إغراء مالي
د. الياس ميشال الشويري.
المثل الشعبي اللبناني “البرطيل بيحلّ دكّة القاضي” ليس مجرد قول مأثور، بل هو انعكاس صادق لتجربة اللبنانيين الطويلة في مواجهة الفساد، المحسوبية، والنفوذ المالي داخل المجتمع والمؤسسات الرسمية. هذا المثل، الذي يُستعمل على نطاق واسع في الثقافة الشعبية اللبنانية، يشير إلى قدرة المال على تجاوز القوانين والتأثير على السلطة القضائية، ويكشف بأسلوب ساخر وحكيم في الوقت نفسه عن ضعف المؤسسات الرسمية في مواجهة النفوذ المالي.
يشكّل المثل نموذجًا واضحًا لتفاعل الثقافة الشعبية مع الواقع الاجتماعي والسياسي في لبنان، حيث يعكس تجربة يومية يمر بها المواطن في التعامل مع السلطة والبيروقراطية، ويعطي صورة صريحة عن التحديات التي يواجهها المواطن العادي في بلد تتشابك فيه المصالح الشخصية مع مؤسسات الدولة.
يتناول هذا المقال تحليل المثل من ثلاث زوايا رئيسية: البُعد الاجتماعي والثقافي، البُعد السياسي والمؤسسي، وانعكاساته على الواقع اللبناني، وذلك من خلال قراءة معمّقة لكل محور تهدف إلى فهم دلالاته العميقة ودوره في تشكيل الوعي الشعبي.
1. البُعد الاجتماعي والثقافي للمثل
الأمثال الشعبية في لبنان هي نتاج تراكم طويل للتجارب الجماعية، وهي تعكس وعي المجتمع بقضاياه اليومية وتجارب أفراده مع السلطة والقانون. “البرطيل بيحلّ دكّة القاضي” ليس استثناءً من هذه القاعدة، بل يمثل حالة نموذجية للتجربة اللبنانية في مواجهة السلطة الرسمية والنفوذ المالي. فقد نشأ هذا المثل في سياق اجتماعي وتاريخي مليء بالتحديات، حيث كان النفوذ المالي والمصالح الشخصية يؤثران على سير العدالة والقانون، ويتيحان لبعض الأفراد تجاوز القواعد والإجراءات القانونية بسهولة بينما يظل المواطن العادي محاصرًا بالبيروقراطية والإجراءات الطويلة. هذه التجارب اليومية أصبحت مادة خصبة للأمثال الشعبية، حيث استخدم الناس الحكمة الساخرة لنقل إحباطاتهم وتجاربهم الواقعية بطريقة تعكس الواقع الاجتماعي المعقد.

ومع مرور الوقت، أصبح المثل رمزًا للفهم الشعبي لكيفية عمل السلطة وتأثير المال عليها، وأداة تعليمية تُستخدم لنقل خبرات الأجيال حول الفساد والعدالة، إذ يكشف عن إدراك المجتمع بأن العدالة الرسمية قد تتأثر بعوامل خارجية تفوق القانون في تأثيرها على القرارات. المثل غني أيضًا بالرمزية؛ فـ”البرطيل” يمثل المال أو النفوذ المادي، بينما “دكّة القاضي” ترمز إلى مركز السلطة القضائية، وهذا يعبّر عن صراع مستمر بين القيم الأخلاقية والمبادئ القانونية من جهة، وبين المصالح الشخصية والنفوذ المالي من جهة أخرى. وبهذه الرمزية، ينقل المثل نقدًا اجتماعيًا غير مباشر، إذ يوضح إحباط المجتمع من عدم توفر العدالة للجميع بنفس المستوى، ويجعل التجارب اليومية، مثل دفع الرشاوى لتسريع المعاملات أو لتجنب العقوبات القانونية، جزءًا من وعيه الجمعي.
كما أن المثل يتجاوز مجرد النقد ليصبح أداة تعليمية، إذ يعلم الناس الفرق بين العدالة النظرية والعدالة الواقعية، ويبرز أن المال يمكن أن يتجاوز القوانين ولكنه لا يضمن العدالة الحقيقية، وهو ما يمنحه قيمة أخلاقية وثقافية تربوية عميقة. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن المثل الشعبي لا يقتصر على كونه وصفًا للواقع، بل يشكل وسيلة تعليمية للأجيال لتوجيه السلوك الاجتماعي وتكوين وعي نقدي منذ الصغر، كما يعكس قدرة الثقافة الشعبية على التكيف مع الظروف الاجتماعية والسياسية المعقدة، ويؤكد على دور التقاليد في نقل خبرات الحياة اليومية وتوجيه السلوك الأخلاقي والاجتماعي للمواطنين.
2. البُعد السياسي والمؤسسي للمثل
المثل يسلط الضوء بوضوح على العلاقة بين المال والسلطة داخل المؤسسات الرسمية، ويبرز التحديات التي تواجه العدالة في لبنان. من المعروف أن بعض المؤسسات القضائية والإدارية في لبنان قد تتأثر بالمال أو النفوذ الاجتماعي، ويصبح “البرطيل” أداة للضغط على “دكّة القاضي“، أي مراكز اتخاذ القرار. ويعكس المثل وعي المجتمع بأن العدالة قد تكون محدودة، وأن القرارات القضائية والإدارية ليست دائمًا محايدة، ما يجعل المثل أداة نقد اجتماعي سياسي ذكية وفعّالة.
كما يوضح المثل كيف يمكن للمال والنفوذ أن يشوّها تطبيق العدالة، ويجعل التجربة اليومية للمواطن اللبناني مليئة بالتحديات، إذ قد يحتاج المواطن إلى وساطة مالية أو نفوذ لتسهيل المعاملات أو الحصول على حقوقه القانونية، وهو ما يعكس فجوة بين النصوص القانونية وبين الواقع العملي لتطبيق العدالة. ويبرز المثل كذلك ظاهرة المحسوبية والفساد، إذ يمثل “البرطيل” أي شكل من أشكال الرشوة أو المصالح الشخصية التي تُستخدم لتجاوز القوانين، بينما ترمز “دكّة القاضي” إلى السلطات الرسمية المفترض أن تكون مستقلة.
في هذا السياق، ينقل المثل إحباط المواطنين من غياب المساواة أمام القانون، ويكشف أن النفوذ المالي يغيّر النتائج ويحد من العدالة، مما يجعل المثل وسيلة تعليمية سياسية تعزز الوعي المجتمعي وتشجع المواطنين على مراقبة المؤسسات ومساءلة المسؤولين. إضافة إلى ذلك، يعزز المثل وعي المواطنين بحقوقهم وواجباتهم تجاه الدولة، ويشجعهم على المشاركة الفعّالة في المجتمع المدني، والمطالبة بالشفافية، والنقد البناء، ليصبح جزءًا من الثقافة النقدية التي تساعد على فهم التأثيرات الخفية للمال والنفوذ على مراكز القرار، كما يوضح أن العدالة ليست مجرد نصوص قانونية، بل مسؤولية جماعية تتطلب متابعة مستمرة من المجتمع المدني والضغط الشعبي والمراقبة الدائمة، وهو ما يفسّر استمرارية تداول هذا المثل عبر الأجيال.
3. انعكاسات المثل على الواقع اللبناني
المواطن اللبناني يواجه تجربة المثل يوميًا في حياته العملية، من المعاملات القضائية إلى الإجراءات الإدارية والاجتماعية، حيث يلاحظ كيف يمكن للمال والنفوذ أن يحلّ مكان العدالة ويؤثر على النتائج بطريقة واضحة وملموسة. هذه التجربة اليومية تجعل المثل أكثر وضوحًا وواقعية، وتكشف فجوة كبيرة بين النصوص القانونية وما هو مطبّق فعليًا، بحيث يدرك المواطن أن المحسوبية والرشاوى جزء من الحياة اليومية، ويصبح المثل أداة دقيقة للتعبير عن هذا الواقع.
ومن خلال هذا الفهم، يبرز دور المجتمع المدني في مواجهة الفساد، إذ يدرك المواطن الحر أن العدالة ليست مسؤولية القانون وحده، بل مسؤولية جماعية تتطلب متابعة مستمرة، ووعيًا ثقافيًا للحد من استغلال النفوذ المالي، وضغطًا شعبيًا دائمًا. الجمعيات المدنية، والمدارس، والمؤسسات التربوية يمكن أن تستخدم هذا المثل لتعليم الشباب قيم العدالة، والشفافية، والوعي بالفساد، وهو ما يعزز دور الثقافة الشعبية في التربية المدنية والسياسية.
كما يحمل المثل تحذيرًا ضمنيًا من استمرار استغلال المال والمحسوبية، إذ يؤدي ذلك إلى فقدان العدالة والثقة بالمؤسسات، لكنه في الوقت نفسه يحمل رسالة أمل، إذ أن وعي المجتمع بهذه الظواهر هو الخطوة الأولى نحو التغيير. في لبنان، حيث التجارب السياسية والاجتماعية مليئة بالتحديات، يذكّر المثل الجميع بأن المال قد يحلّ “دكّة القاضي“، لكن المجتمع الواعي يمكن أن يقف ضد هذا الاستغلال ويطالب بتطبيق العدالة، ليصبح المثل مرآة للواقع المستقبلي، تحفز على المشاركة والمساءلة والعمل المدني الفاعل.
4. الخاتمة
المثل الشعبي اللبناني “البرطيل بيحلّ دكّة القاضي” هو وثيقة ثقافية واجتماعية وسياسية تعكس تجربة اللبنانيين الطويلة مع الفساد والمحسوبية وعدم المساواة أمام القانون. من خلال تحليله، ندرك أن الثقافة الشعبية تحمل نقدًا اجتماعيًا عميقًا، وفهمًا مسبقًا لتأثير المال على العدالة والمؤسسات. في لبنان، يبقى المال قوة نافذة يمكن أن تتجاوز القوانين، لكن الوعي الشعبي والثقافة المدنية يشكلان السلاح الأقوى لمواجهة هذا الواقع. يذكّر المثل الجميع بأن العدالة ليست مسألة نصوص فقط، بل مسؤولية مجتمعية تتطلب وعيًا، ونشاطًا، وإصرارًا على محاسبة الفاسدين واستعادة الثقة بالمؤسسات، ليبقى المثل جزءًا حيًا من وعي المجتمع اللبناني وتجاربه اليومية.