توم برّاك كلام قاسٍ و لكن…
د. الياس ميشال الشويري
لم تكن تصريحات الدبلوماسي الأميركي توم برّاك حول الوضع اللبناني مجرّد مداخلة عابرة في مشهد سياسي مأزوم، بل كانت بمثابة صفعة ناعمة في وجه طبقة سياسية فاسدة تعيش حالة إنكار جماعي، وتغطي فشلها بشعارات سيادية وممانعات لفظية. تحدّث الرجل بوضوح عن غياب تطبيق الدستور، وعن انهيار الإصلاح، وعن العجز في الكهرباء والمياه، وعن الفضيحة الأخلاقية والمالية التي يمثلها ملف رياض سلامة. وبينما انشغلت القوى السياسية بالردّ على مواقفه من إسرائيل وحزب الله، تجاهلت الأسئلة الجوهرية التي طرحها: هل أخطأ في توصيف الفشل؟ هل ظلم أحدًا عندما قال إن لبنان لا يُحكم بل يُنهب؟
في هذا المقال، سنقف عند هذه الأسئلة بتمعّن، لنفهم أن صوت الخارج أحيانًا لا يكون تدخّلًا، بل مرآة لما نرفض رؤيته في الداخل.

1. الحقيقة المُرّة في توصيف الأداء السياسي اللبناني
ما قاله توم برّاك لم يكن تحليلًا سياسيًا متحيّزًا، بل تشخصًا دقيقًا لواقعٍ لبناني مأزوم. حين تحدّث عن عدم تطبيق الدستور، لم يكن يتحدّث عن مفهوم نظري، بل عن بلد تحوّل فيه الدستور إلى ورقة تجميلية تُستخدم عند الحاجة وتُهمل عند الضرورة. فالدستور الذي نصّ على فصل السلطات لم يمنع تقاسمها بين الزعماء الطائفيين، والدستور الذي دعا إلى دولة مدنية تُدار بالكفاءة لا بالمذهب، أصبح مجرّد ديكور يُغطّي نظام الزبائنية. في لبنان، تُنتهك المواد الدستورية يوميًا بلا مساءلة، من تعطيل الانتخابات الرئاسية إلى تجاوز القوانين في التعيينات والمناقصات، ما جعل البلاد في حالة شلل مؤسساتي دائم. حين قال برّاك إن الطبقة السياسية لم تطبّق الدستور، فقد وصف حقيقة يعرفها اللبنانيون قبل غيرهم، لكنهم اعتادوا الصمت عليها لأنها أصبحت جزءًا من “الطبيعة السياسية اللبنانية.”
أما حديثه عن الفشل في الإصلاح، فهو ليس مجرد اتهام دبلوماسي، بل انعكاس لمسار طويل من الوعود الكاذبة التي لم تنتج سوى مزيد من الانهيار. كل حكومة في لبنان منذ التسعينات رفعت شعار “الإصلاح“، وكل وزير تعهّد بـ”مكافحة الفساد“، لكن النتيجة كانت تضخم الدين العام إلى أكثر من مئة مليار دولار، وانهيار الليرة، وتهريب أموال المودعين. الإصلاح في لبنان بات أداة سياسية لشراء الوقت لا لتحسين الواقع، فكل طرف يستخدمه لتجميل صورته أمام المجتمع الدولي، لا لإحداث التغيير البنيوي. لذلك، حين يتحدث برّاك عن فشل الإصلاح، فهو في الحقيقة يصف جمهورية قائمة على التناقض بين الخطاب والممارسة؛ حيث تُطلق الوعود في المؤتمرات وتُدفن في الصفقات، وحيث الوزراء يعلنون عن خطط التعافي المالي بينما المصارف تواصل نهب المودعين بلا رادع.
اللافت أن برّاك لم يكتفِ بالنقد، بل ربط الفشل بالمسؤولية السياسية المباشرة. فحين قال إنّ اللبنانيين لم ينجحوا في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، كان يشير إلى عمق الانقسام بين القوى التي تُفضّل الحفاظ على مصالحها المصرفية والمالية بدل إنقاذ الدولة. من هنا، لم يكن تصريحه تحقيرًا للبنان، بل إدانة لمن جعله رهينة للجشع الداخلي. فالإصلاح الحقيقي لا يحتاج إلى وصاية خارجية، بل إلى إرادة سياسية، وهذه الإرادة غائبة منذ عقود. إنّ من يستمع إلى توم برّاك بإنصاف يدرك أنّ ما قاله ليس نقدًا سياسيًا بل تشريحًا لجثة دولة ماتت واقفة، لأنّ حكّامها لم يعرفوا معنى الحياة العامة.

2. الفساد المنظّم وملف رياض سلامة كنموذج للفضيحة
عندما وصف توم برّاك ملف رياض سلامة بالفضيحة، لم يكن يقصد شخص الحاكم السابق فحسب، بل المنظومة التي حَمَتْه لعقود طويلة، رغم كل التقارير والاتهامات الدولية. فسلامة لم يكن مجرد موظف كبير، بل كان رمزًا لنظام اقتصادي بُني على الخداع والنهب المقونن. طوال ربع قرن، كانت السياسات النقدية تُقدّم كإنجازات وطنية، بينما هي في الواقع قنابل موقوتة فجّرت ودائع الناس ودمرت الثقة بالدولة. ما يثير الغضب أن الطبقة السياسية التي تدافع اليوم عن سيادة القانون، هي نفسها التي غطّت مخالفات سلامة لأنها استفادت من منظومة الفساد المالي. وهكذا، تحوّل مصرف لبنان من مؤسسة نقدية إلى مصرف سياسي يدير أموال الطوائف لا أموال الدولة.
الفضيحة لا تكمن فقط في الأرقام، بل في العلاقة المريضة بين السياسة والمال في لبنان. حين ينهار الاقتصاد، لا يستقيل أحد؛ حين يُتهم الحاكم بالاختلاس، تُشكل لجنة للدراسة؛ وحين يختفي عشرات المليارات، يُقال إنّها “تبخّرت“. هذا النمط من اللاعقاب هو جوهر الفساد اللبناني. وما أشار إليه برّاك ليس سِرًّا، بل حقيقة يعرفها كل لبناني، من المودع الصغير إلى الخبير المالي. إلا أن الجديد في كلامه هو أنّ العالم لم يعد يصدّق أكاذيب الطبقة الحاكمة. فالعواصم الغربية، رغم مصالحها، باتت تدرك أنّ لبنان لم يعد دولة بالمعنى المؤسساتي، بل مزرعة تُدار وفق مصالح الزعماء والمصارف، وأنّ أي إصلاح حقيقي يبدأ من محاسبة من أدار اللعبة المالية طوال العقود الماضية.
لكن، في المقابل، فإنّ موقف برّاك أظهر مدى حساسية النخبة اللبنانية تجاه أي نقد خارجي، حتى لو كان موضوعيًا. فبدل أن تسأل الطبقة السياسية نفسها كيف وصلت البلاد إلى هذا الدرك، انشغلت باتهام الرجل بالتدخل في الشؤون الداخلية. هذه الذهنية الدفاعية هي بالضبط ما جعل لبنان دولة فاشلة بالمعنى الكامل للكلمة: دولة لا تواجه الحقيقة بل تهرب منها، لا تحاسب المقصّرين بل تحارب من يكشفهم، لا تسعى إلى الحلول بل إلى التبريرات. من هنا، فإنّ الفضيحة لم تعد محصورة بملف سلامة، بل أصبحت مرآة لنظام سياسي فاسد يعيش على الإنكار ويغذي الانهيار.

3. فشل الخدمات العامة وتجذّر ثقافة “الشطارة السياسية“
من بين أكثر النقاط التي لاقت صدى في كلام برّاك كانت إشارته إلى العجز في ملف الكهرباء والمياه، وهما الملفّان اللذان يختصران قصة الفشل اللبناني. فمنذ أكثر من ثلاثة عقود، تُنفق مليارات الدولارات على “إصلاح قطاع الكهرباء“، لكن النتيجة أن اللبناني لا يزال يعيش في الظلام، ويشتري طاقته من المولدات الخاصة. في هذا البلد العجيب، يُحوّل العجز إلى تجارة، والظلمة إلى مورد رزق. أما المياه، فقصتها ليست أفضل: بلد الأنهار والأمطار يستورد قوارير المياه من الخارج. هذا ليس قدرًا طبيعيًا، بل نتاج فساد إداري وهدر ممنهج للمال العام. إنّ ما قصده برّاك لم يكن انتقاصًا من لبنان، بل إدانة لمن جعل شعبًا كاملًا رهينة المولدات والصهاريج.
لكنّ برّاك، بدهائه الدبلوماسي، أشار أيضًا إلى ما هو أعمق من الفشل الإداري: ثقافة “الشطارة” التي أصبحت السمة العامة للسياسيين اللبنانيين. فهم بارعون بالكلام، يتقنون لغة الخطابات والبيانات، يعرفون كيف يبرّرون وكيف يهاجمون، لكنهم عاجزون عن إنجازٍ واحدٍ ملموسٍ. هذه “الشطارة” هي التي جعلت من لبنان دولة الكلام لا دولة الفعل. إنهم يتحدثون عن “الانتصارات” بينما الناس جياع، وعن “المقاومة” بينما المودعون يصرخون، وعن “السيادة” بينما القرار مرتهن للخارج. من هنا، تصبح الشطارة نوعًا من الاحتيال السياسي الذي يغطي الجريمة بالتذاكي، والفشل بالثرثرة. وهذا تمامًا ما عناه برّاك حين وصفهم بالفاشلين الثرثارين.
من هنا، يصبح كلام برّاك دعوة ضمنية إلى ثورة فكرية قبل أن تكون سياسية. فلبنان لن ينهض بخطابات ولا بانتقادات الخارج، بل عندما يقتنع اللبناني بأنّ بلده ليس رهينة القدر بل رهينة لصوص. إنّ مواجهة الحقيقة أصعب من مواجهة العدو، لأنّها تعني الاعتراف بأنّنا ساهمنا بصمتنا في استمرار هذه المهزلة. فالدبلوماسي الأميركي لم يقل شيئًا لا يعرفه الشعب، لكنه قاله بصوتٍ مسموعٍ في عالمٍ لا يزال يراقب انهيار بلدٍ كان يُسمّى يومًا “سويسرا الشرق.” وما بين وصفه الدقيق وعجز السلطة عن الردّ المنطقي، يتأكد أنّ لبنان يعيش مرحلة ما بعد الدولة، حيث الفشل ليس عارضًا بل قاعدة، والنهب ليس استثناءً بل نظامًا.

4. الخاتمة
كلام توم برّاك لم يكن تهجّمًا بل اعترافًا دوليًا بانهيار نموذج الدولة اللبنانية. من لا يريد أن يسمعه إنما يرفض أن يرى نفسه في المرآة. لقد قال الرجل الحقيقة بلا تزييف: لبنان لا يُدار بدستور، ولا يُحكم بقانون، ولا يُصلح بإصلاحات شكلية، بل يُنهب بذكاء ويُدمر ببطء. وبينما تهاجمه الأحزاب دفاعًا عن كرامة مفقودة، يبقى الشعب اللبناني وحيدًا في مواجهة منظومةٍ أتقنت فنّ الكلام وفشلت في كل شيء آخر. في النهاية، لم يخطئ برّاك في شيء، بل أخطأ من اعتاد على الكذب واعتبر الصراحة إساءة. فالحقيقة مؤلمة، نعم، لكنها الطريق الوحيد إلى شفاء وطنٍ يعيش بين أنقاض دولته، يئنّ من سرّاقه، ويبحث عن بريق صدقٍ في زمن الزيف.























































