ساعة ساحة البرلمان اللبناني في فمها ماء
د. الياس ميشال الشويري
الزمن في لبنان ليس مجرّد تتابعٍ للساعات والأيام، بل هو تجربة جماعية مثقلة بالخيبات والتكرار والانتظار. حين يتناول الفنّان الراحل زياد الرحباني موضوع “تقديم الساعة وتأخيرها” في أحد مقاطعه الساخرة، يبدو وكأنه يعبّر عن جوهر الوعي اللبناني المرهق: دولة تُبدّل التوقيت لتُظهر النظام والانضباط، بينما واقعها يزداد فوضىً وتأخراً. في هذا المفصل الدقيق، يتحوّل “تبديل الساعة” من إجراء إداري إلى مرآةٍ لخللٍ أعمق في البنية السياسية والاجتماعية والفكرية.
من هنا ينطلق هذا المقال، الذي يتناول رمزية الزمن في نص زياد الرحباني ويقرأها كمرآة للواقع اللبناني، من خلال ثلاثة محاور أساسية:
– الأول، في معنى الزمن والتأخّر، وكيف تحوّل الوقت إلى استعارة للضياع الجماعي.
– الثاني، في العلاقة بين القرار والمؤسسات، وكيف يتحوّل القرار إلى مسرحية شكلية.
– الثالث، في الزمن والهوية، حيث تتجلى معاناة اللبناني بين ماضٍ يُلاحقه ومستقبلٍ لا يأتي.

1. الزمن والتأخّر – من عبث الساعة إلى عبث التاريخ
حين يقول زياد الرحباني في نصّه الشهير: “شو في ورانا؟ ليش بيلعبوا فيا للساعة؟”، فهو لا يسخر من تبديل الساعة بقدر ما يفضح العقلية التي تتعامل مع الزمن كأنّه أداة في يد السلطة. فالساعة هنا ليست ساعة الحائط، بل ساعة الوطن الذي يُقدَّم أو يُؤخَّر وفق مصالح المتحكّمين به. هذا السؤال الذي يبدو بسيطاً في شكله، يحمل في عمقه إدانة لنظامٍ سياسيٍّ يعبث بالزمن كما يعبث بالمصير، وكأن الوقت في لبنان مجرّد لعبةٍ بين الحكّام لا قيمة حقيقية له عند الناس.
المفارقة المؤلمة أن لبنان يعيش حالة زمنية معكوسة: كلّما تقدّمت عقارب الساعة، تأخّر البلد خطوة إضافية نحو الهاوية. ما يسمّيه العالم “توقيتاً صيفياً أو شتوياً” أصبح في لبنان مجازاً عن “توقيتٍ سياسـيٍّ” تتحكّم به الطوائف والمصالح. هكذا، يصبح تقديم الساعة مجرّد قناعٍ لتأخّرٍ بنيويٍّ عميقٍ، حيث يعيش المواطن بين ماضٍ يتكرّر ومستقبلٍ لا يُولد.
يقول الرحباني: “كل سنة بتقدّموا الساعة ساعة وبتأخّرونا عشر سنين لورا بنفس الوقت“. هذه الجملة وحدها تختصر فلسفة الزمن اللبناني. في كل عام تُعلن الدولة تعديل التوقيت، لكنّها لا تعدّل واقع الكهرباء ولا المعيشة ولا العدالة. إنّها المفارقة بين الزمن الرسمي والزمن الواقعي: زمن الورق وزمن الناس. فبينما الساعة تُقدَّم أمام الشاشات، تتراجع حياة الناس إلى الوراء، حيث الفقر يتعمّق والفساد يتجدّد والفساد يتناسل.
إنّ “العشر سنوات” التي يتحدّث عنها زياد ليست مجرّد رقمٍ رمزي، بل صورة لتراكم الزمن الضائع. عشر سنوات في التعليم، في البنى التحتية، في القضاء، في الحلم ذاته. إنّها السنوات التي تلتهمها الوعود الفارغة والخطط غير المنفّذة. والنتيجة أنّ لبنان، رغم كلّ الأزمات، ما زال يدور في الدائرة نفسها، كمن يُحرّك الساعة من دون أن يتحرّك هو قيد أنملة.
حين يسخر الرحباني قائلاً: “شو في ورانا نحنا؟ ليش؟ ما بنشوف الليل ولا النهار… إنّو شو بمدينة تورينو نحنا؟”، فإنّ السؤال يتجاوز العبث بالتوقيت إلى العبث بالهوية. فالمقارنة مع “مدينة تورينو” الأوروبية تفضح الشعور بالاغتراب: لبنان ليس تورينو، ولا يعيش اللبنانيون تحت نظامٍ يحترم زمنهم أو كرامتهم. الزمن الأوروبي محسوب بالإنجاز، والزمن اللبناني محسوب بالانتظار.
هذا الاغتراب عن الذات يجعل اللبناني يعيش بين زمنين متناقضين: زمن الخارج الذي يراه عبر الشاشات، وزمن الداخل الذي يعيشه بين الانقطاع والشلل والانهيار. وبينهما يتلاشى الشعور بالزمن الإنساني الحقيقي، فيتحوّل اللبناني إلى مخلوقٍ يعيش في “دائرة مغلقة” من التأجيل الدائم، كأنّ تاريخه الشخصي رهينةٌ لعقاربٍ تدور بلا هدف.

2. القرار والمؤسسات – الدولة التي تؤخّر مواطنيها
الساعة في نصّ زياد ليست موضوعاً إدارياً بل مؤشراً على مرضٍ مؤسّسيٍّ عميق. فالدولة اللبنانية التي تُصدر قراراً بتبديل الساعة هي نفسها الدولة التي تعجز عن تبديل سياساتها الفاسدة. كلّ قرارٍ في لبنان يبدأ من “التوقيت” ولا ينتهي بـ “التوقيت“، لأنّه لا يلامس الجوهر. إنّها دولةٌ تُجيد التجميل وتفشل في التغيير، تُعلن التقدّم بينما تغرق في التأخّر.
القرار الإداري البسيط بتحريك الساعة ساعةً إلى الأمام أو الخلف يكشف عقلية النظام التي تتعامل مع الشعب كما لو كان جمهوراً في مسرحية، لا مواطنين شركاء في الوطن. فحين يغيب التفسير والشفافية والمشاركة، يصبح القرار شكلاً من أشكال الوصاية: الدولة تُقرّر، والناس تُطيع. وبهذا المعنى، يتحوّل الزمن نفسه إلى رمزٍ للسلطة التي تملك حقّ إدارة حياة الناس كما تشاء.
في لبنان، المؤسّسات تُصدر قرارات لا يعرف الناس سببها ولا نتيجتها. تُعلَن مشاريع الإصلاح كما تُعلَن مواسم التوقيت الصيفي، ثمّ تُنسى مع أول عاصفة سياسية. هذه الدورة الزمنية القاتلة تُحوّل القرارات إلى تكرارٍ رتيبٍ بلا مضمون. وكما يقول زياد: “بيقدّمونا ساعة وبيأخّرونا عشر سنين”، فإنّ اللبناني يرى الإصلاحات تُعلن، لكنه يكتشف بعد سنوات أنّها كانت مجرّد “إعلاناتٍ موسمية“.
هذه السخرية تحوّلت إلى وجعٍ وطنيٍّ حقيقي: فالشعب بات يعيش في مفارقةٍ بين دولةٍ تتصرّف وكأنّ كلّ شيءٍ بخير، وواقعٍ ينهار كلّ يوم. القرارات التي يُفترض أن تُقدّم الزمن نحو الأمام صارت سبباً لتأخّره. فالسياسة النقدية، والقوانين الاقتصادية، والاتفاقات الدولية، كلها مشاريع “تقديم ساعةٍ” ونتائجها “تأخير عمر“.
القرار في لبنان لم يعد أداةً للتقدّم بل وسيلةً للتأجيل. حين تُصدر الحكومة قراراً فهي تؤجّل المشكلة لا تحلّها، وحين تُنظّم اجتماعاً فهي تُنظّم الوقت لا العمل. في نصّ زياد، التلاعب بالساعة يرمز إلى هذا التلاعب الدائم بالمصير. فالحاكم الذي يُبدّل الساعة يستطيع أن يُبدّل القانون والعدالة والمحاسبة بالطريقة نفسها.
لقد صار الزمن اللبناني مملوكاً للسلطة، بينما المواطن يكتفي بالانتظار. ينتظر الكهرباء، الماء، الوظيفة، العدالة، والإصلاح. ينتظر كما تنتظر الساعة من يُعيد ضبطها. لكنّ المأساة أن أحداً لا يملك مفتاح الزمن اللبناني لأنّ القرار مؤجَّل والضمير مغيَّب. وهكذا يعيش لبنان “تأخيراً دائماً” يبتلع أعمار الناس جيلاً بعد جيل.

3. الزمن والهوية – بين الساعة والتاريخ
الزمن ليس فقط حركة عقارب، بل هو وعيٌ جماعيٌّ بالذات وبالمستقبل. في لبنان، هذا الوعي مشوّهٌ بفعل الحروب والانقسامات. حين يسخر زياد الرحباني من “اللعب بالساعة“، فهو في الحقيقة يصرخ ضدّ اللعب بالهوية. لأنّ الهوية التي لا تملك زمناً خاصاً بها هي هويةٌ فاقدةٌ للاتجاه.
اللبناني اليوم يعيش انفصاماً زمنياً: هو في الماضي حين يتذكّر مجد الأرز، وفي الحاضر حين يعاني أزماتٍ لا تنتهي، وفي المستقبل حين يحلم بالهجرة. لذلك أصبح “تبديل الساعة” استعارةً عن تبديل الانتماء والهوية، وعن هشاشة العلاقة بين اللبناني وزمنه الوطني. إنّ لبنان الذي قدّم للعالم فيروز وزياد، يبدو اليوم عاجزاً حتى عن تنظيم توقيته.
الساعة الأوروبية التي يتهكّم عليها الرحباني ليست مجرد نموذجٍ للتنظيم، بل هي رمزٌ للزمن الحديث الذي يقيس التقدّم بالعمل لا بالكلام. أما الساعة اللبنانية فهي ساعة انتظار: انتظار الراتب، وانتظار الحلّ، وانتظار المعجزة. وبين هاتين الساعتين يعيش اللبناني انقساماً داخلياً بين حلمه الغربي وواقعه الشرقي، بين طموحه نحو الحداثة وتمسّكه بزمن الطائفة والمذهب.
هذه المفارقة تُنتج هويةً متعبة، متردّدة، لا تعرف إن كانت تنتمي إلى ماضٍ مجيد أم إلى حاضرٍ منهار. لذلك، حين يقول زياد “شو نحنا بمدينة تورينو؟”، فهو لا يستهزئ بالغرب، بل يفضح عقدة المقارنة التي تحكمنا. نحن نريد أن نكون مثل أوروبا، لكنّنا لا نملك شجاعة الأوروبيين في مواجهة الفساد ولا نظامهم في احترام الوقت والعمل.
إنّ الزمن الذي يُطالبه زياد هو زمنُ الصدق، لا زمنُ الساعة. فاللبناني لا يحتاج إلى “تقديم الوقت” بل إلى “تقديم الوعي“. إنّ السخرية في نصّه هي نداءٌ لثورةٍ فكريةٍ على عبودية الزمن الزائف، حيث نُقدّم في المظاهر ونتأخّر في الجوهر. الوطن الذي يقدّم ساعته ولا يقدّم أبناءه نحو الكرامة يعيش مفارقةً لا تُحتمل: زمنٌ يمضي بلا تقدّم، وناسٌ تتقدّم نحو المجهول.
إنّ الحلّ ليس في إلغاء التوقيت الصيفي أو الشتوي، بل في إلغاء التوقيت السياسي الذي يؤجّل كلّ إصلاح إلى إشعارٍ آخر. فحين تتوقّف عقارب الفساد، يبدأ الزمن اللبناني الحقيقي. أمّا ما دون ذلك فهو استمرارٌ في لعبةٍ عبثيّةٍ تستهلك الأعمار وتسرق المستقبل.

4. الخاتمة
الزمن في لبنان لم يعد يقاس بالدقائق والساعات، بل بالخيبات المؤجّلة والأحلام المؤجّلة أيضاً. لقد نجح زياد الرحباني، في مقطعٍ ساخرٍ لا يتجاوز بضع جمل، في تلخيص مأساة وطنٍ بأكمله: وطنٌ يقدّم ساعته ويؤخّر شعبه، يُغيّر التوقيت ولا يُغيّر الواقع.
الساعة التي يتلاعب بها المسؤولون هي مرآةٌ لبلدٍ يظنّ أنّ الزمن ملك يده، بينما الحقيقة أنّه يضيع منه عاماً بعد عام. وبين كلّ تقديمٍ وتأخير، يتأكّد اللبناني أنّ المشكلة ليست في الوقت بل في من يتحكّم به. وهكذا، يبقى السؤال الذي طرحه زياد منذ عقود قائماً حتى اليوم: “شو في ورانا؟”
الجواب المؤلم: لا شيء سوى وطنٍ ينتظر أن تبدأ ساعته من جديد — ساعة الحقّ، ساعة الإصلاح، ساعة الولادة الثانية للبنان الذي تعب من التوقيت الزائف، ويريد أن يعيش أخيراً على توقيت الحقيقة.
























































