ملفات مرمية و مكدّسة بعضها فوق بعض
د. الياس ميشال الشويري
تُعدّ الدوائر العقارية والمساحة والمالية في أي دولة العمود الفقري للإدارة العامة، إذ تمثل شريانًا حيويًا لضبط الملكيات، تحصيل الضرائب، وصيانة النظام الإداري والاقتصادي. لكن في لبنان، تحولت هذه الدوائر من مصدر قوة وطنية إلى بؤرة فساد وبيروقراطية خانقة، ففقدت معناها ودورها الأساسي، وصارت رمزًا للتعطيل والابتزاز بدلًا من أن تكون ضمانة للشفافية والتنمية. إن الحديث عن “نفضة” لهذه المؤسسات ليس ترفًا فكريًا ولا شعارًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة نفسها. فالمواطن اللبناني الذي يُحاصَر في دهاليز الإدارات، ويُذلّ أمام موظف مرتشٍ، ويُرهق أمام معاملات عقارية أو مالية تحتاج سنوات لإنجازها، هو نفسه الذي يفقد الثقة بدولته ويبحث عن بدائل في الفوضى أو الخارج. هنا تكمن خطورة الأزمة: الدولة تنهار من داخلها عندما تسقط دوائرها في قبضة العجز والفساد. ومن هذا المنطلق، سنستعرض في هذا المقال المحاور الأساسية التي تبيّن جذور الأزمة، مظاهرها، وسبل إصلاحها ضمن رؤية متكاملة تربط بين الحاجة إلى “النفضة” وبين إعادة بناء لبنان على أسس جديدة.
- العقارات والمساحة بين فوضى الإدارة وتفكك الثقة
الدوائر العقارية هي خزان الذاكرة الوطنية لملكية الأرض، وحين تتعطل هذه المؤسسة أو تتلوث بالفساد، فإن أساس العدالة الاجتماعية يتهاوى. في لبنان، يواجه المواطن مشكلات متكررة عند تسجيل عقار أو طلب إفادة ملكية أو حتى الحصول على خريطة مساحية دقيقة. هذه التعقيدات ليست فقط نتيجة “قلة الموارد” كما يدّعي بعض المسؤولين، بل نتيجة تراكم سياسات متعمدة لإبقاء الملف العقاري رهينة للمحسوبيات والزبائنية. فالملفات تتكدس على المكاتب، والمعاملات تحتاج إلى توقيع موظف “مفتاح“، ولا تمرّ إلا إذا دُفعت “إكرامية” أو “مصاريف إضافية“. والأسوأ من ذلك أن الخرائط المساحية في لبنان تعود بمعظمها إلى الحقبة العثمانية والانتدابية، ولم يتم تحديثها بشكل شامل منذ عقود. هذا الخلل جعل من أي نزاع عقاري قضية مفتوحة أمام المحاكم التي تغرق بدعاوى لا تنتهي. وفي المقابل، المواطن الذي يحلم بشراء قطعة أرض أو توسيع بيته يجد نفسه أسير دوامة من المعاملات العقيمة والانتظار الممل. في هذا المناخ، تسقط هيبة الدولة لأنها تعجز عن ضمان حق الملكية بشكل عادل وسريع. وهنا يظهر الترابط بين ضعف الإدارة العقارية وتنامي الفوضى العمرانية العشوائية، حيث يبني الناس منازلهم خارج القانون بسبب غياب الثقة بالمؤسسات.
المساحة، من جهتها، تمثل البوصلة العلمية التي تحدد حدود العقارات والملكيات العامة والخاصة، لكن في لبنان أصبحت هي الأخرى عنوانًا للفوضى. فكثير من المناطق ما زالت غير ممسوحة أو جرى مسحها بشكل بدائي لا يعكس الواقع الحالي. هذا الخلل سمح بانتشار النزاعات بين الجيران، وبين المواطنين والدولة، بل وبين البلديات نفسها. ولعلّ أخطر ما يكشفه الواقع هو غياب المسح الشامل للأراضي العامة والأملاك البحرية والنهرية، ما جعلها عرضة للنهب والاعتداء من قبل المتنفذين. فعلى سبيل المثال، الأملاك البحرية التي كان يُفترض أن تكون ثروة وطنية مشتركة، تحولت إلى ملكيات خاصة لأمراء السياسة والمال، بفضل تلاعب متعمد في القيود والمسح. المواطن البسيط لا يملك القدرة على مواجهة هذه المنظومة، في حين أن الدولة، بدلًا من حماية أملاكها، تسكت وتغطي. هنا تتضح خطورة غياب “النفضة“: فالأرض التي تُفترض أن توحّد اللبنانيين، أصبحت مصدرًا دائمًا للانقسام والظلم.
إن غياب التنظيم في العقارات والمساحة لا يقتصر على تعطيل معاملات فردية، بل يمتد إلى تعطيل الاقتصاد الوطني نفسه. فالاستثمار العقاري، الذي يُعتبر ركيزة أساسية في الاقتصاد اللبناني، يتأثر مباشرة بالفوضى والفساد في هذه المؤسسات. المستثمر، سواء كان لبنانيًا أو أجنبيًا، يحتاج إلى ضمانات قانونية واضحة قبل أن يضع أمواله في مشروع عمراني أو تجاري. لكن حين تكون الإفادات العقارية غير دقيقة، والخرائط ناقصة، والإجراءات بطيئة، فإن الاستثمار يتوقف، وينصرف رأس المال إلى الخارج. كذلك، تتعطل خطط الدولة في تنظيم المدن والقرى، لأن المسح العقاري غير مكتمل، فينتشر العمران العشوائي الذي يُثقل البنى التحتية ويشوه المشهد العمراني. وفي النهاية، يُصبح المواطن رهينة إدارة عقارية عاجزة، لا تمنحه حقه بالملكية، ولا تحفظ له ثروته العقارية، ولا تساعد في تطوير وطنه. وهنا تبرز الحاجة إلى “نفضة” شاملة تضع أسسًا جديدة لمساحة وطنية حديثة، وإدارة عقارية شفافة، تعيد الثقة المفقودة بين المواطن والدولة.

- المالية العامة بين البيروقراطية والفساد
الدوائر المالية في لبنان، بما تحمله من مسؤولية جباية الضرائب والرسوم وتوزيع الموارد، تُفترض أن تكون العمود الفقري لإدارة الدولة. لكن الواقع يُظهر أنها تحولت إلى شبكة معقدة من البيروقراطية والفساد. المواطن اللبناني الذي يريد تسديد ضريبة عقار أو سيارة أو تسجيل مؤسسة، يواجه طوابير طويلة من الانتظار، وكومة من الأوراق، وأنظمة عفا عليها الزمن. الأسوأ أن هذه الإجراءات لا تؤدي بالضرورة إلى جباية عادلة وشفافة، بل تفتح الباب واسعًا أمام الرشوة والابتزاز. فالموظف الذي يملك سلطة التوقيع قد يتحول إلى حاجز أمام المواطن، يفرض عليه دفع “خدمة إضافية” لتسريع المعاملة. هذا الجو يُفقد المالية العامة معناها، ويحوّلها إلى “مزرعة” لمصالح شخصية، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحقيق العدالة الضريبية. وفي المقابل، الدولة نفسها تعاني من نزيف مالي هائل بسبب التهرب الضريبي، الذي تغطيه شبكات محمية سياسيًا، فتضيع مليارات الدولارات سنويًا كان يمكن أن تنقذ الخزينة.
إن المالية العامة في لبنان لا تعاني فقط من الفساد الإداري، بل أيضًا من غياب الرؤية الاقتصادية. الضرائب تُفرض بشكل عشوائي، من دون خطة عادلة تميز بين الفئات الاجتماعية. فالموظف المتوسط الدخل يُثقل بالضرائب والرسوم، في حين يتهرب كبار التجار والمصارف من دفع مستحقاتهم. هذا الظلم الضريبي يولّد شعورًا عميقًا بانعدام العدالة، ويُضعف الولاء للدولة. المواطن الذي يدفع الضرائب لا يرى مقابلًا لها خدمات عامة لائقة: لا كهرباء، لا ماء، لا نقل عام، ولا ضمان اجتماعي. وهكذا يتحول تسديد الضريبة إلى “سرقة مشرعنة“، بدلًا من أن يكون مساهمة في بناء الوطن. أما الدولة، فتغرق في العجز وتستدين بلا توقف، حتى وصلت إلى حافة الإفلاس. كل ذلك يثبت أن المالية العامة بحاجة إلى “نفضة” شاملة، تعيد صياغة النظام الضريبي على أسس عادلة وشفافة، وتُحوّل الضرائب إلى وسيلة للإنماء لا للنهب.
ترتبط أزمة المالية العامة في لبنان ارتباطًا مباشرًا بالأزمة السياسية، حيث تُستعمل هذه المؤسسة كأداة للمحاصصة بين الأحزاب والطوائف. المناصب الحساسة في وزارة المالية، مثل غيرها من الوزارات، تُوزع وفق الولاءات السياسية لا وفق الكفاءة. والنتيجة: جهاز إداري مترهل، يعجز عن ضبط الإيرادات، ويستعمل صلاحياته لتأمين مصالح حزبية. إن هذا الواقع يُفقد الدولة أي مصداقية أمام المواطن وأمام المجتمع الدولي. فالجهات المانحة التي تفكر بمساعدة لبنان، تتردد لأنها ترى أن أموالها ستُهدر في شبكة الفساد نفسها. لذلك، فإن إصلاح المالية العامة ليس مسألة تقنية فحسب، بل هو معركة سياسية وأخلاقية ضد منظومة المحاصصة. وهنا تبرز الحاجة إلى “نفضة” تعيد الاعتبار للكفاءة، وتضع حدًا لتسييس الإدارة المالية، وتجعلها أداة لإدارة الدولة لا أداة لإثراء الطبقة السياسية.
- النفضة كطريق إلى دولة حديثة
النفضة التي نحتاج إليها في الدوائر العقارية والمساحة والمالية ليست مجرد إصلاح إداري محدود، بل ثورة هادئة تعيد بناء الإدارة من جذورها. هذه النفضة تعني أولًا اعتماد الرقمنة الشاملة بدلًا من الورق المتراكم، بحيث تصبح كل معاملة متاحة إلكترونيًا، ما يُقلّص فرص الرشوة ويُسرّع الإجراءات. كما تعني ثانيًا وضع نظام رقابي صارم يراقب أداء الموظفين ويحاسب المقصرين والمرتشين بلا هوادة. وثالثًا، تعني اعتماد كادر إداري جديد قائم على الكفاءة والشفافية، بعيدًا عن الولاءات الطائفية. هذه النفضة، إذا طُبقت بصدق، ستعيد للمواطن ثقته بدولته، وستحوّل الإدارات العامة من عبء خانق إلى رافعة للتنمية. لبنان لا يملك ترف الوقت، فالفوضى الإدارية التي يعيشها تهدد بانفجار اجتماعي واقتصادي، ولن ينقذه إلا إصلاح جذري يعيد للمؤسسات معناها.
إن النفضة المنشودة لا تتطلب فقط إصلاحات تقنية، بل رؤية سياسية شجاعة تضع مصلحة الوطن فوق مصالح الأحزاب والطوائف. في لبنان، تُستعمل الإدارات العامة كأدوات للزبائنية السياسية: هذا الموظف محسوب على زعيم، وتلك الدائرة تحت سيطرة حزب. هذه العقلية تجعل من أي إصلاح أمرًا شبه مستحيل. لكن الواقع يفرض نفسه: الدولة تنهار، والمواطن يهاجر، والثقة معدومة. لذلك، فإن أي حكومة مقبلة يجب أن تضع في أولوياتها “إعادة بناء الدولة من الدوائر“، لأن الإصلاح يبدأ من هناك. إن إصلاح المالية يعني وقف النزيف، وإصلاح العقارات يعني حماية الملكية، وإصلاح المساحة يعني ضبط الأرض. كلها عناصر أساسية لأي مشروع إنقاذ وطني.
النفضة الحقيقية لا تكون شعارات بل خطط عملية. يجب أن يبدأ الإصلاح بمسح شامل لكل الأراضي اللبنانية، يحدّث الخرائط ويُسجل الأملاك العامة والخاصة بدقة. ويجب أن تُطلق خطة لتبسيط الإجراءات العقارية والمالية عبر منصات رقمية حديثة. كذلك، لا بد من إصدار قوانين جديدة تُشدد العقوبات على الموظفين المرتشين، وتُحصّن استقلالية القضاء الإداري. أما على المستوى السياسي، فلا إصلاح من دون إنهاء المحاصصة الطائفية التي دمّرت الإدارة. عندها فقط يمكن أن نرى الدولة تعود إلى وظيفتها الطبيعية: خدمة المواطن لا إذلاله. هذه هي النفضة التي يحتاجها لبنان، ليس فقط لإصلاح دوائره العقارية والمالية، بل لإنقاذ كيانه كدولة.
- الخاتمة
إن الحديث عن الدوائر العقارية والمساحة والمالية في لبنان هو في الحقيقة حديث عن صورة الدولة كلها. هذه المؤسسات التي يُفترض أن تكون عنوانًا للشفافية والعدل، تحولت إلى رموز للفوضى والفساد. المواطن الذي يذل في معاملة عقارية أو مالية، لا يفقد فقط وقته وماله، بل يفقد ثقته بدولته. لذلك، فإن الدعوة إلى “نفضة” ليست مجرد رغبة إصلاحية، بل صرخة وجودية لإنقاذ لبنان من الانهيار الشامل. إن إصلاح هذه المؤسسات يعني استعادة ثقة المواطن، وجذب الاستثمار، وحماية الأرض، وضبط الموارد المالية. هو المدخل الحقيقي لبناء دولة حديثة تليق باللبنانيين. فإما أن نبدأ بهذه النفضة اليوم، أو نستسلم لغدٍ تسوده الفوضى والانهيار.