د. الياس ميشال الشويري
منذ فاجعة الرابع من آب 2020، لم يعد لبنان كما كان. ذاك اليوم الذي تلاشى فيه جزءٌ من بيروت تحت سحابةٍ من الدمار والدخان، شكّل لحظةً فاصلة بين زمنين: زمن الوهم الذي كانت المنظومة السياسية تخدّر به اللبنانيين، وزمن الحقيقة التي انفجرت معها كل الأقنعة. كانت المأساة أكبر من أن تُختصر بانفجار، لأنها كشفت بنية دولةٍ مهترئة يحكمها الفساد والإهمال واللامسؤولية، وأظهرت أن أرواح الناس ليست سوى أرقام في حسابات الطغمة الحاكمة. في خضمّ هذا الركام، برز القاضي طارق البيطار كاسمٍ مختلف، قاضٍ قرّر أن يقول “لا” في وجه منظومةٍ لا تعرف إلا الخضوع، فحوّل القضاء من أداةٍ بيد السياسيين إلى منبرٍ للعدالة والمحاسبة.
إن قضية القاضي البيطار ليست مجرد ملف قضائي في جريمةٍ كبرى، بل هي مرآةٌ لصراعٍ أعمق بين قيم الحقّ والباطل، بين دولةٍ تحاول أن تولد من جديد، ومنظومةٍ متمسكة بعفن الماضي. لقد صار القاضي رمزًا للعدالة في وطنٍ تحوّل قضاؤه إلى رهينة، وصوته إلى أملٍ أخير في أن الحقيقة، مهما حُوصرت، ستشق طريقها يومًا نحو النور. من هنا، فإن البحث في قضية القاضي طارق البيطار هو في جوهره بحثٌ عن معنى العدالة في لبنان، وعن مصير وطنٍ يتأرجح بين إرادة المحاسبة وواقع الترهيب.
- انهيار الثقة بالقضاء وصعود رمزية القاضي طارق البيطار
منذ الرابع من آب 2020، لم يكن انفجار مرفأ بيروت مجرد حادث عرضي ناجم عن الإهمال، بل كان زلزالًا أخلاقيًا وسياسيًا هزّ أركان الدولة اللبنانية حتى جذورها. تهاوت مبادئ العدالة أمام هول الانفجار الذي دمّر العاصمة، وقتل المئات، وشرّد الآلاف، وكشف عورات منظومة حكمٍ متشابكة المصالح. لم يكن القضاء يومها مستقلاً بالمعنى الحقيقي، بل بدا تابعًا لقوى سياسية وأمنية تسعى إلى طمس الحقائق أو إعادة صياغتها على مقاسها. وسط هذا الانهيار، برز اسم القاضي طارق البيطار، الذي قرر أن يسير عكس التيار، وأن يعيد إلى القضاء بعضًا من كرامته المسلوبة. تحوّل إلى رمزٍ لمواجهة السلطة الغاشمة، في وقتٍ كان الجميع يهرب من المواجهة. لم يأتِ دوره صدفة، بل نتيجة قناعة داخلية بأن العدالة لا تُستجدى من السياسيين، بل تُنتزع بإرادة قاضٍ حرّ يرى في القانون سلاحًا لا يُشهر إلا في وجه الظالمين.
مع بدء القاضي البيطار تحقيقاته، بدأت حملة شرسة لإسكاته من قبل من يدعي الدفاع عن لبنان، تارة بالتهديد وتارة بالتحريض الطائفي والسياسي، وصولًا إلى محاولات إبعاده عن الملف بذرائع قانونية واهية. ومع ذلك، تمسّك الرجل بموقعه وبحقه في استدعاء كل من يرى فيهم مسؤولية، بغض النظر عن طوائفهم أو مناصبهم. كانت تلك سابقة في تاريخ القضاء اللبناني الحديث، إذ لم يجرؤ أحد من قبل على المسّ بـ”المحميات السياسية” التي تتحصن خلف الحصانات الدستورية والغطاءات الطائفية. ما فعله القاضي البيطار أنه حوّل العدالة إلى امتحانٍ للسلطة، فإما أن تثبت الدولة أنها قادرة على محاسبة نفسها، أو تعترف بأنها مجرّد عصابة مصالح تحكمها المافيا لا القوانين.
تحوّل القاضي البيطار مع مرور الوقت إلى رمزٍ يتجاوز دوره القضائي؛ بات عنوانًا للكرامة الوطنية. الناس الذين خسروا أبناءهم وأحبتهم في الانفجار وجدوا فيه الأمل الأخير بعد أن خذلتهم الدولة، ودفنت العدالة معهم تحت الركام. صار وجه القاضي البيطار وجه كل أمّ لبنانية تبحث عن حق ابنها، وكل شاب لبناني يرى في العدالة طريق الخلاص من هذا الجحيم السياسي. لم يكن بطلاً خيالياً، بل قاضياً من لحمٍ ودمٍ، آمن بأن العدالة ليست شعارًا بل معركة. وربما كانت رمزيته أكبر من قدرته كفرد، لكنها تعبّر عن توقٍ جماعي لعدالةٍ تضع حدًا للإفلات من العقاب الذي صار قاعدة في لبنان منذ الحرب الأهلية.
- انفجار المرفأ كمرآة لفساد النظام اللبناني
انفجار مرفأ بيروت لم يكن صدفة مأساوية، بل خلاصة لتراكم عقود من الفساد، وسوء الإدارة، والإهمال القاتل. ما جرى في الرابع من آب ليس فقط انفجارًا لمخزون نترات الأمونيوم، بل تفجيرًا لكل أوهام الدولة اللبنانية الحديثة. اكتشف اللبنانيون أن دولتهم تعرف بوجود المواد المتفجرة منذ سنوات، لكنها اختارت الصمت حفاظًا على توازنات سياسية ومصالح اقتصادية. المرفأ كان نموذجًا مصغّرًا عن الدولة: فوضى في الإدارة، تداخل بين الأجهزة الأمنية، تغلغل للمحسوبيات، وتبادل للاتهامات بلا محاسبة. كل ذلك شكّل الخلفية التي دفعت القاضي البيطار إلى اعتباره جريمة دولة بامتياز، لا مجرد حادث صناعي.
حين اقترب التحقيق من المسؤولين الكبار، بدأت المنظومة السياسية في توحيد صفوفها للدفاع عن نفسها. صارت العدالة خطرًا وجوديًا عليها، فمارست كل أنواع الضغط لتعطيل التحقيق. من طلبات الرد والكفّ، إلى تهديد القاضي علنًا، إلى حملات التضليل الإعلامي التي تسعى لتشويه سمعته. هذا التواطؤ كشف أن انفجار المرفأ لم يكن استثناءً بل استمرارًا لطبيعة النظام الذي يحكم لبنان منذ اتفاق الطائف: نظام يقوم على المحاصصة والولاءات، لا على الكفاءة والمساءلة. ومع أن الشعب انتفض في 17 تشرين ضد هذه المنظومة، إلا أن الانفجار جاء ليؤكد أن النظام لم يتغيّر قيد أنملة، بل ازداد شراسة في الدفاع عن مصالحه.
رغم مرور السنوات، يبقى مرفأ بيروت جرحًا مفتوحًا في ذاكرة اللبنانيين، وموقعًا رمزيًا يختصر مأساة الوطن بأكمله. فالمرفأ الذي كان شريان الحياة الاقتصادية تحوّل إلى مقبرة جماعية. ومع ذلك، لا تزال الأنقاض شاهدة على فشل الدولة في إحقاق العدالة. في المقابل، يمثل الإصرار على متابعة التحقيق – رغم كل العراقيل – محاولة لبعث الحياة في جسد العدالة الميت. فالقاضي البيطار لا يحقق فقط في سبب الانفجار، بل في مصير وطنٍ بأكمله، في معنى المحاسبة، وفي إمكانية قيام دولة حديثة في لبنان.

- ترهيب القضاء ومحاولة وأد الأمل
ما يعيشه القاضي البيطار هو دليلٌ على أن ترهيب القضاء أصبح سياسة رسمية في لبنان. لم يعد القاضي يواجه فقط عراقيل قانونية، بل تهديدات مباشرة تمسّ حياته وأمنه. فالمطلوب إسكات العدالة كي تبقى المنظومة في أمان. كل خطوة يقوم بها القاضي البيطار تُقابل ببيانات حزبية، وضغوط سياسية، وحملات إعلامية تحرّض عليه وتتهمه بالتسييس، وكأن المطالبة بالحقيقة جريمة. ومع ذلك، لم يتراجع، بل أصرّ على أن القانون فوق الجميع، وأنه لا حصانة أمام الدم.
في جوهر هذا الصراع، هناك مواجهتان: الأولى بين قاضٍ يؤمن بالعدالة كقيمة مطلقة، والثانية بين نظامٍ يراها تهديدًا لوجوده. ثقافة الإفلات من العقاب متجذّرة في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية، حين اختير العفو بدل المحاسبة، والمساكنة بين الجلاد والضحية بدل العدالة الانتقالية. واليوم، يتكرر المشهد نفسه مع قضية المرفأ، حيث تُعامل الجريمة كملف سياسي لا كقضية وطنية. القاضي البيطار يمثل ثقافة جديدة، ترفض التطبيع مع الظلم، وتصرّ على أن القانون لا يُفرّق بين رئيسٍ وموظف، ولا بين وزيرٍ ومواطن.
وسط هذا الظلام، يبقى القاضي طارق البيطار شعلة صغيرة تقاوم العتمة. صحيح أنه مُحاصر، وأن التحقيق معطّل، وأن العدالة مؤجلة، لكن رمزيته تجاوزت حدود قصر العدل. لقد صار رمزًا للمواجهة ضد نظامٍ يرفض أن يرى في نفسه متهمًا. وربما ينجح النظام اليوم في تعطيل التحقيق، لكن التاريخ سيُسجّل أن القاضي البيطار وقف حيث يجب أن يقف القاضي: إلى جانب الضحايا لا الجلادين.
- تضرّعات الأمهات الثكالى ونداء العدالة الإلهية
في بيروت، لا تزال الأمهات الثكالى يجلسن على أرصفة الانتظار، يحدّقن في صور أبنائهن المعلّقة على الجدران، وكأنهن ينتظرن معجزة تعيد إليهن الحياة التي سُرقت. كل واحدة منهن تحمل في قلبها قصةً من لحمٍ ودم، من بيتٍ تحوّل إلى رمادٍ، ومن ضحكةٍ تاهت بين الصدى والدخان. لم يطلبن أكثر من الحقيقة، من معرفة من قتل أبناءهن، ومن أي يدٍ خرج الموت الذي حصد أحلامهم. وحين اصطدمن بجدار السلطة، رفعن عيونهن إلى السماء، لأن الأرض خذلتهن. وهناك، بين الركام والشموع المشتعلة في ذكرى الانفجار، كانت الدعوات تخرج من أفواه الأمهات بحرقةٍ تقطع الصمت: “يا ربّ، أنت العدل الذي لا يُشترى، فخذ بحقّنا ممن ظلمنا، ومن عرقل العدالة، ومن تواطأ على الحقيقة“.
حين تعثّر التحقيق، وأُوقف القاضي طارق البيطار عن أداء واجبه بفعل الضغوط السياسية، لم يبقَ أمام الأمهات سوى التضرّع إلى العدالة الإلهية. لأن العدالة البشرية في لبنان أصابها الشلل، صارت دموع الأمهات هي المحكمة، وصارت صلاتهنّ أقوى من المراسيم القضائية. كنّ يدركن أن يد الإنسان قد ترتجف أمام التهديد، لكنهنّ يؤمنّ أن الله لا يُغلق ملفات الحقّ. فدعاؤهنّ ليس عاطفةً بل مقاومةٌ روحية، ورفضٌ لأن تُدفن الحقيقة كما دُفن أبناؤهن. إنهنّ يسألن الله أن يُظهر الحقّ، وأن يُسقط كلّ من استخدم سلطته لطمس الجريمة، لأن العدالة الإلهية وحدها قادرة على إنصاف من خانهم القضاء الأرضي.
في صلوات الأمهات الثكالى يتحوّل الوجع إلى قوّة خلاص. فهنّ لم يعدن يثقن بوزيرٍ أو نائبٍ أو قاضٍ خاضع، بل بإلهٍ لا يساوم على دمّ المظلومين. كلّ شمعة تُشعلها أمّ على درج المرفأ هي إعلان إيمانٍ بأن العدالة الإلهية قادمة ولو بعد حين، وأن الله لن يترك دماء أبنائهن تذهب سدى. تلك التضرّعات، وإن بدت صامتة، هي في حقيقتها زلزلة روحية لوطنٍ فقد ضميره. فحين يبكي قلب الأمّ، ترتجف عروش الطغاة، وحين تدعو المقهورة في ليل بيروت المظلم، تتردّد كلماتها في وجدان كلّ من لا يزال يملك ذرة ضمير. وهكذا تصبح تضرّعات الأمهات الثكالى نداءً مقدّسًا ضد كلّ من عرقل التحقيق، وصرخةً إلى السماء بأن العدالة التي عجزت عنها الأرض، ستتحقّق من فوق، بيدٍ لا تعرف الخوف ولا المحسوبيات، بل تعرف فقط الحقّ والعدل والرحمة.

- الخاتمة
إن ما يجري مع القاضي طارق البيطار في قضية مرفأ بيروت ليس مجرد فصلٍ قضائي، بل معركة وجود بين وطنٍ يسعى إلى النهوض من رماده، ومنظومةٍ تريد دفنه في الصمت والنسيان. إن ترهيب القاضي ليس إلا محاولة لترهيب الحقيقة نفسها، لأن كشفها يعني سقوط رموزٍ وكياناتٍ وأحزابٍ ارتكبت بحق لبنان جرائم لا تُحصى. لكن الأمل لا يزال قائمًا، ما دام هناك من يؤمن أن العدالة لا تموت، وأن القاضي الحرّ هو آخر حصون الدولة. في بلدٍ تهاوت فيه المؤسسات، يقف القاضي طارق البيطار شاهدًا على أن العدالة يمكن أن تُحاصر لكنها لا تُقهر، ويمكن أن تُؤجل لكنها لا تُلغى. وما دام هذا القاضي يقف صامدًا، فهناك في لبنان من لا يزال يرفض أن تكون الحقيقة جريمة، والعدالة مؤامرة، والمظلوم مجرد رقم في سجلّ النسيان.























































