ذاكرة القهوة عند درويش
د. غالب خلايلي
أخبرت قرائي في حلقة ماضية أن مشروبات المزاج يجب أن تحضّر بمزاج، وإلا خرب كل شيء. ولهذا أحرص، منذ وعيت، على أن أحضّر شايي وقهوتي (وكذا لضيوفي) بنفسي، ما استطعت، فهي – على الأقل – تناسب مزاجي، والناس أمزجة وأذواق.. بعضهم يحبّ قهوته قطْراً خالصاً لفرط ما فيها من السكّر، وآخر يحبّها مرّةً كالعلقم سوداء كسواد الليل حالك الظلمة، وما بين الأول والآخر بحرٌ من الاختلافات والإبداعات.
وأنا أقرأ عن شغف الناس، لاسيما الأدباء، بالقهوة، وتعلّقهم بها تعلّق الوليد بثدي أمه، أتساءل: ماذا لو لم تأكل تلك الماعز ثمرات البن قبل عدة قرون؟ وماذا لو كان الراعي العربي بليد الفكر؟
لا قهوة تشبه الأخرى (محمود درويش)
كم هذا صحيح! لا شيء في هذا الكون يتطابق وغيره تماماً، إذ لا بد من اختلاف ولو يسير حتى بين التوائم، فكيف إذا وصل إلى النقيض؟
ومحمود درويش ( 1941 البروة، قضاء عكا – 2008 هيوستن، تكساس) خير من كتب عن القهوة، لشدّة ما أولع بها هذا الشاعر الفلسطيني المرهف، فجعلها رمزاً يتغلغل به داخل النفس البشرية الموجوعة.
يعترف المقرّبون من درويش بأنه كان يصرّ على صنع القهوة لهم بنفسه، ويتفنّن فى ذلك. وعندما كان في بيروت 1982، عاش في شقة، بين غرفة النوم والمطبخ واجهة زجاجية تقابل القناصة، فكان يتردّد في أن يغامر بروحه كي يصنع قهوته، ويكتب كل ذلك فى كتابه (ذاكرة للنسيان):
-“أُريد رائحة القهوة. لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلِّها غير رائحة القهوة، لأتماسك، لأقف على قدميّ، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميه. لنمضي معا، أنا وهذا النهار، إلى الشارع بحثا عن مكانٍ آخر.
كيف أذيع رائحة القهوة في خلاياي، وقذائف البحر تنقضٌّ على واجهة المطبخ المطل على البحر لتنتشر رائحة البارود ومذاق العدم؟ صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين: ثانية واحدة. ثانية واحدة أقصر من المسافة بين الزفير والشهيق، أقصر من المسافة بين دقّتي قلب. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر. ثانية واحدة لا تكفي لأن أفتح زجاجة الماء، ثانية واحدة لا تكفي لأن أصبّ الماء في الغلّاية. ثانية واحدة لا تكفي لإشعال عود الثقاب.
ولكن ثانية واحدة تكفي لأن أحترق.
أريد رائحة القهوة. أريد هدنةً لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة، فالقهوة لمن أدمنها مثلي، هى مفتاح النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هى أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت.
بهذا الهوس حدّدتُ مهمتي وهدفي. توثبتْ حواسي كلُّها في نداء واحد، واشرأبّت عطشى نحو غاية واحدة: القهوة. والقهوة، لمن أدمنها مثلي هي مفتاحُ النهار.
في وسع الغزاة أن يسلطوا البحر والجو والبرّ عليّ، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلعوا منى رائحة القهوة. سأصنع قهوتي الآن. سأشرب القهوة الآن. سأمتلئ برائحة القهوة الآن، لأعيش يوماً آخر، أو أموتَ محاطاً برائحة القهوة.
ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال تُرسى ببطء على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكا بطيئا بالملعقة، بشكل دائري فى البداية، ثم من فوق إلى تحت. تضيف إليها الملعقة الثانية، تحركها من فوق إلى تحت، ثم تحركها تحريكا دائرياً من الشّمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة.
بين الملعقة والأخرى أبعدِ الإناء عن النار ثم أعدْه إلى النار. بعد ذلك لَقِّم القهوة، أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى، ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل، إلى أن يعيد الماء غليانه وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق. لا تدعها تغرق. أطفئ النار ولا تكترث بالصواريخ. خذ القهوة إلى الممر الضيق. صبّها بحنان وافتنان فى فنجان أبيض، فالفناجين داكنة اللون تفسد حرية القهوة. راقب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة.
أشعِل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان، السيجارة ذات المذاق الكوني التي لا يعادلها مذاق آخر غير مذاق السيجارة التي تتبع عمليّة الحب.
إن القهوة هي هذا الصمتُ الصباحي، الباكِر، المتأني، والوحيد الذي تقف فيه وحدك، مع ماء تختاره بكسل وعزلة، في سلام مبتكر مع النفس والأشياء، وتسكبه على مهل، وعلى مهل في إناء نحاسيّ صغير داكِن وسريّ اللمعان، أصفر مائل إلى البنّي، ثم تضعه على نار خفيفة.. آه لو كانت نار الحطب.
فنجان القهوة الأول، مرآة اليد. واليدُ التي تصنع القهوة تُشيع نوعية النفس التي تحركها. وهكذا، فالقهوة هي القراءةُ العلنية لكتاب النفس المفتوح .. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار.
أتساءل: كيف تكتب يدٌ لا تبدع القهوة؟ كم قال لى أطباء القلب وهم يدخّنون: لا تدخن ولا تشرب القهوة. وكم مازحتهم: الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة ولا يكتب.

فى السجن لم أتكيف أبدا مع غياب القهوة الصباحية. ما أشدّ أنانيتي! لقد حرمتُ زميلاً فى السجن من نصف فنجان من القهوة، ما دفع الأقدار إلى معاقبتي. بعد أسبوع، يوم جاءت أمي لزيارتي ومعها إبريق من القهوة، دلقه الحارس على العشب.
أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي. أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها. لا قهوة تشبه قهوة أخرى. تسير في خط مستقيم، في البداية، ثم تتعرج وتتلوى وتتأوّد وتتأوّه وتلتفّ على سفوح ومنحدرات، تتشبّث بسنديانة أو بلوطة، وتتفلّت لتهبط الوادي وتلتفت إلى وراء، وتتفتّت حنينًا إلى صعود الجبل، وتصعد حين تتشتت في خيوط التاي الراحل إلى بيتها الأول.
ودفاعي عن القهوة هو دفاع عن خصوصية الفارِق. ليس هنالك مذاق اسمه مذاق القهوة، فالقهوة ليستْ مفهوما وليست مادة واحدة، وليست مطلقًا. لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حدّ أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته.
ثمّة قهوة لها مذاق الكزبرة، ذلك يعني أن مطبخ السيدة ليس مُرتّباً. وثمّة قهوة لها مذاق عصير الخروب. ذلك يعني أن صاحب البيت بخيل. وثمّة قهوة لها رائحةُ العطر ذلك يعني أن السيدة شديدة الاهتمام بمظاهر الأشياء. وثمّة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم. ذلك يعني أن صاحبها يساريّ طفولي. وثمّة قهوة لها مذاق القِدم من فرط ما تألّب البُن في الماء الساخن. ذلك يعني أن صاحبها يميني متطرف. وثمّه قهوة لها مذاق الهال الطاغي. ذلك يعني أن السيدة محدثة النعمة.. لا قهوة تشبه قهوة أخرى. لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفسًا أخرى.

رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشيء الأول، لأنها تنحدر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأت من آلاف السنين. وما زالت تعود. القهوة مكان، القهوة مسام تُسرِّب الداخل إلى الخارج، وانفصالٌ يُوَحِّد ما لا يتوحّدُ إلّا فيها. هي رائحة القهوة. هي ضدُّ الفطام. ثدي يُرضع الرجال بعيدا. صياحٌ مولود من مذاق مُرّ، حليب الرجولة، والقهوة جغرافيا.. ولون الأرض ورائحة الأرض بعد المطر.
القهوة لا تُشرَب على عجل. القهوة أختُ الوقت. تُحتَسى على مهل. القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة. القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات. والقهوة عادة تلازمها بعد السيجارة عادة أخرى هي الجريدة.
القهوة كالحُبّ.. قليلٌّ منه لا يروي؛ والكثير منه لا يُشبِع.
وفي قصيدة (أحن إلى خبز أمي) الشهيرة، والتي كتبها درويش على علبة سجائر في زنزانة، يعبر فيها الشاعر مقيد الحركة حر الروح عن حنينه إلى خبز أمه وقهوتها ولمسة يدها.

القهوة عند مختلف الأدباء:
كانت القهوة دائماً مصدر إلهام لمعظم كُتّاب العالم، إذ تساعدهم في التركيز والإبداع، والسهر المضني، وتُحفّز أذهانهم على الخروج بأفكار جديدة.
-يقول نزار قباني: “القهوة عجوز معمّرة، لها أحفاد بررة يقبّلونها كل صباح ومساء وأنا أكثرهم براً بها”. ويقول: “يثب الفنجان من لهفته في يدي، شوقا إلى فنجانها”، وفى قصيدة أخرى: “اشْرَبي القَهْوَةَ يا سيّدتي.. فالجميلاتُ قضاءٌ وقَدَرْ.. والعيونُ الخُضْرُ والسُودُ.. قضاءٌ وقَدَرٌ”.
-ويصف بدر شاكر السياب تأثير القهوة في قصيدته أغنية المطر، كيف يغرق المرء في صمت الأرض عند شرب القهوة: “وحين أشرب قهوتي.. أغرق في صمت الأرض.. أنساب في رواسب النوم.. وأهمس للظلام حكايتي”.
-بينما يراها الأديب أنيس منصور علاجاً ونعيما يمتزج بالحياة: “لا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة.. لأتماسك.. لأقف على قدمي”.
-ولا يختلف الأمر عند الكتاب الأجانب، فـ جان بول سارتر يعد القهوة الطازجة أفضل طريقة لبدء اليوم، ومنبعا للسعادة والحماسة.
-والروائي الأمريكي الشهير مارك توين (صامويل كليمنز) يرى أن القهوة “ملاذ الروح، وعلاج للأعصاب، ومنعشة للفكر”.
-ويؤكد جورج أورويل (كاتب رواية 1984 الشهيرة) أهمية القهوة الطازجة: “لا يوجد شيء يضاهي رائحة القهوة الطازجة المستخرجة من حبوبها الأصلية وطعمها”.
-ويقول أرنست همنجواي (كاتب رواية الشيخ والبحر) الذي استلهم شخصياته من الزبائن المتجمعين حول طاولات مقهى: “كل ما أحتاجه لكتابة روايتي هو كوب من القهوة وعقل خلاق”.
-ويقول دوستويفسكي: “عندما أشعر بالكسل، أجلب لنفسي كوب القهوة. إنه الدواء الذي يُنشطني للكتابة”.
-ويرى بلزاك الذي كان يشرب خمسين فنجان قهوة يوميا “القهوة هي الوقود الذي يحرك آلة الكتابة. إنها تنشطني وتُحفز خيالي. بدون قهوة، لا أستطيع التفكير ولا العمل ولا حتى الوقوف”.
-وكذا فولتير الذي كان يشرب أربعين فنجان قهوة يوميا لكتابة مسرحياته الفلسفية.
-ولعل أرق ما قيل عن القهوة: قول الروائي البريطاني بيفرلي نيكولز: “القهوة هي الحب في صورة سائلة”، لأختم المقال بثلاث مقولات:
-الأولى: قول ستيف جوبز رائد التفاحة (أبل): “القهوة هي المفتاح السري للإبداع والإنتاجية”.
-والثانية: قول محمود درويش: “بعض النهايات مرة كالقهوة، ولكنها تجعلك شخصاً مستيقظاً متنبها!”.
-والثالثة: قول الفنان زياد رحباني: شعب بيشرب هالقد قهوة لازم يكون أوعى من هيك”.

دمتم بخير
العين في 1 تشرين الأول 2025