، غير أنّ الممارسة البشرية هي التي شوّهت هذه الرسائل السامية. فهناك من يحصر الدين في الطقوس دون أن يترجمه إلى أفعال يومية، فيصبح التدين مجرد مظهر فارغ. ومن هنا جاءت أهمية القول إن معيار الإنسان ليس دينه بل عمله، لأن الفعل الإنساني هو البرهان العملي على صدق الإيمان أو زيفه. كم من إنسان رفع شعار الدين بينما امتهن الغش والظلم والقتل باسم العقيدة؟ وكم من آخر لم يُعرف عنه سوى النزاهة والإخلاص، مع أنه لم يرفع شعارًا دينيًا صارخًا؟ الفارق الجوهري بين الاثنين هو السلوك العملي الذي يُترجم القيم، لا الكلمات أو الانتماءات. الدين الحقيقي لا يُقاس بكمية الصلوات أو شكل المظهر، بل بكيفية التعامل مع الآخر، سواء أكان قريبًا أم غريبًا، من ذات الدين أو من دين مختلف. لذلك يصبح الحكم على الناس بناءً على انتماءاتهم الدينية ظلمًا مضاعفًا، لأنه يتجاهل أفعالهم، ويحمل في طياته نزعة إقصائية تقود إلى صراعات لا نهاية لها.
في لبنان على وجه الخصوص، يظهر هذا التناقض بشكل صارخ. فالبلد المتنوع طائفيًا ودينيًا يفترض أن يكون نموذجًا للتعايش، لكن الواقع أثبت أنّ الانتماء الطائفي غالبًا ما يطغى على تقييم الأفراد. السياسيون الذين تسلّقوا باسم الدين والطائفة استغلوا هذا الانقسام لتثبيت مواقعهم، فصار المواطن يُحاكم لا على أساس كفاءته أو نزاهته، بل على أساس بطاقة هويته الطائفية. وهكذا انتقلت العداوات من مواجهة الفساد والظلم إلى مواجهة وهمية بين الأديان والمذاهب. ولو التزم اللبنانيون جوهر هذه المقولة، لكان الحكم على السياسيين من خلال أعمالهم لا من خلال انتماءاتهم، ولسقطت أقنعة كثيرة. فلو حوسب الفاسد لأنه سرق المال العام بدل أن يُحمى لأنه “ابن الطائفة“، لكان لبنان مختلفًا اليوم. هذا الانفصام بين الدين كمبادئ، والدين كأداة سياسية، يجعلنا ندرك أنّ الطريق الوحيد للعدل يكمن في العودة إلى معيار السلوك: من يعمل خيرًا يستحق التقدير، ومن يعمل شرًا يستحق العقاب، مهما كان دينه أو مذهبه. هذه العدالة الأخلاقية وحدها قادرة على إنقاذ لبنان من جحيم الانقسام والفساد.
حين نُمعن النظر في الممارسات اليومية، نرى أنّ المجتمع اللبناني غالبًا ما يُسقط هذه القاعدة البسيطة، فيوزّع الولاءات والعداوات تبعًا للهويات الدينية لا تبعًا للأفعال. فيصبح جارٌ من طائفة أخرى خصمًا محتملًا، بينما يُسامَح زعيم فاسد لمجرد أنه ينتمي إلى “جماعتنا“. وهذا الانحراف في المعايير لا ينتج سوى استمرار في الانهيار. فالعبرة ليست في الشعارات الدينية التي تُرفع في المناسبات، ولا في الخطب التي تُبَثّ في الإعلام، بل في الأفعال اليومية التي تترجم القيم. احترام القانون، الحفاظ على المال العام، خدمة المواطنين بصدق، محاربة الفساد: هذه هي الأفعال التي تُثبت إيمان الإنسان الحقيقي. أما من يغطي فساده بعباءة الدين فهو ليس إلا منافقًا يستخدم المقدس لتحقيق مصالح دنيئة. وفي المحصلة، الحكم على الإنسان لا بد أن ينطلق من أفعاله، لأن الأفعال هي التي تصنع المجتمع وتحدد مساره. لبنان يحتاج اليوم إلى هذه المقولة أكثر من أي وقت مضى، لأنها تضع معيارًا عمليًا يفضح المتسترين بالدين ويكشف جوهرهم من خلال أفعالهم. وهكذا يصبح الدين أداة وحدة بدل أن يكون سلاحًا للانقسام.
- العدالة الأخلاقية أساس التعايش الإنساني
العدالة الأخلاقية تقوم على مبدأ المساواة بين البشر بصرف النظر عن الدين أو العِرق أو اللون أو الجنس. فهي تعني أنّ كل إنسان يُقاس بما يفعله، لا بما يرثه أو يعتنقه من معتقدات. هذا المبدأ يشكّل حجر الأساس في بناء المجتمعات العادلة، لأن الظلم يبدأ حين يُعاقب المرء على هويته بدل أفعاله. التاريخ يعطينا أمثلة كثيرة على ذلك: محاكم التفتيش التي جرّت المئات إلى الحرق لمجرد اختلافهم العقائدي، أو الأنظمة العنصرية التي جرّمت الناس بسبب أصولهم. هذه التجارب الدامية تؤكد أنّ الانحراف عن العدالة الأخلاقية يؤدي إلى الكراهية والدمار. بالمقابل، عندما تُبنى المجتمعات على تقييم الأفعال، يصبح التنوع مصدر غنى لا مصدر صراع. فالإنسان الصالح يَفرض احترامه أينما كان، والإنسان الفاسد يُدان حتى لو رفع شعارات الدين أو الوطنية. العدالة الأخلاقية تُخرج الدين من معادلة التمييز وتعيده إلى جوهره: علاقة بين الإنسان وخالقه، تُترجم في الحياة العملية بمعاملة الآخرين بصدق ورحمة وعدل. بهذا المعنى، يصبح الدين وسيلة لتزكية الضمير الفردي لا لفرض التسلط على الآخرين أو تبرير عداوتهم.
في السياق اللبناني، تبدو العدالة الأخلاقية غائبة إلى حد كبير، إذ تتحكم العلاقات الطائفية بالمصير العام. فالمواطن يُحاسَب في كثير من الأحيان على أساس انتمائه لا على أساس عمله. وهذا ما جعل اللبنانيين يعيشون في دولة المحاصصة، حيث المناصب تُوزع على الطوائف لا على أساس الكفاءة، وحيث الولاء للزعيم يغلب على الولاء للوطن. النتيجة كانت واضحة: انهيار اقتصادي ومالي، فساد مستشري، وفقدان ثقة المواطن بالدولة. لو كان ميزان العدالة الأخلاقية هو الحاكم، لكان لبنان قد تجنّب الكثير من أزماته، لأن الفاسدين كانوا سيُعاقبون بغض النظر عن انتمائهم الطائفي. ما نعيشه اليوم هو دليل حي على خطورة استبدال معيار العمل بمعيار الهوية، لأن ذلك يؤدي إلى حماية الفاسدين بغطاء طائفي وتحويلهم إلى “أبطال” في عيون جماعاتهم. العدالة الأخلاقية وحدها كفيلة بتفكيك هذا النظام، لأنها لا تعترف إلا بميزان الأفعال: من سرق يُعاقب، ومن خدم يُكافأ، ومن عمل للصالح العام يُرفع شأنه، سواء كان مسيحيًا أو مسلمًا أو درزيًا أو من أي انتماء آخر.
التعايش الإنساني لا يمكن أن يُبنى إلا على هذا المبدأ. عندما يدرك الناس أنّ جاره المختلف دينيًا ليس خصمًا بل شريكًا في الحياة، تتفكك الجدران الوهمية التي أقامتها الطائفية والتعصب. في لبنان مثلًا، هناك عائلات مسيحية ومسلمة وجدت نفسها تعيش جنبًا إلى جنب في القرى والبلدات عبر مئات السنين، ولم يكن معيار الاحترام بينهم سوى الأفعال: الجار الصالح يحظى بالثقة، والجار السيئ يُرفض سلوكه مهما كان دينه. لكن الحروب والانقسامات السياسية شوّهت هذه الحقيقة وأعادت إنتاج ثقافة العداوة الطائفية. الحل يكمن في إعادة بناء الثقة على أساس الأعمال، أي أن تُقاس الوطنية بالعمل من أجل الوطن لا بالشعارات الطائفية، وأن يُقاس التدين بالرحمة لا بالطقوس الشكلية. بهذا فقط يمكن للبنان أن يتجاوز محنته وينهض من جديد. فالعدالة الأخلاقية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية تضمن استمرار العيش المشترك. من دونها سيتحول التنوع إلى نقمة، ومعها يصبح التنوع ثروة روحية وحضارية.
- بين الفرد والمجتمع – الأعمال مرآة القيم الحقيقية
الإنسان لا يُختبر إيمانه الحقيقي في الشعارات التي يرفعها أو في الهويات التي يحملها، بل في الأفعال اليومية التي يقوم بها في حياته الخاصة والعامة. فإذا كان المرء يصلي ويصوم لكنه يغش في عمله، فهو قد فصل بين العبادة والأخلاق، وألغى جوهر الدين. لذلك فإن الأعمال هي المرآة التي تعكس القيم الحقيقية. هذا ما أكدت عليه الفلسفات والأديان الكبرى على حد سواء: “من ثمارهم تعرفونهم“. فالكلمة قد تكون خادعة، والمظهر قد يكون مُضللاً، لكن الفعل لا يكذب. في المجتمع، يُبنى الاحترام والثقة على أساس التجربة مع الأشخاص: هل يفي بوعوده؟ هل يحترم القانون؟ هل يساعد من يحتاج؟ هذه الأسئلة العملية تُحدد قيمته أكثر بكثير من انتمائه الديني. المجتمع الذي يتبنى هذا المعيار يبني ثقافة شفافة وواضحة، حيث الناس لا يُحاكمون على ما يعتقدونه بل على ما يفعلونه. أما المجتمعات التي تحاكم الناس بناءً على الدين أو الهوية، فهي تحكم على نفسها بالفشل لأنها تُقصي الكفاءات وتُبقي الفاسدين إذا كانوا محميين من طائفتهم أو جماعتهم.
في لبنان، نرى انعكاس هذا الصراع يوميًا. فالشباب الذين يهاجرون اليوم لا يغادرون بسبب اختلافات دينية، بل بسبب فقدان العدالة وانهيار النظام القائم على المحسوبية الطائفية. المواطن لا يثق بدولته لأن الدولة لا تقيسه بعمله أو كفاءته، بل بهويته وانتمائه. هذه المفارقة تخلق حالة من الإحباط العام، وتجعل المبدعين يبحثون عن مجتمعات أخرى تُقدّر أعمالهم لا طوائفهم. وهكذا خسر لبنان أفضل طاقاته البشرية، بينما بقي الفاسدون في مواقعهم لأنهم محميون من طوائفهم. لو أُعطي معيار العمل الأولوية، لكان لبنان بلدًا رائدًا في العالم العربي نظرًا لما يمتلكه من تنوع وكفاءات. لكن حين يُختزل الإنسان في دينه، يضيع كل هذا الغنى وتتحول الهوية إلى قيد بدل أن تكون فضاءً للتفاعل. لذلك، لا يمكن أن ينهض لبنان إلا حين يتبنى مبدأ “لا تعادي إنسانًا بناءً على دينه بل على أعماله“، لأنه بذلك يفتح المجال لكل فرد أن يُثبت نفسه من خلال ما يقدم لا من خلال ما يرث.
المجتمع ككل يتأثر بخيارات أفراده في تبني هذه القاعدة أو رفضها. فإذا عاش الأفراد بعقلية أن الدين هو المعيار الوحيد للحكم، سينقسم المجتمع إلى جماعات متناحرة، ويستمر منطق “نحن” و”هم“، وتستمر الحروب الأهلية بأشكال مختلفة. أما إذا تبنّى المجتمع مبدأ الحكم على الأفعال، فإنه يُوحّد أبناءه حول قيم مشتركة: النزاهة، العدالة، الرحمة، احترام القانون. في هذه الحالة، يصبح الدين إضافة روحية شخصية، لا أداة للانقسام. لبنان اليوم أمام خيار مصيري: إما أن يبقى أسيرًا للطائفية التي تقيس الناس بهوياتهم، أو أن يتحرر عبر العدالة الأخلاقية التي تساوي بين الجميع على أساس أعمالهم. الخيار الثاني وحده يضمن مستقبلًا أكثر استقرارًا وأمانًا. فالإنسان لا يُخلّد دينه في التاريخ بقدر ما يخلّد أعماله: كم من أسماء عظيمة عاشت من مختلف الأديان، لكنها تُذكر اليوم بما قدمته من علم وفن وعدل، لا بانتمائها الديني. وهكذا، لا يكون الدين عامل تفرقة بل حافزًا للأفعال الصالحة التي ترفع شأن الإنسان والمجتمع معًا.
- الدين بين الاستغلال السياسي والجوهر الإنساني
من أبرز التحديات التي واجهت الأديان عبر التاريخ هو استغلالها من قبل الساسة ورجال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية أو جماعية. فالسلطة كثيرًا ما وجدت في الدين وسيلة سهلة لحشد الجماهير، وتثبيت شرعيتها، وتبرير أفعالها. في هذه الحالة، يصبح الدين أداة للسيطرة بدل أن يكون قوة روحية لتزكية النفوس. هنا بالضبط تكمن خطورة معاداة إنسان على أساس دينه، لأن الحكم على الأشخاص من خلال انتماءاتهم يفتح الباب واسعًا أمام الاستغلال السياسي: إذ يمكن لأي سلطة أن تحوّل الصراع السياسي إلى صراع ديني، فيتقاتل الناس على أساس الأديان بدل أن يواجهوا الفساد والاستبداد. لكن الحقيقة الجوهرية هي أن الدين نفسه بريء من هذا الاستخدام. فالذي يستحق العداوة ليس الدين ولا معتنقيه، بل من يوظّف الدين لأفعال شريرة: قمع الناس، تبرير الحروب، أو حماية مصالح ضيقة. لذلك، معيار الأعمال هو الذي يفرّق بين من يستخدم الدين بصدق لخدمة الإنسانية، ومن يستغله كقناع لتحقيق السلطة.
لبنان يمثل مثالًا حيًا على هذا الاستغلال. منذ قيام الكيان اللبناني الحديث، ارتبطت السلطة السياسية بالطائفية ارتباطًا وثيقًا. كل زعيم يقدّم نفسه ممثلًا لطائفة معينة، ويستمد شرعيته من خطاب ديني أو طائفي، بينما في الواقع تُدار الأمور وفق مصالح شخصية ضيقة. النتيجة أن المواطن يُقسَّم تبعًا لدينه، وتُبنى العداوات على هذا الأساس، بدل أن يُحاسب الزعماء على أفعالهم وفسادهم. لو حكم اللبنانيون على السياسيين بمعيار الأعمال، لكان كثيرون ممن يتصدّرون المشهد اليوم قد سقطوا منذ زمن بعيد. لكن ما حصل هو العكس: أصبح الانتماء الديني درعًا يحمي الفاسدين من المحاسبة، وأداة لشرذمة الشعب. هذه المفارقة تفضح كيف أنّ تركيز الناس على الدين بدل الأفعال هو ما أبقى لبنان رهينة الفساد والانهيار. الدين في جوهره دعوة إلى المحبة، لكن في السياسة اللبنانية استُخدم كأداة لتكريس الانقسام ونهب الدولة. وهنا تتضح أهمية القاعدة: “لا تعادي إنسانًا بناءً على دينه بل على أعماله”، لأنها وحدها القادرة على كشف الأقنعة وإعادة توجيه البوصلة نحو الفعل لا الانتماء.
من المهم إدراك أنّ الحكم على الأفراد بناء على دينهم يجرّ المجتمع إلى صراعات لا تنتهي، لأن الأديان بطبيعتها متعددة، والتنوع الديني قدر إنساني. أما الحكم على الأفعال، فيُحرّر المجتمع من هذه القيود، ويمنحه أرضية مشتركة للحوار والتعايش. فالذي يسرق من بيت المال يجب أن يُدان لأنه سارق، لا لأنه من دين معين. والذي يبني مدرسة أو مستشفى يُكافأ لأنه خدم الناس، لا لأنه ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك. هذا المبدأ يُعيد للدين مكانته الحقيقية: مرشد للضمير الفردي، لا أداة فرز اجتماعي أو سياسي. في لبنان، حيث تنقسم الأحزاب وتتصارع الميليشيات تحت غطاء ديني، يصبح استعادة جوهر الدين مهمة ملحّة لإنقاذ الوطن. الناس يجب أن تدرك أنّ عدوها الحقيقي ليس الآخر المختلف دينيًا، بل الفساد والظلم والنهب الذي يمارسه من يختبئون خلف ستار الدين. هذا الوعي هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع جديد، تُقاس فيه قيمة الإنسان بأفعاله فقط، وتُلغى فيه العداوات المصطنعة التي غذّت الحروب والانقسامات.
- نحو مجتمع يتجاوز الطائفية ويحتكم إلى الأفعال
المجتمع الذي يريد أن يبني مستقبلًا آمنًا ومستقرًا لا بد أن يتجاوز الطائفية ويضع معيار الأفعال في مقدمة القيم. هذا التحول ليس سهلًا، لأنه يتطلب ثورة فكرية وثقافية تتحدى قرونًا من التربية على الهوية الضيقة. لكن كل التجارب التاريخية الناجحة أثبتت أنّ التغيير ممكن حين تتوفر الإرادة الجمعية. فالعدالة، الحرية، وحقوق الإنسان لم تُبْنَ في الغرب مثلًا على أساس الانتماء الديني، بل على أساس القانون الذي يساوي بين المواطنين. هذا لا يعني إلغاء الدين أو تهميشه، بل تحريره من الاستغلال السياسي، وإعادته إلى مكانه الطبيعي كمصدر إلهام أخلاقي وروحي. في لبنان، هذه النقلة ضرورية أكثر من أي وقت مضى، لأن استمرار النظام الطائفي يعني استمرار الانقسام والانهيار. إذا لم يجرؤ اللبنانيون على إعادة صياغة معايير الحكم على الناس، سيبقون أسرى دوامة الصراع الطائفي، بينما يُفلت الفاسدون من العقاب. الطريق يبدأ من وعي بسيط: قيمة الإنسان تُقاس بما يفعل، لا بما يرث.
إن الانتقال من مجتمع طائفي إلى مجتمع مدني يقوم على معيار الأفعال يتطلب خطوات عملية. أولًا، إصلاح النظام التعليمي بحيث يُربّي الأطفال على قيم المواطنة والمساواة، بدل أن يغرس فيهم الولاء الأعمى للطائفة. ثانيًا، تعزيز دولة القانون بحيث يُحاسَب الجميع على أساس أعمالهم دون استثناء. ثالثًا، تشجيع المبادرات المدنية العابرة للطوائف، لأنها تخلق مساحات مشتركة تُبرز القيم الإنسانية بعيدًا عن الهويات الضيقة. هذه الخطوات لا تُغيّر الواقع بين ليلة وضحاها، لكنها تضع حجر الأساس لمجتمع جديد. في لبنان، ما زالت هناك فرص، لأن الشعب أظهر مرارًا في الأزمات الكبرى أنه قادر على التكاتف عندما يُهدَّد وجوده. الانتفاضة الشعبية عام 2019 مثلًا كشفت أنّ اللبنانيين يمكن أن يتحدوا حول قضية واحدة: مواجهة الفساد، بغض النظر عن الانتماءات الطائفية. هذا النموذج يجب أن يُبنى عليه، لأن معيار الفعل – الفساد أو النزاهة – أثبت أنه أقوى من أي خطاب طائفي حين يصل الناس إلى حدود الألم.
المستقبل الذي يحلم به اللبنانيون لن يتحقق إلا إذا تم تبنّي القاعدة الذهبية: “لا تعادي إنسانًا بناء على دينه بل على أعماله“. عندها فقط، يمكن أن ينكسر جدار الطائفية، ويولد لبنان جديد أكثر عدلًا وإنسانية. إنّ الأفعال وحدها قادرة على جمع المختلفين، لأنها لغة يفهمها الجميع: الصدق، الرحمة، التضحية، النزاهة. هذه القيم لا تحتاج إلى بطاقة هوية دينية، بل إلى ضمير حي. لذلك، فإن التغيير المطلوب في لبنان ليس فقط سياسيًا أو اقتصاديًا، بل أيضًا فكريًا وأخلاقيًا. يجب أن يتعلم الناس أنّ الزعيم الطائفي الذي ينهب الدولة ليس “حامي الجماعة“، بل خائن لها وللوطن. وأنّ المواطن المختلف دينيًا الذي يعمل بجد وإخلاص هو شريك حقيقي في بناء المستقبل. إذا استوعب اللبنانيون هذه الحقيقة، سيتحررون من أسر التاريخ الدموي، وينطلقون نحو وطن يُقيم العدل بين أبنائه، لا على أساس ما يؤمنون به، بل على أساس ما يفعلونه من خير أو شر.
الخاتمة
إنّ مقولة “لا تعادي إنسانًا بناء على دينه بل على أعماله” ليست مجرد نصيحة أخلاقية، بل هي قاعدة وجودية قادرة على إنقاذ المجتمعات من الانقسام والكراهية. فهي تضع معيارًا عادلًا للحكم على الناس: الفعل لا الهوية. في لبنان، الذي عانى طويلًا من الحروب الطائفية والانقسامات السياسية المغلفة بالدين، هذه القاعدة تُمثل فرصة تاريخية لإعادة صياغة العلاقة بين المواطنين. لو التزم الشعب اللبناني بها، لانقلبت الموازين: لسقط الفاسدون المحتمون بالطوائف، ولارتفعت مكانة المخلصين الذين يعملون بصمت من أجل الوطن. إنّ بناء لبنان الجديد يتطلب أن يُصبح الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه، وأن يُصبح العمل معيار التقييم الوحيد بين الأفراد. بهذا فقط يمكن للبنان أن يتحول من ساحة صراع إلى وطن حقيقي، حيث يلتقي الناس على الخير والعدل بدل أن يتناحروا على الانتماءات. ولعلّ أجمل ما في هذه القاعدة أنّها تمنح الأمل للبشرية جمعاء: مهما اختلفت الأديان والمعتقدات، يبقى الفعل الصالح هو اللغة الوحيدة القادرة على توحيد الإنسان بأخيه الإنسان.