د. الياس ميشال الشويري
ليس من وطنٍ في الشرق أثار اهتمام الكرسي الرسولي كما أثاره لبنان. وليس من أرضٍ حملت في جغرافيتها الصغيرة وزن حضارة كاملة كما حمله هذا الوطن، الذي وُلد من رحم المسيحية الشرقية، وتشرب من صخور جباله ديناميّات التعدّد والانفتاح وبناء الحرية. فالعلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي ليست علاقة بين دولة ومركز ديني، بل هي علاقة بين هوية ورسالة، بين ذاكرة ممتدة عبر القرون وضميرٍ يرى في لبنان جزءًا من معنى الكنيسة نفسها، ومن قلبها النابض في الشرق.
في هذا السياق، يصبح فهم هذه العلاقة ضرورة وجودية. فلبنان ما كان ليصبح لبنان كما نعرفه اليوم لولا هذا الخيط العميق الذي ربطه بروما منذ عهود الموارنة الأولى، يوم كان الجبل ملجأ للمضطهدين ورحمًا لولادة صيغة اجتماعية غير مألوفة في الشرق. ومع الزمن، تحوّل هذا الخيط إلى جسر، والجسر إلى شراكة، والشراكة إلى هويةٍ مزدوجة: هوية لبنان كبلد تعدّدي حرّ، وهوية الكنيسة العالمية في الشرق، التي ترى في لبنان نموذجًا فريدًا لاستمرار المسيحية في بيئة مضطربة.
ولأن لبنان هو، في نظر الفاتيكان، أكثر من وطن، وأكثر من كيان سياسي، وأكثر من مساحة بين بحر وجبل، فقد تعاطى الكرسي الرسولي معه بوصفه مشروعًا حضاريًا يجب الحفاظ عليه، حتى في أحلك ظروفه. ولعل هذا ما يفسر لماذا لم يتخلّ الفاتيكان عن لبنان في أي مرحلة، لا في المجازر، ولا في الحروب، ولا في الانقلابات، ولا في الاحتلالات، ولا في الانهيارات الاقتصادية والمالية التي دفعت اللبنانيين إلى اليأس.
ومع الانهيار غير المسبوق الذي أصاب لبنان في السنوات الأخيرة، أدرك الكرسي الرسولي أنّ الخطر لم يعد خطر جوع أو فقر أو فساد فقط، بل خطر سقوط معنى لبنان نفسه. ولهذا جاءت مواقف قداسة البابا فرنسيس شديدة الوضوح، وجاءت رسائل الفاتيكان صارخة في وجه المنظومة التي دمّرت الدولة. ولم تكن زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان مجرد حدث رعوي، بل صرخة عالمية تعلن أنّ لبنان جرحٌ يجب أن يُشفى، وصوتٌ يجب أن يبقى، ورسالة يجب أن تُحمى من الانطفاء.
من هنا، تأتي هذه الدراسة لتعيد قراءة العلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي من التأسيس حتى اليوم، مرورًا بكل التحولات، والانكسارات، والنهضات، والوعود، والمخاطر، وصولًا إلى اللحظة الراهنة التي يقف فيها لبنان بين الحياة والموت، وبين الانهيار والنجاة، وبين الفوضى والقيامة. إنها علاقة لا تُكتب فقط بالسجلات والسياسة، بل تُكتب بالدمع والصلاة، بالحبر والوجدان، بالجرح والأمل، بزيارات بابوية تحوّلت إلى محطات خلاص، وبمواقف فاتيكانية حملت على كتفيها عبءَ لبنان حين تخلّى عنه معظم العالم.
- الجذور التاريخية للعلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي
منذ القرن الأول للميلاد، حين خرج الرسل نحو أصقاع العالم حاملين بشارة الخلاص، كان لبنان في قلب تلك الجغرافيا الروحية التي استقبلت نور المسيح قبل أن تتشكّل أي بنية كنسية منظمة. فالساحل اللبناني، من صور وصيدا وصولًا إلى بيروت وطرابلس، لم يكن مجرّد مرافئ تجارية عابرة، بل تحوّل إلى محطات رسولية عاش فيها الإنجيل أولى تجاربه في الشرق. وفي التقليد الكنسي القديم، ترد روايات عن مرور القديس بطرس في تلك المناطق، قبل انتقاله إلى أنطاكية وروما، ما جعل لبنان حلقة وصل بين “المركز الأنطاكي” و”الكرسي الروماني” في فجر المسيحية. وهذا الامتداد لم يكن سياسيًا بل كنسيًا، لأن الإيمان المسيحي يعيش بالتواصل والترابط وليس بالانعزال.
وفي تلك المرحلة، كانت جماعات المسيحيين الأولى تظهر كخلايا صغيرة سرية تعيش في ظل الاضطهاد الروماني. وفي لبنان، وبسبب طبيعته الجبلية، وجد هؤلاء المسيحيون موضعًا للجوء، فباتت القرى المنتشرة في الجبال ملاذًا طبيعيًا لمن يبحثون عن الحرية الدينية. وهكذا بدأ يتكوّن تدريجيًا نمط لبناني خاص: الجبل كمساحة حرية، والهوية المسيحية كقوة صمود، والعلاقة بروما كبوصلة عقائدية. هذا النمط سيتكرّس لاحقًا مع ظهور الموارنة.
وحين ظهر القديس مارون في القرن الرابع، كان المشهد المسيحي الشرقي يعيش تحوّلات كبرى. فالنقاشات العقائدية حول طبيعة المسيح كانت تهز الكنائس، وكانت الإمبراطورية البيزنطية تتدخل بقوة في المسار الكنسي. وسط ذلك، نشأت جماعة روحية حول القديس مارون عُرفت بصلابتها، بأمانتها للإنجيل، وبتجذّرها في التقليد الرسولي. وبعد مجمع خلقيدونية (451)، عندما أعلنت الكنيسة الجامعة عقيدة “الطبيعتين في المسيح“، انقسم الشرق، لكن الموارنة حافظوا على موقف واضح: البقاء ضمن تعليم الكنيسة الجامعة، أي ضمن خط روما وخلقيدونية.
هذا القرار كان وجوديًا وتاريخيًا، لأنه جعل الموارنة الكنيسة الشرقية الوحيدة التي بقيت متحدة بالكامل بالكنيسة الجامعة دون انقطاع. وهنا بدأت علاقة فريدة: فبينما كانت معظم الكنائس الشرقية تدخل في مواجهة طويلة مع روما، كان الموارنة يُترجمون هذا الارتباط وحدةً وتعليمًا ولترجيةً. وعندما انتقل “بيت مارون” إلى جبال لبنان بسبب الاضطهادات، أصبحت الجبال اللبنانية مركزًا لكيان روحي مرتبط بروما. ومنذ تلك اللحظة، يمكن القول إن لبنان ولد مسيحيًا في حضن الكنيسة الجامعة، قبل أن يولد سياسيًا بقرون طويلة.
ومع تعاقب الزمن، أصبح البطريرك الماروني يُنتخَب في الجبال ويتثبّت من قبل الكرسي الرسولي، وهذا أعطى الكنيسة المارونية “شرعية مزدوجة“: شرعية محلية شعبية، وشرعية كونية بابوية. وشيئًا فشيئًا، صار ارتباط الموارنة بروما جزءًا من هويتهم الجوهرية. فإيمانهم الخلقيدوني، واتحادهم بروما، وصلاتهم الليتورجية السريانية المتجذرة في التقليد الرسولي، جعلت منهم “جسرًا” بين الشرق والغرب، بين الروحانية الشرقية والتعليم الرسولي الكاثوليكي.
وفي هذه المرحلة الأولى، بدأت تتبلور “أوليات لبنان التاريخية” التي ستستمر حتى اليوم:
- لبنان مكانٌ يستقبل المضطهدين.
- لبنان مرتبط بروما عقائديًا.
- لبنان يشكّل خصوصية في الشرق.
وهكذا، وُلدت أول صورة للعلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي: علاقة ليست سياسية، بل روحية–رسولية، مبنية على شهادة قديسين، وعلى دم الذين سقطوا دفاعًا عن الإيمان، وعلى جبلٍ أصبح مختبرًا للحرية الروحية. ومنذ البداية، فهمت روما أن هناك “نقطة نور” في جبال لبنان، وأن هذه النقطة ستصبح لاحقًا وطنًا يحمل رسالة للشرق كله.
مع دخول العصور الوسطى، أصبح لبنان لاعبًا مهمًا في المشهد المسيحي العالمي، رغم صغر حجمه. فالوجود الماروني على الجبال، المتّحد بروما، كان يشكل ظاهرة فريدة بين كنائس الشرق، وهذا جذب اهتمام البابوات والمؤرخين والمبشرين. وفي القرن الثاني عشر، عندما وصل الصليبيون إلى الشرق، اكتُشفت هذه الكنيسة التي بقيت أمينة للعقيدة الجامعة رغم انعزالها الجغرافي. وعندما التقى البطريرك الماروني لأول مرة مع ممثلي الباباوات، كانت المفاجأة أن الكنيسة المارونية لم تنفصل يومًا عن روما، وأن ليتورجيتها وصلواتها لا تزال منسجمة مع التعليم الكاثوليكي.
هذا اللقاء التاريخي كان أكثر من حدث ديني؛ كان تثبيتًا علنيًا لعلاقة بدأت منذ قرون وتواصلت رغم الجبال والاضطهادات. فاعتراف روما بالموارنة ككنيسة كاثوليكية كاملة الشركة كان بمثابة دعم معنوي وسياسي للبنان. وفي تلك المرحلة، بدأت روما تفهم أن هذه الجماعة “ليست بقايا مسيحية“، بل كنيسة حيّة قادرة على لعب دور في الشرق، وأن لبنان ليس مجرد منطقة، بل مساحة لاهوتية–أنثروبولوجية فريدة.
ومع الزمن، تطورت العلاقة نحو أبعاد ثقافية وتعليمية. ففي القرن السادس عشر، أرسل قداسة البابا غريغوريوس الثالث عشر البعثات العلمية التي أنشأت فيما بعد “المدرسة المارونية في روما“، وهي مؤسسة لعبت دورًا مفصليًا في انطلاق عصر النهضة المارونية. هذه المدرسة خرّجت شخصيات لاهوتية وفلسفية وأدبية ساهمت في ترسيخ اللغة السريانية، وترجمة الكتب، وإحياء التراث. كما ساهمت في تكوين نخب مثقفة لعبت لاحقًا دورًا سياسيًا وفكريًا في الشرق.
وقد فهمت روما، بوضوح، أن تطوير الثقافة المارونية يعني تطوير لبنان ذاته. لذا كانت العلاقة في تلك المرحلة علاقة “استثمار روحي وثقافي“، لا استعمارًا ولا تبعية. وبين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ترسّخت العلاقة بشكل بنيوي: البابوات يرسلون الإرشادات والمساعدات، والموارنة يترجمونها ضمن بيئتهم الخاصة دون فقدان خصوصيتهم المشرقية. وهذا جعل الكنيسة المارونية “أكثر كنائس الشرق توازنًا“: فهي شرقية الطقس والروح، غربية الإيمان الجامعة.
وخلال تلك القرون، كان الفاتيكان ينظر إلى لبنان على أنه مساحة مقاومة روحية ضد تمدد السلطنة العثمانية التي كانت تعتبر المسيحيين رعايا من الدرجة الثانية. وبفضل العلاقة بروما، استطاع لبنان أن يحافظ على حدّ أدنى من الاستقلال الذاتي في الجبال، حيث كانت القرى المارونية تتمتع بنوع من الإدارة الذاتية، وتدير شؤونها بعيدًا عن تدخلات السلطنة. وهذا ما جعل لبنان يتكوّن كيانًا اجتماعيًا–سياسيًا قبل تكوّنه الرسمي بقرون.
وخلال هذه المرحلة، ظهرت فكرة مركزية عند البابوات: لبنان ليس دولة فقط، بل ضمانة روحية للمسيحية في الشرق. هذه الفكرة كانت حجر الأساس لكل المواقف البابوية اللاحقة تجاه لبنان، وستتكرّر في كل مرحلة من تاريخه الحديث.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، دخل لبنان مرحلة سياسية دقيقة، كان خلالها مصيره مهددًا بالذوبان ضمن السلطنة العثمانية أو لاحقًا ضمن المشاريع الإقليمية الجديدة. وهنا، لعب الكرسي الرسولي دورًا محوريًا في حماية الوجود المسيحي وفي دعم فكرة لبنان المستقل. فقد كانت روما تراقب الوضع في الشرق بقلق شديد، وتعلم أن سقوط المسيحيين يعني انهيار التوازن الروحي في المنطقة.

خلال المجاعة الكبرى (1915–1918)، حين مات ثلث الموارنة جوعًا، كان الفاتيكان الجهة الدولية الوحيدة التي تحرّكت لوقف الإبادة الصامتة. وأرسل قداسة البابا بندكتوس الخامس عشر سفنًا محمّلة بالقمح، وتدخل لدى القوى الأوروبية للضغط على جمال باشا، ودافع عن مسيحيي لبنان باعتبارهم شعبًا يتعرض للقتل الجماعي. وقد سجّل القناصل الأوروبيون حينها أن “الفاتيكان كان الصوت الوحيد الذي نادى بوقف تجويع جبل لبنان“. وهذه ليست مجرد رواية، بل وثيقة تاريخية تُظهر مدى ارتباط روما بلبنان.
ثم جاء الدور الأهم: مؤتمر السلام في باريس سنة 1919. فالبطريرك الياس الحويّك، لولا دعم الكرسي الرسولي، لما سُمح له أصلًا بالمشاركة. وكان الفاتيكان يعتبر أن ولادة لبنان ضرورة روحية، ويدعم فكرة “لبنان الكبير” لا كامتياز سياسي للمسيحيين، بل كمشروع إنساني قائم على التعددية والحرية. وقد قبلت الدول العظمى لأول مرة أن هناك دولة شرق أوسطية تستند إلى فكرة “الرسالة” وليس إلى فكرة “العرق” أو “الدين الواحد“. ولذلك قال أحد الدبلوماسيين الفرنسيين يومها: “إن ولادة لبنان لم تكن ممكنة لولا الفاتيكان.”
وهكذا وُلد لبنان الحديث بغطاء روحاني–حضاري دولي، جعل منه الكيان الوحيد في الشرق الذي أسهمت الكنيسة الكاثوليكية مباشرة في تأسيسه. ومع إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920، اعتبر الفاتيكان أن لبنان “وطنٌ ضروري للشرق“، وأن وجوده يحمي التعددية وحرية الضمير في منطقة تتجه نحو الأحادية والتطرّف.
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت العلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي علاقة على مستوى “الكيان.” فالفاتيكان لم يعد فقط راعيًا روحيًا للموارنة، بل أصبح راعيًا عالميًا للبنان نفسه. وكل زيارة يقوم بها بطريرك ماروني إلى روما منذ ذلك الوقت كانت تُقرأ على أنها لقاء بين “رأس الكنيسة المارونية” و”حامي لبنان الدولي“. وهذا ما فسّر كلام الباباوات اللاحقين عن لبنان باعتباره “رسالة” و”هبة” و”ضرورة حضارية“.
- تطوّر الدور الفاتيكاني في حماية لبنان وهويّته عبر القرون الحديثة
منذ دخول لبنان تحت سلطة العثمانيين سنة 1516، بدأت مرحلة طويلة من التحولات الحادة التي مست البنية الديموغرافية والسياسية والروحية للبنان. وقد وجدت الجماعة المسيحية، وخصوصًا الموارنة، نفسها أمام واقع جديد: سلطة مركزية تُحمّلهم الجزية، وأوضاع اقتصادية مضطربة، وضغوط اجتماعية تهدف إلى إضعاف حضورهم. وسط هذه العتمة كان الكرسي الرسولي هو الجهة الروحية العالمية الوحيدة التي تتابع أوضاعهم وتعمل على حمايتهم قدر المستطاع. لقد كان الفاتيكان صوتًا خارج الشرق يدافع عن حرية الجماعات المسيحية فيه حين كانت الحرية تُعتبر امتيازًا وليس حقًا.
في هذه المرحلة، كان التواصل بين البطاركة الموارنة والبابوات يتم عبر إرسال وفود سرية أحيانًا، أو عبر الرهبان والمرسلين الذين حملوا الرسائل من الجبل إلى روما. وكانت التقارير البابوية التي تُرفع إلى الكرسي الرسولي تكشف عن الأسى الذي يعيشه المسيحيون: نقص في التعليم، فقر مدقع، اضطهاد متقطع، وخطر دائم على الوجود. ولذلك بدأ الفاتيكان بتنظيم سياسة واضحة تجاه لبنان، تُبنى على ثلاثة محاور رئيسية: الحماية الروحية، دعم التعليم، إنشاء مؤسسات بعثية.
فعلى مستوى الحماية الروحية، أصدر البابوات رسائل تشجيع للبطريركية المارونية، مؤكدين أن اتحاد الموارنة بروما ليس مجرد ارتباط عقائدي، بل هو علاقة حياة ومصير. وكان الباباوات يعتبرون أن الجبل اللبناني يشكل “الأرض الحرة الوحيدة” للمسيحية في الشرق. وقد وجدت الجماعة المسيحية في تلك الرسائل مصدر صمود في مواجهة السلطنة التي كثيرًا ما حاولت تقييدها.
أما المحور الثاني، أي دعم التعليم، فقد كان من أخطر وأعمق الاستراتيجيات البابوية. فالفاتيكان أدرك مبكرًا أن نهضة الشعوب تبدأ بالبنية الثقافية لا بالقوة العسكرية. لذلك أرسل بعثات من الرهبان اليسوعيين واللازاريين والكبّوشيين إلى لبنان لبناء مدارس ومطابع ولتأسيس نظام تعليمي سيغيّر لاحقًا تاريخ المنطقة. ومن هذه المدارس خرج الآباء المؤسسون للنهضة العربية واللبنانية، من بطرس البستاني إلى ناصيف اليازجي وغيرهم. لقد بنى الفاتيكان “عقل لبنان” قبل أن تُبنى مؤسساته السياسية.
أما المحور الثالث، فكان إنشاء المؤسسات البعثية. فقد أرسلت روما بعثات تبشيرية ليس بهدف تحويل المسيحيين من طقس إلى آخر كما يعتقد البعض، بل بهدف تثبيتهم في أرضهم وحمايتهم اجتماعيًا. فالمستشفيات والمدارس والزراعات الحديثة… كلها كانت أدوات للدفاع عن الوجود المسيحي. وبهذه المؤسسات، دخل لبنان الحداثة قبل معظم الشرق، وكان للفاتيكان الدور المركزي في ذلك.
وقد ساهمت هذه الرعاية المتواصلة في خلق وعي لبناني جديد: وعي يعتبر أن لبنان ليس مجرد مساحة جغرافية بل رسالة لها امتداد عالمي، وأن هذا الامتداد متجذر في روما التي كانت ولا تزال الملجأ الروحي للمسيحيين المضطهدين. ومع استمرار الضغوط العثمانية، بدأ الجبل يتبلور ككيان شبه مستقل، يحكمه مشايخ محليون، وتحيطه حماية معنوية دولية مصدرها الأساسي الفاتيكان.
ومن هنا، اكتسب لبنان هويته الخاصة:
- هوية لا تشبه أي بلد آخر في الشرق.
- هوية مبنية على الحرية، وعلى الارتباط الروحي بروما، وعلى التعددية التي ستصبح لاحقًا أساس “الميثاق الوطني“.
في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لم يكتفِ الفاتيكان بحماية الوجود المسيحي، بل ساهم مباشرة في إعادة تنظيم الكنيسة المارونية من الداخل، بما يؤدي إلى نهضة ثقافية وروحية وسياسية ستحدد مستقبل لبنان. فقد أدرك البابوات أن مستقبل الشعوب لا يُبنى على ردود الفعل، بل على مؤسسات فكرية وروحية قوية. ولذلك أُطلقت برامج إصلاحية ضخمة إصطلح على تسميتها “الإصلاح الماروني“، وكان تأثيرها يتجاوز الكنيسة ليشمل المجتمع اللبناني كله.
بدأ الإصلاح بإعلان سينودس مار يوحنا مارون سنة 1736، الذي أقرّته نهائيًا المؤسسة الفاتيكانية. وهذا السينودس كان لحظة تأسيسية في تاريخ لبنان، لأنه وضع نظامًا إداريًا للكنيسة المارونية، وأنشأ الأبرشيات، وحدد حقوق المؤمنين، ونظّم الحياة الرهبانية. هذه القرارات لم تكن تنظيمًا كنسيًا فحسب، بل كانت خطوة نحو بناء مجتمع منظم، قادر على إنتاج قياداته الفكرية والسياسية. ولولا هذا الإصلاح لما استطاع لبنان أن يدخل القرن العشرين بنخبة مثقفة قادرة على الدفاع عن مشروع الدولة الحديثة.
ثم جاءت المدرسة المارونية في روما التي أنشأها قداسة البابا غريغوريوس الثالث عشر في أواخر القرن السادس عشر. هذه المدرسة كانت بمثابة “جامعة لبنان الأولى“. فيها درس كبار أعلام النهضة المارونية والعربية، وتعلموا اللغات السريانية والعربية واللاتينية واليونانية. وقد لعب خريجو هذه المدرسة دورًا ثوريًا في إحياء التراث السرياني، وفي وضع أسس النحو العربي الحديث، وفي ترجمة الكتب الكبرى. ومن روما انطلقت طبقة من المفكرين الذين أعادوا تشكيل الوعي اللبناني والشرق أوسطي.
وفي ظل هذه النهضة، تطورت علاقة لبنان بروما لتصبح أكثر نضجًا. لم تعد علاقة تبعية بل شراكة روحية–ثقافية. فالموارنة حملوا إلى الفاتيكان تراث الشرق وروحانيته، بينما حمل الفاتيكان إلى لبنان التنظيم والنهضة والتعليم. ومن هذا التفاعل ولدت شخصية لبنانية جديدة: شخصية قادرة على الجمع بين الإيمان العميق والانفتاح الثقافي، بين الروحانية الشرقية والفكر الغربي الحديث.
وفي القرن التاسع عشر، أصبحت المدارس الإرسالية التي أسسها الفاتيكان ومن خلفه الرهبانيات الأوروبية واحدة من أهم ركائز النهضة العربية. ولأن هذه المدارس كانت مفتوحة لجميع الطوائف، ساهمت في تثبيت فكرة التعددية اللبنانية. فمن صفوفها خرج المسلمون والمسيحيون والدروز الذين سيشاركون لاحقًا في صياغة مفهوم الدولة اللبنانية. وهكذا ساهم الفاتيكان بشكل غير مباشر، ولكن حاسم، في ولادة الوعي الوطني اللبناني الحديث.
وقد فهم البابوات في تلك المرحلة أن لبنان ليس مجرد شعب كاثوليكي، بل مجتمع متنوع قادر على تشكيل نموذج جديد في الشرق. فصدر عن روما دعم متواصل لأفكار الحرية الدينية وحرية الضمير وحقوق الإنسان، قبل أن تتبناها الأمم المتحدة بقرون. وبذلك تحوّل لبنان إلى مختبر تقدمي للتعايش، واعتبره الفاتيكان “رسالة مستقبلية للشرق“.
في أوائل القرن العشرين، تصدّر الفاتيكان المشهد اللبناني الدولي بصورة غير مسبوقة، خصوصًا خلال سنوات الحرب العالمية الأولى التي شهدت المجاعة الكبرى في جبل لبنان. فقد كانت المجاعة إحدى أبشع الجرائم التي ارتُكبت بحق شعب بكامله، حيث مات ما يقارب ثلث اللبنانيين، وكادت البلاد أن تُفنى. في تلك الظروف، لم يكن للبنان ملجأ دولي سوى الكرسي الرسولي. فقد أرسل قداسة البابا بندكتوس الخامس عشر رسائل استغاثة إلى الدول الكبرى، ووجّه نداءات إلى جمال باشا لوقف الحصار، وطلب من الجمعيات الكاثوليكية إرسال المساعدات الغذائية.
ويُعدّ الفاتيكان المؤسسة الدولية الوحيدة التي وثّقت المجاعة بوصفها “جريمة إنسانية“. وهذا الاعتراف لم يكن مجرد موقف أخلاقي، بل كان مقدمة للتحرك السياسي الذي سيقود نحو ولادة الدولة اللبنانية. فقد أدرك البابوات أن الجبل لم يعد قادرًا على البقاء كجماعة محاصرة، وأن لبنان بحاجة إلى كيان سياسي قادر على الحياة. ومن هنا انتقل الفاتيكان من مرحلة دعم الجماعات المسيحية إلى مرحلة دعم كيان وطني قادر على حماية التعددية.

وجاءت لحظة مؤتمر السلام في باريس سنة 1919 لتكشف عمق الدور الفاتيكاني. فالبطريرك الياس الحويّك، الذي ذهب لتمثيل لبنان، كان يملك دعمًا بابويًا كاملًا. وكان موقف الفاتيكان واضحًا: إن إنشاء لبنان الكبير ضرورة حضارية وروحية، وليس مجرد تحسين إداري لمتصرّفية الجبل. وقد حمل البطريرك الحويّك إلى باريس وثائق أعدّها رجال الكنيسة بدعم من روما حول تاريخ لبنان وحقوقه وخصوصيته، وكانت هذه الوثائق جزءًا أساسيًا من ملف المطالبة بالاستقلال.
وحين أعلنت فرنسا دولة لبنان الكبير عام 1920، كان الفاتيكان أول من رحّب بالدولة الجديدة، معتبرًا أنها تجسيد لفكرة “لبنان الرسالة“. ومنذ ذلك اليوم تغيّر موقع لبنان في الفاتيكان: لم يعد مجرد شعب مرتبط بالكنيسة الجامعة، بل أصبح دولة ذات دور إقليمي، وحامية لقيم الحرية في الشرق.
ومنذ ذلك الوقت، كرّر البابوات مبدأ أساسيًا: لبنان بلد يحتاجه الشرق، وليس بلدًا يحتاج حماية الغرب فقط. وهو موقف تَجلّى بوضوح في مواقف الباباوات اللاحقين، من بيوس الثاني عشر إلى يوحنا بولس الثاني وصولًا إلى الباباوات المعاصرين.
ومع الزمن، أصبح الفاتيكان الضامن الروحي والسياسي لاستمرار النموذج اللبناني في مواجهة كل أشكال الهيمنة الإقليمية، خصوصًا محاولات تذويب هوية لبنان ضمن المشاريع المحيطة. وقد شهدت هذه العلاقة تتويجًا بارزًا مع الزيارة التاريخية الأخيرة لقداسة البابا لاوون الرابع عشر، التي جاءت في لحظة يُحاصر فيها لبنان من داخله وخارجه، ليكرر البابا أمام العالم أن “لبنان ليس قضية محلية بل قضية عالمية“.
- الكرسي الرسولي وترسيخ دولة لبنان الحديثة (1920 – 1975)
منذ اللحظة التي أعلن فيها الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير سنة 1920، كان واضحًا أنّ هذا الكيان الجديد بحاجة إلى سند دولي وروحي يحميه ويثبت هويته. وهنا برز الدور المركزي للكرسي الرسولي، الذي لم يتعامل مع لبنان كدولة ناشئة فقط، بل كامتداد تاريخي لمسار طويل من العلاقات الروحية والثقافية. وقد أدرك الفاتيكان أنّ ولادة لبنان الكبير ليست نهاية مسار، بل بدايته؛ وأنّ هذا الكيان بحاجة إلى تثبيت هويته في ظل بيئة إقليمية مضطربة، وحساسيات داخلية تتراوح بين القبول والرفض لمفهوم الدولة الجديدة. لذلك انطلق دور الفاتيكان في مرحلة ما بعد 1920 من مبدأ جوهري: حماية التعددية وضمان استمرار الرسالة التاريخية للبنان في الشرق.
كان البطريرك الحويك قد وضع الأسس الأولى لهذا الاعتراف الدولي، لكنّ الأعوام التي تلت التأسيس كانت حاسمة لإقناع المجتمع الدولي بأنّ لبنان دولة قابلة للحياة. وهنا قام الكرسي الرسولي بعمل دبلوماسي دؤوب، عبر تواصل دائم مع بكركي وسائر المرجعيات الروحية، وعبر سفاراته المنتشرة في أوروبا. ركّز الفاتيكان في تلك المرحلة على إظهار أنّ لبنان ليس مشروعًا طائفيًا، بل نموذجًا سياسيًا فريدًا في الشرق، يجمع بين الحرية الدينية والحداثة الاجتماعية، وبين الانفتاح الأوروبي والعمق العربي. وقد استند الفاتيكان في دعمه للبنان إلى قراءة واقعية للتاريخ: لبنان، بتكوينه، يمثّل خط الدفاع الأول عن الوجود المسيحي الحر في المنطقة، ومن خلاله يمكن الدفاع عن القيم الإنسانية التي يؤمن بها الكرسي الرسولي.
وفي ظل الانتداب الفرنسي، تعزّزت العلاقات بين الفاتيكان ولبنان عبر العمل التربوي والصحي والإرسالي. فالمؤسسات التابعة للرهبنات اليسوعية واللاذرية والرسالات النسائية لعبت دورًا كبيرًا في تكوين نخبة لبنانية مثقفة قادرة على استلام مسؤوليات الدولة الحديثة. وقد رأى الفاتيكان أنّ بناء الإنسان في لبنان هو الخطوة الأولى لبناء الدولة، ولذلك دعمت روما إنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات والمعاهد التقنية. هذا الاستثمار الإنساني هو الذي سمح للبنان بأن يكون مختلفًا عن محيطه، وقادرًا على أن يحقق استقلاله لاحقًا بجهد شعبي ودعم دولي.
ومع مرور السنوات، أصبح لبنان مركزًا للإشعاع الفكري المسيحي في الشرق الأوسط، وكانت بيروت تُلقّب بـ”باريس الشرق” نتيجة حركة التعليم والصحافة والفنون. وقد تابع الفاتيكان بإعجاب هذا النمو الثقافي الذي كان يعتبره امتدادًا طبيعيًا لرسالة الكنيسة في نشر قيم الحرية والكرامة الإنسانية. ولم يكتفِ الفاتيكان بالدعم التربوي، بل اهتم أيضًا ببناء أطر قانونية ودستورية تمكن لبنان من أن يكون دولة مؤسسات. ففي حين كانت معظم الدول الشرقية تتجه نحو النظم السلطوية أو العسكرية، رأى الفاتيكان في لبنان فرصة لبناء نموذج ديمقراطي عربي فريد.
وقد لعب السفير البابوي في بيروت دورًا مهمًا في دعم هذا المسار، إذ كانت السفارة البابوية تضم خبراء في القانون والعلاقات الدولية، يقدّمون الاستشارات ويطمئنون إلى سلامة الكيان. وكان الفاتيكان ينظر بقلق إلى أي محاولة لإضعاف الهوية اللبنانية أو جر البلاد نحو مشاريع وحدوية قد تبتلع خصوصيتها. ولذلك دعم الكرسي الرسولي بقوة صمود لبنان أمام الضغوط الإقليمية التي حاولت تقويض استقلاله الناشئ.
ومع اقتراب الأربعينيات، تغيرت المعادلات الدولية. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، عاش لبنان مرحلة مفصلية: انهيار فرنسا الفيشية، دخول قوات الحلفاء، ثم انطلاق الحركة الاستقلالية التي ستبلغ ذروتها في 1943. في تلك المرحلة، كان الفاتيكان يتابع عن قرب ما يجري في لبنان، ويرى في هذه اللحظة فرصة تاريخية لتثبيت استقلاله. وقد عبر قداسة البابا بيوس الثاني عشر في رسائله عن اهتمامه الخاص بلبنان، واعتبر أنّ استقراره ضرورة لحماية الوجود المسيحي في الشرق. وهكذا، عندما أعلن اللبنانيون استقلالهم، وُلد لبنان المستقل مدعومًا روحيًا ومعنويًا من الكرسي الرسولي، الذي رأى في هذا الحدث انتصارًا لمبدأ الحرية الذي دافعت عنه الكنيسة عبر القرون.
مع إعلان الاستقلال سنة 1943، دخل لبنان مرحلة جديدة تمامًا، كان عليه أن ينتقل فيها من دولة تحت الانتداب إلى دولة ذات سيادة كاملة. وقد أدرك الفاتيكان أن نجاح هذه المرحلة يتطلب دعمًا قويًا على المستويين الروحي والسياسي. لذلك تضاعفت اللقاءات بين البطريركية المارونية والدوائر الفاتيكانية، وتمحورت حول كيفية تثبيت دولة لبنان الحديثة في محيط عربي يشهد انقلابات وتحولات متسارعة. كانت الكنيسة الكاثوليكية مقتنعة بأن لبنان يشكل فرصة حقيقية لإنشاء نموذج دولة عربية ديمقراطية قادرة على حماية الحريات.
في تلك الفترة، كان الفاتيكان ينظر إلى لبنان باعتباره “الأمل المتبقي” لحرية الفكر والدين في الشرق الأوسط. فبينما كانت الأنظمة المجاورة تتجه نحو الشمولية، برز لبنان كمساحة تسمح بحرية الإعلام، وبالتعددية الحزبية، وبنقاشات فلسفية وسياسية غير مسبوقة في المنطقة. وقد شجع الفاتيكان هذا المسار ودعمه، لأنه كان يرى فيه امتدادًا طبيعيًا لرسالة الكنيسة في حماية الإنسان. لهذا السبب كانت السفارة البابوية في بيروت من أنشط السفارات، ولعبت دورًا غير معلن في دعم التوازنات والاستقرار الداخلي.
كما عمل الفاتيكان على تعزيز العلاقات بين الكنيسة المارونية والكنيسة الجامعة، عبر زيارات رسمية وزيارات رعوية كان أبرزها زيارة البطريرك المعوشي إلى روما، حيث أكد قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرون يومها أنّ لبنان ليس دولة كبقية الدول، بل هو “رسالة” قابلة لأن تصبح نموذجًا للعالم. هذه النظرة البابوية كان لها أثر كبير في وعي اللبنانيين لدور بلدهم، لأنها ربطت وجود لبنان بقيمة معنوية عالمية، وليس بمجرد حدود جغرافية. وبفضل هذا الخطاب، تمكّن اللبنانيون من الدفاع عن هويتهم أمام محاولات عدة لتذويب خصوصية لبنان داخل مشاريع سياسية أكبر.
على المستوى العملي، أسهم الفاتيكان في دعم المؤسسات التربوية والصحية اللبنانية بعد الاستقلال، خصوصًا مؤسسات الرهبان اليسوعيين واللاتين والرهبنات اللبنانية المحلية. وقد اعتبر الفاتيكان أنّ الاستثمار في التعليم هو أهم محرك لتطوير المجتمع اللبناني، ولذلك استمرت مؤسساته في تقديم منح دراسية وتسهيل إرسال الطلاب إلى أوروبا لاستكمال دراساتهم. وهكذا تشكلت طبقة واسعة من اللبنانيين الذين تلقوا تعليمًا راقيًا، فأصبحوا قادة في الإعلام، والطب، والاقتصاد، والهندسة، والعلوم. وبهذا ساهم الفاتيكان في تعزيز النهضة اللبنانية التي شهدتها سنوات الخمسينيات والستينيات، والتي جعلت من لبنان مركزًا اقتصاديًا وثقافيًا في الشرق الأوسط.
وسعى الفاتيكان في تلك المرحلة أيضًا إلى ترسيخ خطاب “العيش المشترك“، إذ كان مقتنعًا بأن مستقبل لبنان لا يمكن أن يُبنى على الغلبة الطائفية، بل على الشراكة. لذلك دعمت الكنيسة العالمية كل المبادرات التي تؤدي إلى التقارب بين الطوائف، ورعت لقاءات فكرية وروحية كان لها أثر كبير في صياغة الوعي اللبناني. ومع نمو الاقتصاد وتوسع طبقة المتعلمين، شعر الفاتيكان بأن لبنان يسير نحو نموذج فريد قادر على أن يبرهن للعالم أنّ الشرق يمكن أن ينتج دولة حرة.
ومع ذلك، كان الفاتيكان مدركًا أنّ الأخطار الإقليمية تزداد. فالحروب العربية–الإسرائيلية، وصعود القوميات المتشددة، وتدفق النازحين الفلسطينيين إلى لبنان، كلها عوامل هددت استقراره الهش. ورغم ذلك حافظ الفاتيكان على دعم ثابت للبنان، وحاول عبر دبلوماسيته تجنيبه الانجرار إلى صراعات أكبر منه. لكن الأحداث المتلاحقة كانت تنذر بانفجار كبير، وهو ما سيظهر بوضوح سنة 1975.
منذ بداية الستينيات بدأت إشارات القلق تظهر في تقارير السفارة البابوية في بيروت. كانت روما تدرك أن لبنان يدخل مرحلة حساسة، مع ازدياد التوترات الإقليمية، وتغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط، وضغط الهجرة غير المنتظمة، وصولًا إلى تدفق السلاح والمجموعات المسلحة بعد سنة 1969. وقد شدد الفاتيكان في تلك المرحلة على ضرورة الحفاظ على التوازن الداخلي، لأن أي خلل سيؤدي إلى سقوط النموذج اللبناني بأكمله. كانت الرسائل البابوية الموجهة إلى بكركي تحمل نبرة واضحة: حافظوا على الشراكة، فلبنان إذا وقع لن يعود الشرق كما كان.
ومع توقيع اتفاق القاهرة سنة 1969، دقّ الفاتيكان ناقوس الخطر. اعتبرت الدوائر البابوية أن إدخال السلاح الفلسطيني إلى لبنان خطوة تهدد الدولة وكيانها، لأنها ستقلب ميزان القوى الداخلي وتحوّل لبنان إلى ساحة صراع. ورغم التحذيرات، كانت الموجة الإقليمية أقوى من التوازنات الداخلية، وبدأ نموذج لبنان الرسالة يتعرض لضغوط غير مسبوقة. وبقي الفاتيكان يراقب، ويحاول التدخّل النعومي عبر رسائل وتشجيع للحوار الوطني، إلا أنّ الانقسام اللبناني كان يتسع بسرعة.
ورغم ذلك، حافظ الفاتيكان على إيمانه بدور لبنان. ففي عهد قداسة البابا بولس السادس، تكررت الدعوات إلى حماية التعددية اللبنانية، وإبعاد البلاد عن الحروب الإقليمية. وكان الفاتيكان يعتبر أنّ انهيار لبنان لن يكون حدثًا لبنانيًا فقط، بل كارثة روحية وإنسانية للشرق بأكمله. ولذلك دعم مبادرات المصالحة، وشجع على عقد لقاءات في الخارج والداخل بين القيادات الروحية والسياسية، محاولًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يحدث الانفجار.
ومع بداية السبعينيات، كان واضحًا أن لبنان يسير نحو مواجهة مفتوحة. فقد أصبح السلاح منتشراً، والصراعات الإقليمية تُترجم مباشرة في شوارع بيروت والجبل والجنوب. ومع ذلك، بقي الفاتيكان يأمل في إمكانية إنقاذ الكيان عبر إصلاحات سياسية وتقوية الدولة. لكن الأحداث تسارعت بطريقة درامية: عمليات عسكرية، اشتباكات متقطعة، تعثر اقتصادي، واستقطاب حاد بين مكونات المجتمع. وعندما اندلعت الحرب سنة 1975، أدرك الفاتيكان أنّ مرحلة جديدة بدأت، مرحلة ستتطلب منه دورًا مختلفًا تمامًا في العقود التالية.
في تلك الحقبة تحديدًا، كان الكرسي الرسولي يرى لبنان يقع تحت ضغط ثلاثة عوامل:
- سلاح غير شرعي آتٍ من الخارج يهدد الدولة.
- انقسامات داخلية ناتجة عن خطاب سياسي وطائفي حاد.
- تخاذل عربي ودولي عن حماية الكيان اللبناني.
وهكذا، برز الدور البابوي كصوت صارخ يدعو إلى حماية لبنان، لأنه كان يدرك أنّ سقوطه يعني سقوط آخر مساحة حرية في الشرق. وهذا ما سيؤدي لاحقًا إلى مواقف أكثر حزماً في عهد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي سيعلن عبارته الشهيرة: “لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة“.
- الأزمة الراهنة ودور الكرسي الرسولي في حماية لبنان ومرافقته روحيًا وسياسيًا
لن يكون ممكنًا فهم العلاقة الراهنة بين لبنان والكرسي الرسولي من دون الغوص في عمق الانهيار الذي أصاب هذا الوطن منذ العام 2019، والذي حوّل لبنان من بلدٍ ذي رسالة، إلى بلدٍ يُصارع للبقاء. ففي نظر الفاتيكان، ليست أزمة لبنان مجرّد أزمة مالية أو حكومية أو سياسية، بل هي أزمة هوية كيان وتهديد لدوره التاريخي في الشرق. ولذلك يصرّ الكرسي الرسولي على استخدام عبارة “لبنان ليس مجرّد دولة، بل هو رسالة“، لأن ما يراه في المشهد اللبناني يتجاوز الأطر القانونية والسياسية، نحو بُعدٍ وجودي يتعلّق بقدرة الشرق نفسه على الاحتفاظ بنموذج للتعددية وللعيش المشترك وللحرية الدينية. هذا البعد، الذي صاغه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، تحوّل اليوم إلى نقطة تقييم أساسية في مقاربة الفاتيكان للأزمة الراهنة.
فالانهيار الذي يشهده لبنان كشف تحوّلًا خطيرًا في البنية السياسية، حيث تراجعت الدولة أمام قوى الأمر الواقع، وانسحبت المؤسسات الديمقراطية أمام منظومات المحاصصة والفساد. وعندما ينظر الفاتيكان إلى هذا الواقع، فهو لا يراه كصراع سياسي داخلي فحسب، بل كعملية تهشيم ممنهجة لأسس الدولة الحديثة، وكمحاولة لطمس دور المسيحيين التاريخي في تكوين لبنان. ويعتبر الفاتيكان أن غياب النهضة في المؤسسات، وتفكّك القضاء، وانهيار العملة، وتفريغ الإدارة، ليست حوادث منفصلة، بل أجزاء من انهيار بنيوي يُنذر بتغيير هوية لبنان الكبرى.
من هنا، تبرز حساسية موقف الكرسي الرسولي الذي يدرك أنّ استهداف لبنان يعني فتح الباب أمام انحلال النموذج الفريد الذي شكّل عبر التاريخ مساحة حرّة للأديان والطوائف، ومختبرًا للتلاقي بين الشرق والغرب. ولذلك، يُقرأ موقف الفاتيكان دائمًا كنداء يتجاوز تفاصيل الأزمة اليومية، نحو عمق المشكلة: هل يبقى لبنان وطنًا ذا رسالة، أم يُترك ليتحوّل إلى ساحة نفوذ وفوضى؟
ويرى الفاتيكان أنّ جذور الأزمة ليست مجرد أحداث لحظة، بل تراكمات تمتد من الحرب الأهلية، إلى منظومة الفساد بعد الطائف، إلى السلاح غير الشرعي الذي عطّل سيادة الدولة، إلى رهانات خارجية مزّقت القرار الوطني. أما الأخطر، فهو أنّ الانهيار المالي دمّر الطبقة الوسطى ودفع عشرات آلاف المسيحيين إلى الهجرة، ما جعل الفاتيكان يتعامل مع الأزمة كحالة طارئة تهدّد الوجود المسيحي التاريخي في الشرق. لذلك، صدرت مواقف متكرّرة خلال الأعوام الأخيرة تحذّر من “فراغ روحي وحضاري” إذا فُقد التوازن الديموغرافي والثقافي في لبنان.
ويتابع الفاتيكان الأزمة يوميًا عبر البطريركية المارونية والسفارة الرسولية، ويرى في بكركي حجر الزاوية لأي نهوض وطني. فالأزمة ليست أزمة طائفة، بل أزمة وطن ينهار. ولذلك يصرّ الكرسي الرسولي على حماية دور الكنيسة كضامن للثبات الروحي، وكصوت في وجه الظلم، وكجسر نحو العالم. ومن هنا جاء دعم الفاتيكان المتواصل لمواقف البطريركية حول الحياد، وضرورة قيام دولة فعلية، واستعادة القرار الوطني من براثن القوى التي خطفته.
ويميز الفاتيكان بين الشعب والمنظومة. فهو يرى الشعب اللبناني شعبًا مشرقيًا متجذّرًا في الإيمان، لا يستحق المأساة التي فُرضت عليه، بينما يرى الطبقة السياسية مسؤولة عن الانهيار، وعن تغليب مصالحها الخاصة على خير الناس. ولذلك جاءت تصريحات قداسة البابا فرنسيس، منذ بداية الأزمة، واضحة وحادّة: “إن السياسيّين الذين يعطّلون حياة الشعب ويعتمدون الفساد سيُحاسَبون أمام الله“. وهذا الكلام ليس إنشائيًا، بل يعكس رؤية فاتيكانية تقول إن الأزمة اللبنانية هي أيضًا أزمة ضمير.
ويؤمن الفاتيكان بأن لبنان قادر على النهوض، لكنه بحاجة إلى إعادة بناء أخلاقية قبل أي خطة مالية. ولذلك يُصرّ على ثلاث ثوابت:
- حماية الهوية التعددية للبنان.
- تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية.
- إعادة بناء الدولة على أسس العدالة، والشفافية، والمحاسبة.
بهذه النظرة العميقة، يتعامل الكرسي الرسولي مع الانهيار بوصفه امتحانًا لرسالة لبنان، وللقدرة على الحفاظ عليها في وجه القوى التي تريد تحويله إلى مساحة نزاع دائم. وكل ذلك يمهّد للمقاطع التالية، التي ستتوسع أكثر في دور الفاتيكان المواكب والضاغط والراعي، وصولًا إلى الزيارة المفصلية لقداسة البابا لاوون الرابع عشر.
يرى الكرسي الرسولي أنّ لبنان، رغم صغره الجغرافي، يشكّل وزنًا يفوق حدوده بكثير، بحيث لا يمكن تركه يسقط من دون أن يتأثر الشرق والعالم المسيحي والعالم الحرّ. ولهذا، اتّخذ الفاتيكان في سنوات الانهيار دورًا مركّبًا يجمع بين العمل الدبلوماسي، والضغط الأخلاقي، والاحتضان الروحي، والسعي إلى إعادة وضع لبنان على الطاولة الدولية بعد أن أهملته موازين القوى والاصطفافات الإقليميّة.
في نظر الفاتيكان، الانهيار الذي ضرب لبنان هو نتيجة “خطأ أخلاقي” قبل أن يكون “خطأ سياسيًا“، وهو انهيار بدأ يوم تُركت الدولة رهينة المصالح الفئوية، وتحوّلت المؤسسات إلى أدوات للنهب بدل أن تكون أدوات لخدمة المواطنين. ولذلك، فإن خطاب الفاتيكان منذ العام 2019 لم يكن خطابًا ديبلوماسيًا محضًا، بل خطابًا يحمل في طيّاته ما يشبه “محاكمة ضمير” للطبقة الحاكمة الفاسدة. وقد عبّر قداسة البابا فرنسيس عن هذا بوضوح حين قال: “لا يمكن لدولة أن تعيش إذا كان المسؤولون عنها أسرى مصالحهم الخاصّة.” هذا الكلام لم يكن شكلًا من أشكال الإدانة، بل كان توجيهًا واضحًا بأن الأزمة اللبنانية ليست نتيجة لعوامل خارجية فقط، بل لأن الداخل انهار أخلاقيًا قبل أن ينهار ماليًا.
ويعتبر الكرسي الرسولي أنّ أكثر ما يهدّد لبنان ليس الفقر، ولا هجرة الشباب، ولا انقطاع الكهرباء، رغم خطورتها، بل فقدان الثقة: فقدان الشعب بثقته بدولته، وفقدان العالم ثقته بقدرة لبنان على العودة إلى دوره الطبيعي، وفقدان اللبنانيين ثقتهم بأنفسهم. ومن هنا جاءت الرسائل الفاتيكانية المتتالية الداعية إلى “إعادة بناء الثقة من خلال الإصلاح الفعلي“، لا الإصلاح الشكلي. ولذلك، كان موقف الفاتيكان ثابتًا: لا مساعدات دولية بلا إصلاحات داخلية، ولا دعم خارجي بلا نهوض داخلي.
وقد لعبت البطريركية المارونية دورًا مركزيًا في إيصال صوت الفاتيكان، وفي الوقت نفسه إيصال صوت لبنان الحقيقي إلى الفاتيكان. فقد تعامل الكرسي الرسولي مع بكركي ليس فقط كمرجعية روحية مسيحية، بل كصوت وطني جامع قادر على التعبير عن معاناة اللبنانيين كافة، مسلمين ومسيحيين. ولهذا سبب، تلقّى الفاتيكان باهتمام كبير المبادرات التي أطلقتها بكركي من أجل الحياد، وتحرير القرار الوطني، وإعادة بناء الدولة. لم يرَ الفاتيكان في هذه المبادرات دعوة إلى مشروع سياسي مسيحي، بل إلى مشروع دولة طبيعيّة، قادرة على حماية جميع أبنائها بلا استثناء.
ومن الجوانب المهمّة أيضًا أنّ الفاتيكان لم يتعامل يومًا مع لبنان كضحية فقط، بل كـ”مريض يمكن شفاؤه“. ولذلك، انخرط بقوّة في محاولة تدويل الأزمة اللبنانية بطرق غير صداميّة، عبر حشد العواصم الدولية الكبرى من أجل دعم لبنان. فقد استقبل قداسة البابا فرنسيس مسؤولين أميركيين وفرنسيين وأوروبيين وعربًا لمناقشة الملف اللبناني، وأكد في كل المحطات أنّ “لبنان خطّ أحمر لا يجوز تركه يسقط“. كما عمل الفاتيكان على إعادة تسليط الضوء على ملف لبنان في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، محذرًا من أنّ انهيار لبنان سيخلق فراغًا ستملؤه قوى التطرف والعنف، وهو أمر يتعارض تمامًا مع رؤية الكنيسة للشرق الأوسط.
ويتميّز الدور الفاتيكاني بأنه لا يُعنى بالسياسة اليومية، بل بالاتجاهات الكبرى. فهو لا يتدخل في تشكيل الحكومات ولا في تفاصيل الخلافات الداخلية، لكنه يتدخل في المبادئ: مبدأ الدولة، مبدأ السيادة، مبدأ الحياد، مبدأ احترام الدستور، مبدأ العيش المشترك. وعندما يرى الفاتيكان أنّ هذه المبادئ تتعرض للتهشيم، يرفع صوته، كما فعل مرارًا حين اعتبر أنّ “مصير لبنان لا يمكن أن يُرتهن لسلاح خارج إطار الدولة“، وحين شدّد على أنّ “الدولة المدنية العادلة هي الضامن الوحيد لحماية الجميع“.
ومن النقاط المحورية أيضًا أنّ الفاتيكان بنى شبكة علاقة مع المجتمع المدني اللبناني، لا فقط مع القيادات الدينية والسياسية. فالكنيسة، عبر مؤسساتها، تدعم المدارس، والجامعات، والمستشفيات، والرسالات الاجتماعية التي تحافظ على ما تبقى من نسيج المجتمع. وقد اعتبر الفاتيكان أنّ الحفاظ على التعليم في لبنان هو أولوية وطنية، لأن انهيار التعليم يعني انهيار النموذج اللبناني نفسه. ولهذا دعمت الدوائر الفاتيكانية الجهود الرامية إلى حماية المدارس الكاثوليكية من الإفلاس، لأنها تعتبر هذه المؤسسات جزءًا من الهوية الحضارية للبنان وليس مجرد مؤسسات تربوية.
ومن زاوية أخرى، يرى الفاتيكان أنّ الانهيار الروحي لا يقل خطورة عن الانهيار السياسي. وقد لاحظ أنّ الكثير من اللبنانيين يعيشون حالة فقدان أمل غير مسبوقة. ولذلك، جاءت الرسائل البابوية دائمًا مملوءة برجاءٍ عنيد، لأنها تعتبر أنّ الأمل ليس ترفًا بل ضرورة للبقاء. وفي هذا السياق، كان الفاتيكان واضحًا بأن لبنان لا يمكن أن يخرج من أزمته من دون “نهضة روحية” تُعيد للإنسان كرامته وللمجتمع توازنه وللدولة معناها. ويأتي دور الكنيسة هنا كقوة مرافقة للشعب، وكصوت يُذكّر بأن لبنان أقوى من الظلمة التي تحيط به. وهكذا، يمكن القول إن الفاتيكان لعب خلال السنوات الأخيرة دور الضمير الذي يحاول أن يوقظ الدولة، ودور الراعي الذي يحاول أن يحفظ المجتمع، ودور الدبلوماسي الذي يحاول أن يُعيد لبنان إلى خريطة العالم، كي لا يضيع بين صراعات القوى الكبرى ولا يُترك فريسة لخراب الداخل.
لم تكن زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان مجرّد جولة رعوية، ولا محطة بروتوكولية عابرة، ولا خطابًا من خطابات المواساة التقليدية التي تُلقى على الشعوب المنكوبة. كانت زيارة تتجاوز معناها الخارجي لتصبح اعترافًا عالميًا بأن لبنان يقف على شفير الهاوية، وأن الفاتيكان لم يعد قادرًا على الاكتفاء بالمراقبة أو بإصدار البيانات، بل صار مضطرًا إلى الدخول بالجسد في قلب الجرح اللبناني المفتوح. ولهذا، هبطت طائرة البابا في بيروت وكأنها تحمل على متنها وزن الشرق كلّه، وآمال الذين يشعرون بأن لبنان بدأ يفقد شيئًا من ذاته ومن رسالته ومن قدرته على النهوض.
منذ اللحظة الأولى، بدا واضحًا أنّ الزيارة تحمل دلالات أكبر بكثير من تفاصيل برنامجها. اختيار الأماكن، الكلمات المنتقاة، الرموز، وحتى لغة الجسد البابوية، كانت كلّها تقول شيئًا واحدًا: لبنان لا يمكن أن يُترك يموت، ووجود البابا على أرضه هو فعل إنقاذ ووقوف إلى جانب شعب يشعر بأن العالم تخلى عنه. وفهم اللبنانيون بسرعة أن الفاتيكان لم يأتِ ليعزّي، بل ليعيد فتح نافذة الرجاء في بلد أُغلقت عليه النوافذ.
تميّزت الزيارة بثلاث ركائز أساسية ستبقى جزءًا من الذاكرة الوطنية اللبنانية:
- إعادة تثبيت الرسالة التاريخية للبنان: في معظم محطّاته، شدّد قداسة البابا لاوون الرابع عشر على أنّ لبنان ليس مجرد وطن آخر من أوطان الشرق الأوسط، بل هو مشروع حضاري وروحي ووجودي. ولذلك كرّر جملة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني كما لو أنّه يعيد تثبيت حجر الأساس في بيتٍ مهدّد بالسقوط: “لبنان أكثر من وطن… إنه رسالة.” لكن اللافت أنّ البابا لم يكتفِ بتكرار الجملة، بل أضاف إليها تفسيرًا جديدًا يتلاءم مع الأزمة الراهنة، قائلًا إن رسالة لبنان ليست ذكرى تاريخية يتغنّى بها اللبنانيون، بل مسؤولية مستمرة تفرض عليهم حماية التعددية، والحرية، والعيش المشترك، والدولة العادلة التي تحمي الإنسان قبل الطائفة. وبهذا جعل البابا من الرسالة واجبًا، لا شعارًا، ومن لبنان نموذجًا يجب أن يبقى حيًّا مهما تعاظم الخراب.
- الإدانة الأخلاقية للمنظومة الحاكمة: لم يكن قداسة البابا لاوون الرابع عشر ديبلوماسيًا بقدر ما كان نبيًا يصرخ في وجه الظلم. فقد جاء خطابه الأخلاقي حادًا غير مسبوق: “إن الذين ينهبون شعبهم يرتكبون خطيئة تصرخ إلى السماء.” هذه الجملة وحدها هزّت الوجدان اللبناني، لأنها لم تأتِ من سياسي أو محلل، بل من رأس الكنيسة الكاثوليكية، الذي نادرًا ما يستعمل لغة الإدانة المباشرة. فهم الجميع أنّ الفاتيكان لم يعد يقبل بتجميل الحقائق أو بترقيع المأساة، وأنه قرر الوقوف بشكل واضح إلى جانب الشعب الذي سحقته السياسات الاقتصادية الجائرة والتحالفات التي دمّرت الدولة. وهكذا أصبح للوجدان الشعبي صوت عالمي يعبّر عنه ويمنحه شرعية جديدة في مواجهة الظلم الداخلي.
- احتضان الشعب اللبناني مباشرة ومن دون وسطاء: مشهد البابا وهو يسير بين الناس في ساحة الشهداء، بعد القداس التاريخي الذي جمع مئات آلاف اللبنانيين، كان لحظة مفصلية في الوجدان الوطني. لم يكن البابا يتحدث من خلف منصّة أو من داخل قاعة مغلقة، بل كان بين الناس، يلمسهم، يصغي إلى بكائهم، ويبارك الجرحى، ويتوقف عند أمّ تحمل صورة ابنها الذي قُتل في انفجار المرفأ. تلك الدقائق لم تكن رمزًا فقط، بل كانت فعلًا رعويًا ميدانيًا يقول: “أنا هنا، في وسطكم، لستُ زائرًا بل أخًا لكم.” كانت الزيارة إلى مرفأ بيروت لحظة صمتٍ لاهوتي أكثر منها خطوة بروتوكولية. وقف البابا أمام الركام، وأمام الحفرة التي حصدت حياة 218 شهيدًا ودمّرت نصف العاصمة، ووضع يدَه على قلبه قبل أن يقول: “هنا صُلِب لبنان.” ثم أضاف: “ولكن القيامة وعدٌ لا يسقط.” هذه الكلمات دخلت الذاكرة الجماعية بقوة، لأنها جمعت بين الألم والإيمان، وبين الحقيقة والرجاء، وجعلت من الزيارة حدثًا يتجاوز الطقوس ليصبح إعلانًا بأن المأساة لن تُترك بلا جواب.
لم تكن الزيارة روحية فقط؛ كانت أيضًا حدثًا سياسيًا بامتياز، لكن بمعنى السياسة العليا لا بمعنى الصراع الداخلي. فقد أراد الفاتيكان أن يُسمع العالم أنّ لبنان يحتاج إلى حماية دولية من الانهيار، وأن التقاعس عن مساعدته سيترك الشرق بلا نموذج للتعددية والحرية. ولهذا جاءت اتصالات الفاتيكان بالعواصم الكبرى مباشرة بعد الزيارة، على أساس خلاصة واضحة: “لقد رأيتُ بعينيّ شعبًا يُعاني الظلم، ولا يجوز تركه وحده.” جاءت الزيارة إذًا كوثيقة سياسية وروحية معًا:
- وثيقة تفضح المنظومة التي دمّرت الدولة.
- ووثيقة تؤكد أنّ لبنان يجب أن يُحمى، وأن رسالته ليست قابلة للمساومة.
- ووثيقة تقول إنّ العالم لم يعد يملك عذرًا ليغضّ النظر عن المأساة.
في لقائه مع الشبيبة في بكركي، قال البابا عبارة تحوّلت إلى شعار وطني جديد: “لا تسمحوا للظلام أن يخنق نوركم.” كانت هذه الرسالة موجهة للشباب الذين يفكرون بالهجرة، وللعائلات التي فقدت مدّخراتها، وللمرضى الذين يموتون أمام أبواب المستشفيات، وللأساتذة الذين أهينت كرامتهم، وللعمّال الذين سحقهم الفقر. كانت رسالة تقول: إن لبنان لم يُخلق للفشل، وأن النور الذي حمله منذ زمن القديسين والشهداء والمفكرين والآباء المؤسسين لا يمكن أن يُطفأ مهما اشتدت العتمة.
حين أقلعت طائرة قداسة البابا لاوون الرابع عشر من بيروت، لم يغادر لبنان وحده، بل ترك خلفه ما يشبه عهداً جديداً بين الفاتيكان ولبنان. عهدٌ يقول إن الفاتيكان لن يتخلّى عن هذا الوطن، وإن لبنان ليس مجرد جزء من الجغرافيا بل من هوية الكنيسة نفسها. بهذه الزيارة، تحوّلت الأزمة اللبنانية من مأساة محلية إلى قضية عالمية، ومن انهيار صامت إلى ملفّ يحمل توقيع رأس الكنيسة الكاثوليكية نفسه. ومعها بدأ فصل جديد في علاقة لبنان بالكرسي الرسولي: فصلٌ يقوم على المواكبة، والمحاسبة الأخلاقية، والاحتضان، والرجاء.

- الخاتمة
الحديث عن العلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي ليس خلاصة تحليل تاريخي أو سياسي فحسب، بل هو دخول إلى قلب هوية لبنان، وإلى العمق الذي به وُلِد هذا الوطن واستمر رغم كل محاولات المحو والتهميش. لبنان، كما أثبته مسار التاريخ وكما تردده الكنيسة منذ قرون، ليس كيانًا عادياً يمكن للعالم أن يتركه يسقط دون أن يتغيّر ميزان الشرق. إنه صخرة روحية، وفسحة حرية، ومساحة لقاء نادرة في منطقة تمزقها صراعات الهوية، والدم، والسلطة.
لقد وقف الفاتيكان إلى جانب لبنان في لحظاتٍ كثيرة، لكن وقوفه اليوم يحمل معنى أكبر، لأن الخطر الراهن ليس فقط خطر انهيار دولة، بل خطر تلاشي معنى الوجود اللبناني نفسه. ولهذا، فإن الزيارة الأخيرة لقداسة البابا لاوون الرابع عشر لم تكن مناسبة احتفالية، بل كانت إعلانًا روحيًا وسياسيًا عالميًا بأن هذا الوطن لن يُترك، وأن قضية لبنان هي قضية إنسان قبل أن تكون قضية جغرافيا.
فمن بكركي إلى مرفأ بيروت، ومن ساحة الشهداء إلى صرح الدولة الغائب، حمل قداسة البابا لبنان على كتفيه وهو يرى شعبًا يتألم، وكيانًا يتداعى، ورسالة مهددة بالانطفاء. وكانت عبارته: “هنا صُلِب لبنان، ولكن القيامة وعد لا يسقط” أقرب إلى إعلان عهد جديد بين لبنان والكرسي الرسولي، عهد يجعل الفاتيكان شريكًا مباشرًا في مسار الإنقاذ، وصوتًا عالميًا يرفض ترك هذا الشعب فريسة الظلم والفساد والخيبة.
وفي ضوء هذا كلّه، يتأكد أنّ مستقبل لبنان لا يُكتب بالسياسة وحدها، بل بالإيمان أيضًا. لا يُكتب فقط في الاجتماعات الدولية، بل يُكتب أيضًا في صلوات الذين رفعوا رؤوسهم نحو قداسة البابا لاوون الرابع عشر وكأنهم يقولون: “لا تتركنا“. والفاتيكان لم يترك، ولن يترك. لأن لبنان، في عين الكنيسة، ليس وطنًا عادياً، بل فصلًا من كتابٍ أبديّ يجب ألا يُمحى.
إن الخلاصة التي يخرج بها هذا المقال هي أنّ العلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي ليست علاقة حماية خارجية، ولا علاقة حسن نية أو تضامن عاطفي، بل هي علاقة عضوية بين رسالةٍ تريد أن تبقى حية، وبين وطنٍ كان ولا يزال حاملاً لفكرة الشرق الحرّ. وإذا كان لبنان في أزمة، فالرسالة في أزمة. وإذا قام لبنان، قامت معه مساحة من نورٍ يحتاجها الشرق ويحتاجها العالم.
ولهذا، فإن مستقبل لبنان لا ينفصل عن دور الفاتيكان، كما أنّ دور الفاتيكان لا ينفصل عن قدرة اللبنانيين على النهوض. هي شراكة تاريخية، وجودية، مصيرية، تتجدد مع كل أزمة، ومع كل جرح، ومع كل زيارة بابوية تتحوّل إلى صرخة خلاص. في النهاية، يبقى لبنان، رغم الألم، ورغم الخراب، ورغم الخيبات، وطنًا قادرًا على القيامة. ويبقى الكرسي الرسولي، رغم المسافات، راعيًا لهذه القيامة، شاهدًا عليها، داعمًا لها، وشريكًا في إعادة لبنان إلى مكانه الطبيعي: منارة للشرق، وبيتًا للإنسان، وموطناً لرسالة لا تموت.
























































