مكان بحري سياحي في دبي
د. غالب خلايلي
مناسبة غالية انتظرناها طويلاً في دبي: دعوة إلى عرس من عائلة صديقة قبل ستة أشهر، وها هو ذا الوقت قد مضى بسرعة خيالية.
الوقت المقرّر هو تمام الرابعة عصراً من يوم السبت الثالث عشر من كانون الأول، والمكان حديقة بحرية مفتوحة في دبي.
هو أول عرس أحضره في مثل هذا التوقيت، والفكرة أن يُستغلَّ غروب الشمس المبكّر في أواخر الخريف الخليجي.
كان علينا إذن أن ننطلق مبكراً من بيتنا كي نصل على الوقت، فدبي مدينة المفاجآت. استخرجتُ العنوان من بطاقة الدعوة، ونسخته في كرّاسة العم غوغل، وسرعان ما رسم لي الطريق، وحدد الوقت بساعة ونصف الساعة، أي نصل على بركة الله في الرابعة والنصف، وهذا وقت جيد. أما لماذا لم نخرج قبل ذلك، فلا أظن الجواب خافياً على أي زوج ترافقه زوجته في أية مناسبة.
الطريق الذي سلكتُه مئات المرات من العين إلى دبي مليء بالسيارات. بعض الغباء القيادي المزعج في السواقة متوقع، خاصة أن السبت يوم دوام في القطاع الخاص، وخروجنا يوافق انتهاء العمل عند نفر، كما أن الوقت مناسب لمن عطّلوا وناموا واستيقظوا متأخرين كي يزوروا دار الحي (دبي) لألف سبب وسبب.
ينقطع قلبك رعباً عندما تصبح على مشارف المدينة، وتظهر أمامك غابة الأبراج وشبكة الطرقات التي تشبه كبكوبة الخيطان المتشابكة لتقول لك: أنت أهبل رغم أنفك مهما كنت ماهراً في القيادة!. ففي اللحظات الحاسمة التي سوف تنقلك من جهة إلى جهة عبر جسور متعددة، سوف تندم كثيراً إذا أخطأت المخرج المطلوب، لأنك سوف تدور وتعود من حيث أتيت في زحمة يعلم الله ما هي.
وأقول: الحمد لله، كل ذلك مضى بمعاونة نائبة السائق (المدام) التي تخبرني في كلّ حاسمةٍ: اتجه كذا، فإن رأت تردّدي تقترح: هل أقود عنك؟
ولأنني قررت سلفاً أن أبقى بارد الأعصاب، أتقبّل كل ذلك بروحٍ رياضي (لم يعدْ أحدٌ يجده حتى في الرياضة)، وكأن شيئاً لم يحدث أو كلمةً لم تقلْ، وأواصل السير تبعاً لتعليمات الأخت الناطقة باسم غوغل، راجياً الله ألا يرنّ جرسُه مع كلمتيّ: إعادة الحساب.
اقتربنا كثيراً من الموقع المشار إليه، ودخلنا في متاهة قديمة كأنها جيبٌ طويل ضيق في عباءة دبي الواسعة، وبدأت ألاحظ قِدَم المباني وتضيّق الطرق، ولكنني كنت واثقاً من خياري، إنما مندهشاً من المكان: أمعقول أنه هو؟ أين هو إذن ذلك المنتجع، وأين هو البحر؟
وآنستنا سيارة نزلت منها صبيتان (مودرن) فقلنا: ربما تتجهان إلى العرس، لكنهما اتجهتا إلى بيت! ترى هل من المعقول أننا ذاهبان إلى بيت العروس؟
ولما حلّ بنا الذهول، توقفت في مكان يتيح للسيارات أن تتعداني، فإذا بشخص (وافد) أشيب اللحية والشعر في مطلع الخمسينات وقف يدخّن أمام بناية مقابل سيارتي، فنزلت زوجتي تسأله عن المنتجع، ولما طال الوقوف (تكركبت) ونزلت وراءها لأسمع الحكاية، فإذا بالصاعقة: ليس هذا هو المكان، وما نسعى إليه يبعد نحو 45 دقيقة بالسيارة.

تساءلت من غير تفكير: إلى أين سوف نذهب الآن؟
فرد الرجل بصوته الأجش وبلهجة شامية لا لبس فيها: “تذهب إلى العرس”.
وكم ضحكت في سرّي إذ ضعت غصباً عني لأجد شامياً عتيقاً وحيداً في زحام دبي ينتظرني ويصحّح لي مساري.
في هذا الموقف، غير اللطيف طبعاً، كان لا بد أن تُسمعَني زوجتي (ومعها حق) كلماتٍ مغزاها أنني نقلتُ العنوان خطأ، وأنا أحلف أنني لم أخطئ، فكان أن ذكّرتني بخطأ ارتكبته قبل نحو خمسة عشر عاماً، عندما كنا ذاهبين إلى حفل طلابي في الجامعة الأميركية بالشارقة، وقد أخطأتُ وقتَها خطأ مؤذياُ بالفعل، بسبب تشابه العناوين. وكان أن اقترحت (المدام) مرة جديدة أن تقود المركبة، لكنّي رفضت، فِأنا لم أفقد أعصابي بعد، فهذا قبل كل شيء قرار.
وبعناية الرحمن، والشمس ما زالت مشرقة، شققنا الطرق، ورحِمَنا السائقون وقد كدنا نتوه عن المداخل والمخارج التي لا حصر لها، ولو لم يرحمونا (ويبدو أنهم اعتادوا على ضياع مثلنا) لدخلنا في ألف (حيط)، لنصل أخيراً إلى منعرج سفلي أيمن الطريق يوصل إلى شبه غابة من نخيل مضاءة جذوعها بمصابيح صفر جميلة على شريط لولبي، وتخترق الغابة شوارع ضيقة بمطبات متعددة، وتنتهي بعد مئات الأمتار بأماكن أصطفاف واسعة، من هنا وهناك، ومن فوق وتحت، فقررنا أن نركن سيارتنا في أي مكان، لنسأل بعد ذلك: هل الاصطفاف مجاني؟ ثم: إلى أين المسير؟
سؤال جوهري في مكان لا تدري أوله من آخره، ترى الفلك (القوارب الكبيرة) من جهة، وتسمع صوت أغانٍ عالية قدّرنا أنها للحفل المرجوّ دون أن نتأكد (إذ كانت غير مألوفة)، وترى أبنية متباعدة وسط الشجر، ولا ترى علامة لمدخل واضح.
والحق أن مثل هذا الموقف لم يحدث معي من قبل في أي مكان (اللهم في سوى يوم ضعت فيه بحلب، وكنت طفلاً صغيراً)، فكان أن مشيتُ وزوجتي يميناً وشمالاً نبحث عن حمّام أولاً ثم عن باب أمل، نسأل هذا وذاك من عمال (تايلانديين؟) دون أن نصل إلى جواب، فكل واحد منهم له دنياه الخاصة من الخدمة، فكان أن سألنا أحدهم كي يوصلنا إلى ردهة الفندق، وكم سررتُ بوجود تمر رائع المذاق وقهوة عربية في ذات ممشى، خاصة وأنني لم أتناول غدائي، وصرفتُ من الطاقة ما يكفي حتى وصلت.
وفي الردهة الصغيرة شبه المعتمة (أو هكذا رأيتها) أخبرَنا الموظف أن عربة النقل تصل بعد قليل، وبالفعل حملنا التايلاندي (وربما الميانماري!) الطيب السعيد (رغم ضآلة راتبه) حتى وصلنا إلى مشارف العرس، فنزلنا وقطعنا طريقاً ضيقا بين المياه، لنصل إلى مكانٍ عامر بأهله وضيوفه، في شبه جزيرة صغيرة تحيط بها المياه واليخوت، فيما تظهر أبنية دبي المضيئة من بعيد.
على جانب من الحفل منصة استقبال، وثلاث صبايا باسمات بثياب رسمية سوداء، سألنني عن الاسم ليوجهنني بعدها إلى مكان الجلوس، طاولة من طاولات تحيط بحلبة الرقص المليئة عن بكرة أبيها، بأجمل ما تتخيل، فيما تصدح أغاني الدي جي من كل لون، حديثٍ لم نألفه وقديمٍ عشقناه، ليكون جاري في كرسيي شخصاً غريباً وقوراً أنيقاً في مثل سني أو أكبر تجلس على يساره زوجته الباسمة الأنيقة، ولم تمر دقائق حتى كنا أصدقاء، إذ تعارفنا بكتابة أسمائنا على الهاتف، وقد استحال سماع الصوت.
وكم أدهشني صديقي المهندس الكبير المتقاعد (جاري الجديد) وهو باني مئات الجسور أنه كاد يضيع مثلنا، وأدهشني أكثر ضياع كثير من الحاضرين، بل ضياع حتى والد العروس، الذي وجد نفسه في ألاسكا، كما غمز ضاحكاً، وكل هذا ما أزاح عن صدري صخرة الاتهام الثقيلة بأنني أخطأت، أما تكفيني أخطائي المسجلة بعناية في ذاكرة الزوجية، والتي يمكن أن تنبشَها طازجةً مواقفُ مشابهة؟

حدثتكم أيها الأصدقاء عن الطريق والرفيقة والرفيق، أما العرس ذاته فقد كان من أجمل الأعراس، وكان لقاء طيباً بأصدقاء قدماء وصديقات، كلهم صاروا أجداداً وجدات.
وتستمر مسيرة الحياة مع أجيال جديدة من شبان وصبايا يمتلئون حيوية وأملاً، ونستمر بحضور المناسبات الكريمة، ولو ضعنا في الطرقات.
كان لا بد أن نعود بعد ساعات من الأنس والفرح، خاصة أن أخبار عاصفة مطرية لاحت في الهواتف الذكية، ولم تلح في الأفق، فعدنا بهدوء لا يشبه بالمرة رحلة الذهاب.
وبالرفاء والبنين للعروسين الكريمين، ولكل عروسين جديدين مقبلين على ثقافة الحياة.
العين في 15 كانون الأول 2025






















































