وفد الخزانة الاميركية في القصر الرئاسي مع الرئيس عون
د. الياس ميشال الشويري
يشهد لبنان اليوم واحدة من أكثر المراحل السياسية والاقتصادية حساسية في تاريخه الحديث، إذ تتقاطع على أرضه مصالح القوى الإقليمية والدولية في مشهد معقد ومتشابك. وفي خضمّ الانهيار المالي غير المسبوق، برزت الضغوط الأميركية مجددًا كعاملٍ حاسم في رسم توجهات المرحلة المقبلة، خصوصًا مع عودة الحديث عن “تجفيف مصادر تمويل حزب الله” كشرطٍ مباشر لأي دعم أو تفاهم مع الدولة اللبنانية. هذا الشرط، الذي نقله الوفد الأميركي رسميًا إلى المسؤولين اللبنانيين، لم يكن مفاجئًا، بل جاء تتويجًا لمسار طويل من العقوبات والإجراءات التي استهدفت الحزب ومؤسساته وبيئته. ومع ذلك، فإن هذا التطور يضع الحكومة اللبنانية في موقعٍ بالغ الحساسية، بين مطرقة الخارج وسندان الداخل، وبين مقتضيات الإصلاح وشروط الضغط، وبين مفهوم السيادة الوطنية وواقع التبعية الاقتصادية.

- خلفية الضغط الأميركي – من الحرب المالية إلى الحرب السياسية
منذ مطلع الألفية الثالثة، اعتمدت الولايات المتحدة سياسة منهجية لمحاصرة حزب الله اقتصاديًا وماليًا، باعتباره أداة نفوذ إيرانية في شرق المتوسط. فبعد أن فشلت الحروب العسكرية والإسرائيلية في كبح قوته، تحوّلت واشنطن إلى استخدام أدوات العقوبات، والقوانين المصرفية، والضغط على حلفاء لبنان الإقليميين والدوليين. قانون “مكافحة تمويل حزب الله” الذي أُقرّ في الكونغرس، مثّل بداية مرحلة جديدة من العقاب الاقتصادي، لم تقتصر على الحزب نفسه، بل طالت المصارف اللبنانية، والجمعيات المدنية، ورجال أعمال متهمين بالارتباط بتمويله. الهدف لم يكن فقط تجفيف السيولة، بل خلق بيئة ردع محلية تتهيب التعامل معه. ومع تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة بعد الاتفاق النووي الأول، صعّدت واشنطن لهجتها، معتبرة أن أي دعم مباشر أو غير مباشر للحزب هو تحدٍ للعقوبات الأميركية نفسها.

اللبنانيون وجدوا أنفسهم بين نارين: نار الانهيار المالي ونار المعادلات الجيوسياسية. فحين تُطالب الولايات المتحدة بتجفيف مصادر تمويل الحزب، فإنها في الواقع تضغط على الدولة اللبنانية لتغيير موازين القوى الداخلية. ذلك أن الحزب ليس مجرد تنظيم عسكري، بل هو جزء من النسيج السياسي، ومن التركيبة الحكومية والبرلمانية. وبالتالي، فإن أي محاولة لقطع مصادر تمويله، تعني عمليًا زعزعة الاستقرار السياسي الداخلي، وربما تفجير صراعات طائفية كانت نائمة. لكن في المقابل، فإن عدم الامتثال للشروط الأميركية يهدّد بعزلة مالية أعمق، وباستمرار حجب المساعدات، وحرمان لبنان من إعادة هيكلة علاقاته مع المؤسسات الدولية. وهكذا، يجد لبنان نفسه في وضعٍ مستحيل، يُطلب منه فيه أن يوازن بين البقاء المالي والاستقلال السيادي.
السيادة اللبنانية باتت في السنوات الأخيرة مفهوماً هشّاً أمام هذا النوع من الضغوط. فكل قرار اقتصادي، وكل قانون مالي، صار يُقرأ في واشنطن قبل أن يُناقش في بيروت. ومع ذلك، فإن بعض المسؤولين اللبنانيين يتعاملون مع هذه الضغوط كفرصة لإعادة بناء الثقة الدولية، بينما يراها آخرون انتهاكاً صارخاً لسيادة الدولة وتدخلاً في الشأن الداخلي. الخطورة تكمن في أن لبنان لم يعد يملك ترف الخيارات: اقتصاده المنهار يحتاج إلى دعمٍ خارجي عاجل، لكن هذا الدعم مشروط بتقليص نفوذ حزب الله المالي والسياسي. وهنا يتجلى التحدي الجوهري: هل يمكن للبنان أن يُرضي الخارج من دون أن يخسر تماسكه الداخلي؟ أم أن الطريق إلى الإنقاذ سيمر حتماً عبر كسر إحدى قواعد اللعبة الداخلية التي استقرت منذ نهاية الحرب الأهلية؟

- التداعيات الاقتصادية والسياسية لتجفيف التمويل
العقوبات الأميركية لم تقتصر على حزب الله كمؤسسة سياسية أو عسكرية، بل امتدت إلى النظام المصرفي اللبناني بأكمله. المصارف أصبحت مجبرة على تطبيق سياسات تدقيق صارمة، خوفاً من أي ارتباط غير مباشر مع مؤسسات أو أفراد مشمولين بالعقوبات. هذه الإجراءات أضعفت الثقة بالقطاع المصرفي، الذي كان لعقود العمود الفقري للاقتصاد اللبناني. ومع كل تقرير يصدر عن وزارة الخزانة الأميركية، تتراجع حركة التحويلات الخارجية، وتتزايد القيود على حسابات المغتربين، مما يفاقم الأزمة النقدية. بهذا المعنى، فإن سياسة “تجفيف التمويل” لم تضرب الحزب وحده، بل أصابت الاقتصاد الوطني بأكمله، خصوصاً في ظل غياب خطة اقتصادية بديلة تتيح للبنان تعويض خسائره أو تنويع مصادر دخله.
داخليًا، أدى تشديد الخناق المالي إلى رفع منسوب التوتر بين مكوّنات السلطة. فالقوى التي تدور في فلك حزب الله ترى أن هذه الضغوط تستهدف مشروع المقاومة وموقع الطائفة الشيعية في المعادلة الوطنية، بينما تعتبر قوى أخرى أن تطبيق الشروط الأميركية ضرورة لاستعادة الثقة الدولية. هذا الانقسام يتخذ طابعاً وجودياً أكثر منه سياسياً، إذ يلامس جوهر فكرة “الدولة” في لبنان: هل هي دولة سيّدة قادرة على ضبط سلاحها واقتصادها، أم أنها دولة رهينة لمحور إقليمي لا يعبأ بمصالحها؟ في المقابل، فإن حزب الله نفسه يُدرك أن استمرار الضغط المالي يهدّد بنيته الاجتماعية، إذ يعتمد قسم كبير من قاعدته على الخدمات والرواتب الممولة من مؤسساته. لذا، فهو يسعى لتعويض الحصار عبر اقتصادٍ موازٍ يعتمد على الكاش، والمساعدات الإيرانية، والأنشطة غير الرسمية.

الملف اللبناني لم يعد محليًا بحتًا، بل صار جزءًا من الصراع الإقليمي بين إيران والولايات المتحدة. فكل تشديد على تمويل حزب الله يُقرأ في طهران على أنه محاولة لمحاصرة نفوذها، وكل تسهيل لبيروت يُفسَّر في واشنطن كخضوع للضغوط الإيرانية. هذا التنازع يجعل من لبنان ساحة اختبارٍ دائم بين قوتين لا تلتقيان إلا على طاولة المساومات الكبرى. ومع اشتداد الحرب في غزة والجنوب، باتت واشنطن أكثر تشددًا في مطالبة الحكومة اللبنانية بخطوات ملموسة لضبط الحزب مالياً وعسكرياً، تفاديًا لانزلاق لبنان إلى حرب شاملة. لكن المفارقة أن أي ضعف إضافي في حزب الله قد يُغري إسرائيل بتوسيع عملياتها، ما يجعل لبنان يدور في حلقة مفرغة من التهديد والردع، لا يملك فيها أحد القدرة على الحسم.
- خيارات لبنان المستقبلية – الإصلاح، التوازن، أو الانفجار
الحكومة اللبنانية، إذا أرادت تفادي الأسوأ، تحتاج إلى استراتيجية مزدوجة: إصلاح داخلي حقيقي، ومفاوضة ذكية مع الخارج. الإصلاحات المالية والقضائية ليست فقط مطلبًا دوليًا، بل شرط وجودي لاستعادة الحد الأدنى من الثقة. ومن خلال هذه الإصلاحات، يمكن للبنان أن يُظهر أنه جاد في مكافحة الفساد وتبييض الأموال، من دون أن يتحوّل إلى أداة تنفيذية للسياسات الأميركية. ما تحتاجه الحكومة ليس الانصياع الأعمى، بل إدارة ذكية للأولويات، تبدأ بتحديث القوانين المالية، وتعزيز الرقابة المصرفية، وإنشاء قنوات شفافة للتعامل مع التحويلات الخارجية. هذا المسار، إن تم بجدّية، قد يخفف من وطأة الشروط الأميركية من دون الانزلاق إلى المواجهة المباشرة مع حزب الله.

في بلدٍ تعددي مثل لبنان، لا يمكن فرض قرارات كبرى دون مراعاة التوازنات الطائفية والسياسية. ولذلك، فإن خيار “الوسطية” أو “التوازن” يبدو الأكثر واقعية. على الحكومة أن تحافظ على علاقة تواصل مفتوحة مع واشنطن، مع تأكيدها في الوقت نفسه على أن أي إجراء ضد حزب لبناني يجب أن يتم في إطار سيادة الدولة، لا استجابة لإملاءات خارجية. ويمكن للبنان أن يعتمد على وساطات أوروبية أو عربية لتخفيف حدة المواجهة، عبر صيغة “تدرّجية” في تطبيق الشروط، تسمح للحزب بإعادة هيكلة تمويله الداخلي بشكل قانوني، مقابل التزام الحكومة بضبط المعابر غير الشرعية وتطبيق القوانين المالية بصرامة. هذه المقاربة لا ترضي الجميع، لكنها تمنع الانهيار الشامل، وتحافظ على الحد الأدنى من الاستقرار.
في حال فشل الدولة في الموازنة بين هذه الضغوط، فإن لبنان مقبل على مرحلة شديدة الخطورة. الانقسام بين محورين، أحدهما موالٍ للغرب والآخر لمحور الممانعة، قد يتحول إلى صدام داخلي إذا شعر أحد الأطراف بأنه يُستهدف في وجوده. كما أن استمرار العقوبات من دون بدائل اقتصادية واقعية قد يدفع البلاد إلى مزيد من الفقر والانهيار الاجتماعي، ما يفتح الباب أمام فوضى أمنية أو انهيار كامل لمؤسسات الدولة. إن “الأسوأ” الذي تحذّر منه الأوساط السياسية ليس احتمال الحرب فحسب، بل احتمال التفكك الوطني، حيث يصبح لبنان مجموعة مناطق نفوذ متقابلة تتنازعها الولاءات الخارجية. عندها، لن يبقى لا تمويل ولا إصلاح، بل دولة فقدت سيادتها في معركة ليست معركتها وحدها.

- الخاتمة
إن ما يواجهه لبنان اليوم ليس مجرّد أزمة تمويل أو ضغوط خارجية، بل اختبارٌ لقدرته على البقاء كدولة متماسكة وسط صراعٍ إقليمي محتدم. بين الشروط الأميركية ومقتضيات الداخل، يقف لبنان على حافة توازنٍ هشّ، يحتاج إلى عقلانية سياسية وجرأة إصلاحية غير مسبوقة. المطلوب ليس فقط “تجفيف مصادر تمويل” أي طرف، بل تجفيف منابع الفساد والانقسام التي جعلت البلاد رهينة لكل محور. فإذا كانت واشنطن تسعى إلى ضبط نفوذ حزب الله، فعلى الحكومة اللبنانية أن تسعى أولاً إلى ضبط نفسها: إلى استعادة الثقة بشعبها، وإعادة بناء اقتصادها، وتوحيد قرارها السيادي. حينها فقط يمكن للبنان أن يفاوض من موقع الندّية لا التبعية، وأن يتفادى الانزلاق إلى الأسوأ، حيث لا يبقى من الوطن سوى أطلالٍ تُستخدم لتصفية الحسابات بين الآخرين.























































