كثرة الرؤوس… صراع ديكة
د. الياس ميشال الشويري
منذ القدم، شكّلت الأمثال الشعبية مرآة تعكس تجارب الشعوب ومخزونها من الحكمة المتراكمة عبر الزمن. ولعلّ المثل القائل “إذا بدّك تخرب بلاد، ادعي عليها بكثرة الرؤسا” يختصر ببلاغة مأساة الأنظمة السياسية حين تتنازعها سلطات متعددة بلا مرجعية موحدة، فيتحول الحكم إلى تشظٍ وفوضى بدل أن يكون إطارًا منظِّمًا للحياة العامة. وفي الحالة اللبنانية المعاصرة، يتجلّى هذا المثل بأبهى صوره، إذ إنّ كثرة الرؤوس السياسية والطائفية والحزبية جعلت من الدولة مسرحًا للانقسامات والتجاذبات، بدل أن تكون حامية لوحدة المجتمع وضامنة لاستقراره. فلبنان الذي يُفترض أن يُدار وفق منطق الدولة الحديثة، أضحى حقلًا لتجارب الزعامات، حيث كل رأس يعتبر نفسه مرجعًا أعلى ووصيًا على الشعب، الأمر الذي أرهق الكيان، وأفقده المناعة أمام الأزمات الداخلية والتدخلات الخارجية.
1. فلسفة المثل الشعبي في ضوء التجربة التاريخية
إن المثل “إذا بدّك تخرب بلاد، ادعي عليها بكثرة الرؤسا” ليس وليد بيئة عابرة، بل هو تعبير عن إدراك جمعي لأثر تضارب القيادات على مصير المجتمعات. ففي التاريخ البشري، من الإمبراطوريات القديمة إلى الدول الحديثة، كان الصراع على السلطة بين أكثر من زعيم دائمًا مدخلًا للانقسام والحروب الداخلية. ففي اليونان القديمة، أدى تعدد القادة وتناحرهم إلى سقوط مدن كانت مزدهرة. وفي الحقبة العباسية، أسهمت كثرة الخلفاء المتنازعين والولاة المستقلين في تفتت الدولة وتدهور حضارتها. هذا الوعي الشعبي أدرك أنّ كثرة الرؤوس لا تعني بالضرورة كثرة الحلول، بل غالبًا ما تُفضي إلى غياب القرار الجامع.
وفي الحالة اللبنانية، يستعيد هذا المثل وجاهته لأنّ النظام السياسي نفسه قائم على مبدأ توزيع السلطة بين طوائف وزعامات، بحيث أصبح لكل طائفة “رئيس” أو “مرجعية” تعتبر نفسها شريكة بل وبديلة عن الدولة. هذه البنية أنتجت تعددية مفرطة في مراكز القرار، فأضحت البلاد تائهة بين مطالب متعارضة ورؤى متناقضة، حتى فقدت قدرتها على بناء مشروع وطني متماسك. وكأنّ لبنان تجسيد حيّ لمختبر يبرهن صحة المثل الشعبي.
إن النظر إلى لبنان من هذا المنظار يتيح فهمًا عميقًا لأزماته. فالمثل ليس فقط نصيحة أخلاقية أو حكمة يومية، بل هو توصيف دقيق لآلية الخراب التي تنشأ حين يُختزل مفهوم السلطة إلى لعبة توازنات بين رؤوس متعددة، لا يجمعها سوى التنافس على النفوذ. وبالتالي، فإن هذا المثل يصبح إطارًا لفهم كيف تتهاوى المؤسسات، وكيف يتفتت المجتمع، وكيف تضيع الدولة عندما يتعدد الرؤساء وتغيب الرؤية المشتركة.

2. تعدد الرؤوس في النظام اللبناني
النظام اللبناني فريد بتركيبته، إذ يقوم على صيغة تشاركية أُطلق عليها “الديمقراطية التوافقية“، التي كان يُفترض أن تشكّل ضمانة للعيش المشترك بين الطوائف. غير أنّ هذه الصيغة سرعان ما تحولت إلى لعنة، إذ أسست لثقافة تعدد الرؤوس بدل وحدة السلطة. فكل طائفة نصّبت لنفسها زعيمًا أو أكثر، وكل زعيم نصّب نفسه رأسًا مساوٍ لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو رئيس المجلس النيابي. وبهذا الشكل، أصبح لبنان جمهورية الرؤساء المتناحرين، حيث لا قرار يمرّ إلا بعد سلسلة من المساومات والتعطيلات.
تجلت هذه المعضلة في تعطيل تشكيل الحكومات لأشهر وسنوات بسبب خلافات على الحصص والوزارات، وكأنّ كل طرف يملك حق النقض الفيتو على الآخر. كذلك، انعكست هذه الظاهرة في السياسة الخارجية حيث يتحدث كل فريق بلغة مختلفة عن الآخر، حتى بات للبنان أكثر من خطاب رسمي تجاه قضايا الحرب والسلم والتحالفات الإقليمية. وهكذا أضحى البلد بلا رأس حقيقي، بل أشبه بجسد تتنازعه رؤوس عديدة تشده كل منها إلى اتجاه مختلف.
هذا التعدد لم يقف عند حدود المؤسسات، بل تسلل إلى المجتمع نفسه. فقد وجد المواطن اللبناني نفسه منقسمًا بين ولاءات متناقضة، يبايع كل مجموعة على حساب الدولة الجامعة. فأصبح “الرئيس” ليس فقط منصبًا دستوريًا، بل هو كل زعيم محلي، وكل حزب، وكل مرجع ديني أو عسكري أو ميليشياوي. وهكذا تحولت الدولة إلى إطار شكلي فيما السلطة الحقيقية موزعة بين رؤوس متعددة، وهو ما جعل من لبنان نموذجًا عمليًا لخراب البلاد بكثرة الرؤساء.

3. النتائج الكارثية لكثرة الرؤساء في لبنان
إن كثرة الرؤوس في لبنان لم تبقَ مجرد إشكالية نظرية أو هواجس شعبية، بل تحولت إلى واقع ملموس انعكس سلبًا على حياة اللبنانيين. فمن الناحية الاقتصادية، أدى غياب القرار الموحد إلى انهيار مالي غير مسبوق، حيث تواطأت الطبقة السياسية المتعددة الرؤوس على نهب المال العام والمصارف. ومن الناحية السياسية، أسهمت الانقسامات في تعطيل الإصلاحات الضرورية، فباتت البلاد عاجزة عن استثمار المساعدات الدولية أو التوصل إلى حلول مستدامة لأزماتها. أما من الناحية الأمنية، فقد أنتج هذا التعدد فراغًا في القرار الوطني، سمح بانتشار الميليشيات والسلاح غير الشرعي، وجعل لبنان ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
إضافة إلى ذلك، انعكست كثرة الرؤوس على صورة لبنان الخارجية. فالمجتمع الدولي لم يعد يعرف مع من يتحدث: هل مع رئاسة الجمهورية، أم الحكومة، أم المجلس النيابي، أم القوى الحزبية المسلحة التي تمتلك الكلمة الفصل؟ هذا التشويش أفقد لبنان صدقيته على الساحة الدولية، وجعل المانحين يترددون في التعامل معه. وبذلك، أصبح البلد أشبه بسفينة تتقاذفها الأمواج بلا قبطان.
أما على المستوى الاجتماعي، فقد انعكس هذا الوضع في انهيار ثقة المواطن بالدولة. إذ لم يعد الفرد يرى في مؤسسات الحكم مرجعية موثوقة، بل بات يلجأ إلى طائفته وزعيمه لحماية مصالحه. فصار الانتماء الوطني ثانويًا أمام الانتماءات الجزئية، وهذا ما غذّى ثقافة الزبائنية والفساد، ورسّخ منطق الولاءات الموازية للدولة. وهكذا، فإن النتائج الكارثية لتعدد الرؤوس لم تكن مجرد أزمة حكم، بل أزمة كيان تهدد وجود لبنان برمته.

4. قراءة نقدية في دور النخب السياسية اللبنانية
لا يمكن الحديث عن كثرة الرؤوس في لبنان من دون التوقف عند مسؤولية النخب السياسية التي أسهمت في تكريس هذه الظاهرة. فالزعامات اللبنانية، بدل أن تسعى إلى بناء دولة حديثة تتجاوز الطائفية والمحاصصة، عملت على تأبيد الانقسام لحماية مصالحها. كل زعيم أو رئيس أراد أن يثبت أنه المرجعية الأولى لطائفته، حتى لو كان الثمن تعطيل الدولة. وهكذا تحولت القيادة السياسية إلى سباق في استعراض النفوذ، بدل أن تكون تنافسًا في خدمة المصلحة العامة.
إن النخب اللبنانية لم تدرك – أو لم ترد أن تدرك – أنّ كثرة الرؤوس هي بذاتها وصفة للخراب. فبدل أن تسعى لتوحيد القرار وتبسيط آليات الحكم، راحت تخلق مزيدًا من العُقد والتوازنات، حتى صار النظام غير قابل للإصلاح. ومن هنا، فإن المثل الشعبي لا يكتفي بوصف الحالة، بل يحاكم هذه النخب التي جعلت من لبنان نموذجًا فريدًا لبلد مهدد بالانهيار نتيجة وفرة الزعامات وتشتت المرجعيات.
لكن النقد لا يقتصر على السياسيين وحدهم، إذ إنّ المجتمع نفسه ساهم في تكريس هذه الظاهرة من خلال تبعيته العمياء للزعامات الطائفية. فكل جماعة اعتبرت أنّ ضعف الزعيم هو ضعف لها، فقامت بحمايته مهما كانت فساده أو إخفاقاته. وهكذا، فإن العلاقة بين الشعب والنخب أسهمت في إعادة إنتاج نظام الرؤوس المتعددة، بحيث صار المثل الشعبي توصيفًا دقيقًا لواقع تتشارك في صناعته السلطة والمجتمع معًا.
5. نحو تجاوز لعنة كثرة الرؤساء
إذا كان المثل الشعبي يحذر من خراب البلاد بكثرة الرؤوس، فإن التحدي في لبنان يكمن في كيفية تجاوز هذه اللعنة. فلا يمكن للبنان أن يستمر كدولة قابلة للحياة ما لم يتم الاتفاق على مرجعية وطنية واحدة تقود السفينة وسط العواصف. وهذا يتطلب إصلاحًا سياسيًا عميقًا يحدّ من تعدد الرؤوس ويعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة. الإصلاح يبدأ بإعادة النظر في النظام الطائفي الذي أسس لهذا التشظي، من خلال بناء دولة مدنية تفصل الدين عن السياسة وتوحّد الولاء تحت مظلة المواطنة.
كذلك، فإن تجاوز هذه اللعنة يقتضي إصلاحًا في الثقافة السياسية نفسها. فالمجتمع اللبناني بحاجة إلى أن يتحرر من منطق التبعية العمياء للزعماء، وأن يدرك أنّ قوة الدولة تكمن في وحدة مؤسساتها لا في تعدد مرجعياتها. وهذا يتطلب وعيًا جديدًا يترجم في الانتخابات، وفي بناء حركات سياسية مدنية تضع المصلحة الوطنية فوق المصالح الطائفية.
أما على المستوى العملي، فإن تجاوز كثرة الرؤوس يستلزم وضع آليات حوكمة واضحة تحد من قدرة الزعامات على تعطيل المؤسسات. وهذا يشمل مثلًا اعتماد قانون انتخابي عادل، وتعزيز استقلالية القضاء، وبناء مؤسسات عسكرية وأمنية موحدة تكون المرجعية الوحيدة في قرار الحرب والسلم. بهذا فقط يمكن للبنان أن يخرج من لعنة المثل الشعبي، ويثبت أنّ كثرة الرؤوس ليست قدرًا محتومًا، بل ظاهرة يمكن تجاوزها بإرادة سياسية وشعبية واعية.
6. الخاتمة
المثل الشعبي “إذا بدّك تخرب بلاد، ادعي عليها بكثرة الرؤسا” ليس مجرد عبارة تُتداول في المجالس، بل هو تعبير عن حكمة إنسانية عميقة تؤكد أنّ الفوضى تنشأ من غياب الرأس الموحد. وفي الحالة اللبنانية، يشكّل هذا المثل مفتاحًا لفهم مأساة بلد مزّقته كثرة الزعامات، حتى صار بلا بوصلة، يتخبط في أزماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. غير أنّ المثل، وإن كان توصيفًا للخراب، يمكن أن يكون أيضًا حافزًا للتغيير، إذا أدرك اللبنانيون أنّ خلاصهم يبدأ من تجاوز ثقافة تعدد الرؤوس نحو بناء دولة مؤسسات جامعة. عندها فقط يمكن للبنان أن يتحول من ساحة صراعات بين الرؤساء إلى وطن واحد برأس واحد،