الحياة المنقرضة
بقلم د. غالب خلايلي
في الحياة أمورٌ مهمّة كثيرة لا تلبثُ أن تفقدَ أهمّيتها مع الوقت، مهما كانت جذّابة أيام عزّها.
هي ذي طبيعة الحياة في تبدّلها الدائم. ففي الماضي القريب، من كان يستطيع الاستغناء عن الأوراق والأقلام والمحابر؟ كانت ضرورية في المدارس والجامعات والدوائر…، فكنتَ ترى الطالبَ يحمل دفاتره وأقلامه بكل حرصٍ واعتزاز، وكذا كانت الشخصيات المهمّة تحمل الأقلام الفخمة، وكان رجال الأعمال لا يستغنون عن دفاترهم الكبيرة، ناهيك عن مجلّدات تسجّل حتى خفقاتِ قلوبهم.
في الماضي غير البعيد أيضاً، كانت النفوس تتوق إلى قلمٍ جميل أو مفكّرة، وكم كانت الأخيرة مفرحةً عندما تصافحها العيون لحظة استلامها وتصفّحها، أما اليومَ، فإنك لا تكاد تجد أحداً يحمل قلماً، لأنه استغنى عنه بحاسوبه أو هاتفه، وبتّ ترجو أي شخص أن يقبلَ مفكّرةً هديّةً فينظر إليها شزراً كأنه رأى مُنكراً، وإن رأى المنكرَ بحقّ، وما أكثره، فربما لا يستهجنه.
لكن لمَ الغرابة؟ فحتى أنا من الجيل القديم، استغنيتُ عن كمّ وافرٍ من الأوراق بعد أن اعتمدتُ الكتابةَ الحاسوبية منذ عقود، فلم تعدْ الأوراق تلزم إلا لتوثيق زيارات المرضى، والوصفات (وهذه تحوّلت في معظم الأماكن إلى إلكترونية)، وكذا في المعاملات الكثيرة المستهلِكة لكمّ كبير من الأوراق والصور والوقت، والمدمِّرة لسنجابيّة الدماغ (ويكفيها ما فيها)، حتى في العصر الرقمي، لتغدو عبارة (لا تطبع هذه الرسالة إلا عند الضرورة) مضحكةً جداً وبلا معنى مثل كثير من الحكم المحنّطة والمبادئ المجمّدة (حقوق الإنسان مثلاً…).
في الماضي غير البعيد كنتُ – في ما يشبه الإدمان – لا أستغني عن جريدة الصباح يوصلها السّاعي حتى باب المنزل، ولا أستغني عن عدة مجلات شهرية (طبيبك، العربي، الهلال، العربية، القافلة..)، واليوم لا أكاد أشتري جريدة إلا كل سنتين، بسبب التطوّر التقني الذي يجعل الجريدة باهتة المعلومات (لاسيما مع غياب عناصر الفكر الحرّ والإبداع فيها)، فيما يستطيع المرء أن يطالع عدة جرائد في هاتفه، لكن المؤسف والمفاجئ أيضاً هو أن معظم المطبوعات التي كانت تتميّز بالفكر والإبداع توقّفت عن الصدور، لأسباب مادية (فما من يشجعها)، وإذا صدر بعضٌ منها صَعُبَ الوصول إليه، مع تمزّق أوصال الأوطان، واختلاف المفاهيم والحريات والأولويات وشحّ الإمكانيات، والمبكي أن المتمكّنين لا يقرؤون، إنما يتوجهون إلى الأماكن الاستهلاكية كالملابس والتجميل والترفيه والطعام، فيما يندب الكتّاب والمفكّرون حظوظهم.
لقد شهد أهل تحميض الصُوَر وطبعها نكبةً عارمة بعد أن صارت الصور كلها (تقريباً) إلكترونية، فاضطروا إلى تغيير مهنهم، أو ممارستها في أضيق الحدود.
ومع تطوّر برامج التواصل، تراجعت أهمية المكالمات الهاتفية، وفقدت مكاتب البريد مكانتها، حتى إنني لا أذكر آخر مرّة رأيتُ فيها طابعاً بريدياً، فيما كانت محفظتي لا تخلو من طوابع. أما صندوق البريد المسكين فحدّث عن وحدانيته وكآبته ولا حرج، إذ راح يصفر معظم أيام السنة، لتؤنسَه مجلّة بين فصل وآخر مخصصة للكائنات المنقرضة تدريجياً (واليوم: تماماً)، ودعْني أقلْ لك اليوم: كان يا ما كان.
في الأجيال التي سبقتنا حدث تطوّر شكليّ جنى على فئة، وأسعد فئات، ومن ذلك اختلاف لباس الرأس بين زمنٍ وآخر، فقد شاعت، بعد اللباس العربي المعروف (الغترة والعقال)، موضة (الطرابيش الحمر) في الزمن العثماني، ثم جاءت القبّعات (البرانيط) تعبيراً عن رفض الماضي، لكنها زالت كلها تقريباً، ليبقى الرأس حاسراً دون أدنى حماية. وقل مثل ذلك في طُرُز اللباس (الموضة) التي صارت سريعة التبدل من أجل الكسب، حتى وصلنا إلى مرحلة الملابس الممزّقة و”المجعلكة” دون حروب أو مشاجرات، فإذا هي دليل على الرفعة والرقيّ بعد أن كانت علامة عارٍ وخزي!، واليوم وصلنا إلى مرحلة العري طوعاً كان أم إكراهاً.
لقد طال التبدل كل شيء تقريباً، مثل السيارات التي تمّ تعقيدها إلكترونياً، فبات الكهربائي العادي الذي لا يجيد برامج الحاسوب أو يمتلك ثمنها، يقف مكتوف اليدين أمامها، فيضطر المرء إلى مراجعة الوكالات التي تقصم فواتيرها الظهر. ومع ظهور السيارات الكهربائية سوف تنعدم مهن كثيرة ذات علاقة بسيارات الماضي الا في الدول المتخلفة.
وقد طالت الحياة الإلكترونية كل مجال، بما في ذلك الطب، وبات أهل التقنية سادة الموقف، وخط الدفاع الأول ضد القراصنة العابثين Crackers والمحتالين Scammers، مما يهدّد كل إنجاز حضاري.
أشياء جديدة كثيرة تظهر في حياتنا فجأة (حرب، قرار، رُسوم مستحدثة، هدم بناية أو حيّ، فتح شارع، تطبيق جديد مثل تشات جي بي تي، تعقيدات حياتية أو وظيفية، فقدان العمل، مرض غير عادي مثل كوفيد، خلع أو “فكش”، كسر، حادث….) تغيّر خططنا بإرادتنا أو غصباً عنا، من أبسط الأمور اليومية (كالتي ذكرنا) إلى أعقدها (مثل تغيير المهنة أو المدينة أو حتى القارّة)، ولا أدل على ذلك من أننا اليوم نعاصر عالماً تهيمن عليه البرامج الإلكترونية والذكاء الاصطناعي في كل التفاصيل (حتى نوم الناس وأحلامهم)، فيما نسيّر شؤون حياتنا بمفاصل صدئة مهترئة، لا نكاد نجد لها بعض زيت لتليينها.
إن العقل الجامد (خلاف الديناميكي) يرفض التغيير (فهو أصلاً لا يَفهَمه، وربما لا يوجد من يُفهِمه)، فيقرر البقاء على هواه القديم، وهو دون شك، سوف يعاني، ويتحمّل نتيجة خياره.
لكن ماذا عن أولئك الذين ضاقوا ذرعاً بكل شيء حولهم، وذهبوا بعيداً بسبب التغيير، هل يحالفهم الحظ؟
يختلف ذلك بين أناس يعرفون ما يفعلون، ويقفون على أرض ثابتة (وتسعى إليهم الدول المتقدمة، لمزيد من إفراغ العالم النامي من ثرواته البشرية)، وآخرين تميد بهم الأرض، ناهيك عن البحر الغدّار، يشربون من كأس الحنظل المرّ الذي يدور على معظم دراويش الكرة الأرضية وإن كانوا من حملة الشهادات العالية.
إننا مع الأسف نعيش في عالم ظالم مظلم، وما فتئ غلابى الأرض العاملون بجد دون راحة، والمهمومون حتى الثمالة، يذكّرونني بالمواد الأولية وقطع الغيار، كل قطعة منها هي إنسان كامل، يُستهلك كما الجزر: تدخل الجزرة صلبةً مشدودة القوام إلى العصّارة على أمل الخروج في حالٍ أحسن، فإذا بها تنتهي عصيراً يشربه المنعّمون، وثُفلاً يرمى للدواب، فيما باقي أكياس الجزر مصطفّة في الدور بأدب، تنتظر الدخول إلى المعصرة.
عاما جديداً سعيداً.






















































