كلب في حديقة البيت الأبيض:الأهتمام به يوازي في الأهتمام ساكن القصر
د. الياس ميشال الشويري
في المجتمعات التي تتأرجح بين القيم الأصيلة والانحدار الأخلاقي، تصبح بعض الأمثال الشعبية أو العبارات الموروثة بمثابة مرآة صادقة تكشف حجم التناقضات في الممارسات اليومية. من بين هذه العبارات، يبرز القول: “مات المير، ما حدا اهتم فيه؛ مات كلبو، كل الناس عزّت فيه“. هذه الجملة ليست مجرد تصوير عابر لموقف ساخر أو مفارقة اجتماعية، بل هي نصّ رمزي عميق يعكس اختلال منظومة القيم لدى الناس، وانحراف أولوياتهم، وتحوّل الاهتمام من الجوهر إلى المظهر، ومن الحقيقة إلى الزيف. في لبنان، الذي يعيش اليوم أزمة هوية وانهيارًا على المستويات كافة، يحمل هذا القول أبعادًا إضافية، لأنه يُسقط مباشرة على واقع شعبٍ غرق في الرموز الشكلية والتبجيل الأجوف بينما نسي الإنسان وقيمته وكرامته. إن البحث في هذا القول لا يقتصر على تحليل أدبي أو اجتماعي، بل هو مدخل لفهم طبيعة الأزمة اللبنانية في علاقتها بالسلطة، والدين، والطائفية، والإعلام، والعلاقات الاجتماعية.

- اللامبالاة تجاه الإنسان والاهتمام بالمظاهر
في كثير من الأحيان، يُختزل الإنسان في موقعه أو لقبه، فيُحتفى بالرموز الهامشية المرتبطة به أكثر مما يُحتفى بوجوده الإنساني ذاته. “المير” هنا يرمز إلى صاحب السلطة أو النفوذ الذي يفترض أن يكون له حضور عميق في الوجدان الجمعي، لكن موته لا يثير الحزن بقدر ما يثير اللامبالاة. في المقابل، موت الكلب – الذي يمثل شيئًا ثانويًا أو رمزًا تابعًا – يصبح مناسبة للتعزية الجماعية والتعبير عن الحزن. هذه المفارقة تعكس انتقال الاهتمام من القيمة الجوهرية إلى الرموز الفارغة، ومن الإنسان الذي يحمل تجربة وعطاءً إلى الكلب الذي لا يمثل إلا رمزًا للوجاهة أو التباهي.
في السياق اللبناني، يتجلى هذا بوضوح في تعامل المجتمع مع الشخصيات العامة. حين يرحل أحد الرموز الوطنية أو الثقافية، كثيرًا ما تمر وفاته بخجل أو بغياب الاحتفاء اللائق، بينما يثير موت حيوان أليف يملكه أحد الأغنياء أو المشاهير موجة عارمة من التعاطف الافتراضي والإعلامي. وهذا يكشف طبيعة الإعلام الاستعراضي الذي يضخم الأحداث الهامشية ويهمّش القضايا الجوهرية. إن موت المير الذي لا يُبكى عليه هو صورة للإنسان المهمّش الذي نُسي دوره، بينما موت كلبه الذي يُعزّي فيه الناس هو انعكاس لانحطاط الأولويات وتفضيل الشكل على المضمون.
هذا الانقلاب في القيم هو ما يجعل اللبناني يعيش حالة من فقدان المعايير، إذ لم تعد كرامة الإنسان أو مساهمته في بناء المجتمع هي المعيار الحقيقي للتقدير، بل صار التقدير يُمنح وفقًا لقدرة الحدث على إثارة الضجة والجدل. من هنا يصبح موت الكلب أكثر حضورًا من موت صاحبه، لأن الضجيج الإعلامي والاجتماعي وجد فيه مادة أسهل للاستغلال.

- رمزية السلطة وتحوّل الولاء
في عبارة “مات المير، ما حدا اهتم فيه“، تتضح صورة رمزية لزوال السلطة وما يرافقها من خفوت الاهتمام. فالمير، كرمز للزعيم أو صاحب القرار، حين يفقد موقعه أو حياته، يفقد معه قيمته لدى الناس الذين كانوا يتزلفون إليه. أما موت الكلب، فهو رمز لاستمرار الولاء للشكل الخارجي للسلطة، حتى وإن غابت السلطة نفسها. هذه الصورة تكشف العلاقة الانتهازية بين الشعب والسلطة: ما دام المير حيًا، يُخشى ويُهاب، لكن حين يموت، يصبح مجرد ذكرى لا تثير الحزن، بينما يُعزي الناس في كلبه كنوع من استمرار الطقوس الشكلية المرتبطة بالزعامة.
في لبنان، تُترجم هذه الصورة بشكل واضح في علاقة الناس بالزعامات السياسية والطائفية. حين يرحل الزعيم، يُستبدل سريعًا بوريثه من العائلة أو الحزب، ولا يُبكى عليه إلا بالقدر الذي يفرضه التقليد الطائفي أو الحزبي. في المقابل، تستمر الطقوس الفارغة – من صور وشعارات وأناشيد – وكأنها الكلب الذي مات فأثار عزاءً عامًا. هذه الطقوس لا تعبّر عن تقدير للزعيم كشخص أو كإنسان، بل عن استمرارية النظام الذي يقوم على الرموز الشكلية.
يتضح من هذا أن الولاء في لبنان ليس ولاءً لمشروع وطني أو لفكر، بل هو ولاء لشكل خارجي يمكن أن يكون رمزًا أو شعارًا أو حتى كلبًا. وهذه الحقيقة المؤلمة تكشف مدى تفكك العلاقة بين الشعب والسلطة، حيث تُبنى على الخوف أو المصلحة أو العادة، لا على الاحترام المتبادل أو الإيمان بالمبادئ. وهكذا يتحول موت الزعيم إلى حدث عابر، بينما يُبالغ في إحياء ذكرى كل ما يرمز إليه ولو كان مجرد تفاصيل ثانوية.
- الإعلام وصناعة الوهم الجماعي
لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن دور الإعلام في تضخيم الهامشي وتهميش الجوهري. الإعلام، في كثير من السياقات اللبنانية، أصبح مصنعًا للوهم الجماعي، يحدد للناس ما يجب أن يحزنوا عليه وما يجب أن يتجاهلوه. موت المير الذي يمر بصمت هو صورة لتغييب القضايا الكبرى، بينما موت كلبه الذي يُعزّي فيه الناس يعكس قدرة الإعلام على صناعة حدث من لا حدث. إن هذا التضخيم ليس بريئًا، بل هو جزء من صناعة رأي عام مشوّه، يُشغل الناس بتفاصيل سطحية فيما تُدفن الحقائق الكبرى بصمت.
في لبنان، يمكن ملاحظة كيف تعامل الإعلام مع كوارث إنسانية كبرى، مثل الانفجارات والحروب والانهيارات الاقتصادية. تمر الكوارث التي تطال حياة آلاف البشر بسرعة، ويُستبدل بها خبر تافه عن نجوم الفن أو حيوانات أليفة. إن هذا الانحراف في سلم الأولويات يجعل اللبناني يعيش في حالة من الاغتراب، إذ يشعر أن معاناته الفردية والجماعية ليست مهمة بقدر أهمية تفاصيل ترفيهية أو شكلية. الإعلام هنا لا ينقل الحقيقة، بل يصنع الوهم ويعيد إنتاجه.
من هذا المنطلق، يصبح موت كلب المير أكثر إثارة للجدل الإعلامي من موت المير نفسه، لأن الإعلام اعتاد أن يضخم ما يثير العاطفة السطحية لا ما يحرّك التفكير النقدي. هذه الممارسة تسهم في تكريس واقع مشوّه، حيث تُهمّش المأساة الإنسانية ويُحتفى بالتفاصيل الفارغة، في عملية مستمرة من تسطيح الوعي العام.

- المجتمع بين النفاق والتبعية
العبارة تكشف أيضًا عن طبيعة النفاق الاجتماعي الذي يطبع سلوكيات الكثيرين. فالناس، بدل أن يُظهروا اهتمامًا حقيقيًا بالإنسان المير، يظهرون حرصًا مبالغًا فيه على تقديم التعازي في موت كلبه، لأن ذلك يُظهر ولاءهم وتبعيتهم. هذه الازدواجية ليست إلا وجهًا آخر من وجوه الرياء الاجتماعي، حيث لا يُقاس الاحترام بالصدق، بل بالقدرة على مجاراة الطقوس الاجتماعية.
في لبنان، يظهر هذا النفاق بشكل يومي في المناسبات العامة والخاصة. كم من شخصية عامة رحلت فلم يُذرف عليها دمعة صادقة، بينما امتلأت وسائل الإعلام ووسائل التواصل ببرقيات عزاء رتيبة لا تحمل أي معنى سوى الرياء. وكم من مأساة إنسانية كبرى مرت بصمت، بينما تحولت مناسبة تافهة إلى مهرجان من التصفيق والنفاق. هذا المشهد يوضح أن المجتمع اللبناني، الذي عانى من الحروب والانقسامات، فقد القدرة على التمييز بين الجوهر والزيف، وصار يقيس علاقاته على أساس الطاعة والتبعية لا على أساس القيم الحقيقية.
من هنا يمكن القول إن موت كلب المير الذي يُعزّى فيه الناس ليس تعبيرًا عن حزن حقيقي، بل عن حاجة للتظاهر بالولاء والاستمرار في دوامة الرياء الاجتماعي. وهذه الحالة تفضح هشاشة القيم الجماعية وتكشف أن المجتمع يعيش في ظل قشرة سطحية تُخفي فراغًا قيميًا عميقًا.

- لبنان بين انهيار القيم وفقدان الإنسان
إن جوهر هذه العبارة يكتمل حين نضعها في سياق لبنان الحديث، حيث يعيش الناس في ظل انهيار كامل للقيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لبنان الذي كان يُعرف بالإنسان المبدع والمثقف، صار اليوم بلدًا لا يقدّر إنسانه بقدر ما يقدّر الشعارات الفارغة. موت المير بلا اهتمام هو موت الإنسان الحقيقي الذي لم يعد له مكان في معادلة السلطة، بينما موت كلب المير هو صورة للرموز المصطنعة التي تستحوذ على اهتمام المجتمع.
الواقع اللبناني اليوم هو تجسيد لهذه المفارقة. حين يموت إنسان فقير على أبواب المستشفيات لعدم قدرته على العلاج، يمر الخبر بصمت. وحين يخسر شاب حياته في الهجرة غير الشرعية، بالكاد يُذكر اسمه. في المقابل، حين يتعرض رمز من رموز الطائفية أو تافه من تفاصيل حياة المشاهير لأي حادث، تُفتح له الشاشات وتُطلق الحملات الإعلامية. هذا المشهد ليس إلا استمرارًا لعبارة “مات المير، ما حدا اهتم فيه. مات كلبو، كل الناس عزّت فيه“، التي تختصر مأساة وطن غابت فيه قيمة الإنسان.
إن ما يكشفه هذا القول هو أن لبنان، في صورته الراهنة، يعاني من انهيار ليس اقتصاديًا أو سياسيًا فحسب، بل قيميًا وأخلاقيًا أيضًا. فالأولوية لم تعد للإنسان أو لحقوقه، بل للرموز الشكلية والطقوس الفارغة. وهذا الانحدار لا يهدد المجتمع فحسب، بل يهدد معنى الوطن نفسه، لأنه وطن بلا إنسان، ومجتمع بلا قيم، وسلطة بلا أخلاق.

- الخاتمة
إن العبارة الشعبية “مات المير، ما حدا اهتم فيه. مات كلبو، كل الناس عزّت فيه” ليست مجرد سخرية عابرة من مفارقة اجتماعية، بل هي نصّ مكثف يلخص مأساة الإنسان في مجتمع منحاز للمظاهر والطقوس أكثر من الجوهر والقيم. في لبنان، تتخذ هذه العبارة معنى أكثر عمقًا، لأنها تكشف طبيعة العلاقة بين الناس والسلطة، بين الإعلام والحدث، وبين المجتمع والقيم. لقد صار الإنسان اللبناني مهمّشًا في موته كما في حياته، بينما تحظى الرموز الشكلية بكل الاهتمام. وما لم يُستعاد الاعتبار لقيمة الإنسان فوق كل شعار أو رمز، فإن لبنان سيبقى أسير هذه المفارقة القاتلة التي جعلت موت الكلب أهم من موت المير، وجعلت موت المواطن البسيط حدثًا عابرًا لا يُذكر.