عيد بن عبدالله الناصر
مقال جديد لمستشار التأمين السعودي وإدارة تحليل المخاطر السيد عيد بن عبدالله الناصر* يتناول فيه وسيط التأمين من زاوية جديدة: هل يريد أن يبقى ساعي بريد ينقل الرسائل بين الأطراف مقابل الحصول على عمولة، أم حان الوقت لمواكبته التطوّر و بالتالي الإستثمار في التدريب والتقنيات الرقمية؟ الجواب في مقالة المستشار في الأسطر التالية…
أشركني الأصدقاء في مجموعة بمحافظة القطيف (السعودية) مخصّصة للمهتمين بالتأمين، وأود شكرهم، بالمناسبة، على هذه الإضافة وعلى تفاعلهم الدائم مع ما أطرحه من موضوعات تخصّ قطاع التأمين في وطننا.
هذا التفاعل الذي حصل ويحصل، شكّل ولا يزال دافعًا حقيقيًا للاستمرار في البحث والكتابة، إذ يولّد أسئلة وأفكارًا تستحق التوقّف عندها، وهذا يؤكد بأن هناك من يقرأ وهناك من يبحث عن المعرفة، بعكس ما يعتقده البعض بأن القراءة لم تعد مهمة بالنسبة للجيل الجديد وبأنهم يبحثون عن المقتطفات السريعة فقط دون القراءة المتأنية في الكتب والمقالات.
من بين هذه الأسئلة جاءني سؤال من الزميل/الصديق رضا آل زارع: “هل الوسيط يُعتبر جهة مستقلة بذاتها عن شركة التأمين والعميل، بغض النظر عن دوره الاستشاري تجاه العميل؟”
هذا السؤال ليس بسيطًا، فهو يلامس جوهر مهنة الوساطة التأمينية. فالوسيط يوصف تقليديًا بأنه يخدم “سيديْن” (two masters): من الناحية القانونية يمثل المؤمّن له، بينما من الناحية المالية يرتبط مباشرة بشركة التأمين التي تمنحه العمولة. هذه العلاقة المزدوجة أثارت عبر عقود طويلة نقاشات مهنية وأخلاقية متجددة.
الوسيط بين الأمس واليوم. ففي الماضي، كان الوسيط هو المصدر الرئيس للمعلومات، ولا يملك العميل سوى الاعتماد عليه للوصول إلى التغطيات والى آخر الأخبار من الشركات العالمية. وبحكم أخطبوطية مكاتب الوسيط فهو بإمكانه الحصول على معلومات تتعلق بقوانين وأنظمة التأمين في البلدان المختلفة شرقاً وغرباً، وهذه نقطة جوهرية للشركات التي تسعى للاستثمار في دول متعددة.
أتذكّر زمن الفاكس والهاتف، حيث كان مدير المخاطر يطلب من الوسيط الاتصال بمكتبه في لندن للحصول على معلومة بسيطة عن خبر قرأه أو معلومة غير واضحة. اليوم تغيّر المشهد تماماً. الإنترنت والبريد الإلكتروني ألغيا الحواجز الزمنية والجغرافية. صار مدير المخاطر قادرًا على الوصول مباشرة إلى شركات التأمين العالمية، ما أدى إلى تراجع دور الوسيط الذي كان، في أغلب حالاته، مجرد ناقل معلومات post office ، كما وصفه البعض.
لكن، في المقابل، لا يزال الوسيط يمتلك قوة تفاوضية مهمة، خاصة للشركات المتوسطة، حيث يستطيع الضغط عليها لتسريع سداد المطالبات بفضل حجم أعماله معها، وحتى في تأويل بعض نصوص الوثيقة لتصب في مصلحة العميل.
التطور التكنولوجي لم يتوقف عند البريد الإلكتروني والإنترنت. نحن الآن أمام أدوات أكثر عمقًا:
1-الذكاء الاصطناعي (AI): يستخدم اليوم في تقييم المطالبات، كشف الاحتيال، وتحليل سلوك العملاء. شركات التأمين باتت تعتمد على خوارزميات متقدمة لتقليل الاعتماد على التقديرات البشرية.
مثال: مطالبات السيارات في بعض الأسواق باتت تُعالج عبر تطبيقات ذكية تلتقط الصور وتُصدر قرارًا أوليًا خلال دقائق.
2-البلوكتشين (Blockchain): الذي يوفر سجلات غير قابلة للتغيير لوثائق التأمين والمعاملات، ما يقلل من فرص التلاعب أو فقدان البيانات، ويمنح الوثائق الإلكترونية قوة إثبات أمام المحاكم.
Insurtech والمنصات الرقمية التي باتت تتيح للعميل شراء الوثائق ومتابعة المطالبات مباشرة من الهاتف المحمول. في بعض الدول، يمكن العميل المقارنة بين عشرات العروض بكبسة زر، وهو ما يقلص الدور التقليدي للوسيط.
الواقع يفيدنا بأن هناك وسيطاً تقليدياً فقد دوره: هو الذي اعتمد لسنوات طوال على العلاقات العامة فقط، والمصالح الشخصية، وصيغ هرش الظهور المتبادل، ولكن مع ظهور المنصّات الرقمية، فقد عملاءه تدريجيًا لأنهم لم يعودوا بحاجة إلى وسطاء من هذا النوع. وهناك وسيط تابع حركة التطور والتغيرات في الساحة العالمية، ولهذا استثمر في بناء معرفة تقنية ومهنية، صار يقدم تقارير تقييم مخاطر متكاملة، ويُرشد العملاء إلى حلول مبتكرة مثل استخدام التأمين متناهي الصغر أو التغطيات البيئية.
ولكن علينا الانتباه إلى أن هذه التكنلوجيا على ذكائها فهي ليست خالية من المخاطر. هناك مخاطر أمنية: إمكانية اختراق الوثائق الإلكترونية أو تسريب بيانات العملاء. وهناك مخاطر تشغيلية: خطأ في البرمجة قد يوقف نظامًا كاملًا ويُربك آلاف العملاء. وهناك مخاطر قانونية: ما زالت محاكم مترددة في اعتماد النسخ الإلكترونية كإثبات رسمي في النزاعات، وهناك اختلافات في التفسير القانوني لبعض نصوص الوثائق.
شخصياً مررت بتجربية تتعلق بمفهوم الإختيار election وهو مبدأ يقول بأن شركة التأمين لا يحق لها تغيير رأيها، على سبيل المثال إذا رفضت المطالبة بسبب الغش FRAUD فإنه لا يحق لها تغيير سبب الرفض عند منتصف الطريق وقبل أن تصدر المحكمة قرارها كأن تقول بأن سبب الرفض هو التلفيق وتزوير المعلومات Misrepresention ، ولهذا الموقف أسبابه العملية والتاريخية، لأن شركة التأمين تمسك بيديها كل خيوط العملية التأمينية، فهي تكتب الوثيقة، وتحدد القسط .. ولديها كل الوقت للتحقيق في أسباب الرفض، ولهذا فإنها سوف تلزم بخيارها في سبب الرفض. أنا لست محامياً أو قانونياً ومعلوماتي في هذا الجانب لا تتعدى بعض المواد القانونية التي درستها في الجامعة أو في دورات أو شهادات التأمين، ولهذا أنا أشير لها من واقع التجربة فقط، ومن حق أهل الاختصاص أن يفتوا فيها.
الخلاصة:
التكنولوجيا لم تُلغِ دور الوسيط لكنها فرضت عليه إعادة تعريف ذاته. الوسيط الذي يصر على البقاء في دائرة العلاقات العامة والعمولات فقط سيتراجع وينتهي دوره حتمًا. أما الوسيط الذي يطوّر نفسه ليصبح مستشارًا استراتيجيًا يفهم المخاطر، ويقرأ البيانات، ويقدم حلولًا تتجاوز ما يراه العميل أو حتى شركة التأمين، فهذا هو الذي سيحافظ على مكانته في السوق. ولهذا يمكن الإشارة الى أهمية التالي:
-على الوسطاء الاستثمار في التدريب والتقنيات الرقمية.
-على شركات التأمين إعادة النظر في شراكتها مع الوسطاء كمقدّمي قيمة مضافة لا كمجرد موزعين.
-وعلى العملاء أن يبحثوا عن الوسيط الذي يضيف عقلًا وخبرة، لا مجرد مكتب بريد لنقل الرسائل بين الأطراف مقابل الحصول على عمولة.
هذا المعنى، التكنولوجيا ليست تهديدًا خالصًا، بل فرصة لإعادة صياغة العلاقة بين الوسيط، الشركة، والعميل في عصر جديد، متجدد متطور في حياة التأمين.
*عيد بن عبدالله الناصر