مغارة في بلدة يارون الحدودية
لا يأتي عيد الميلاد في الذاكرة الإنسانية بوصفه ذكرى دينية محصورة بجماعة أو عقيدة، بل كحدثٍ رمزيّ بالغ العمق، يحمل في جوهره إعلانًا أخلاقيًا وفلسفيًا مفاده أن المحبّة ليست فضيلة إضافية يمكن الاستغناء عنها، بل هي الشرط المؤسِّس لكل معنى إنساني قابل للاستمرار. فميلاد المسيح، في بُعدَيه الرمزي والإنساني، هو ولادة لفكرة قلبت منطق القوة السائد، واستبدلت قانون الغلبة بقانون العطاء، ومنطق السيف بمنطق القلب، في عالمٍ كان ولا يزال يميل إلى تقديس العنف وتبرير القسوة باسم المصالح والسياسات والهويات. من هنا، يصبح القول إن عيد الميلاد يعني أن المحبّة هي كل شيء، ليس شعارًا عاطفيًا، بل أطروحة فكرية جذرية تتحدّى البنية العميقة للعالم المعاصر، عالمٍ انقلب على نفسه، فصار يقيس التقدّم بمقدار ما ينتج من أدوات الفتك، ويقيس النجاح بقدرة الإنسان على سحق أخيه الإنسان. في هذا السياق، تطرح المحبّة كفكرة ميلادية سؤالًا وجوديًا وأخلاقيًا عن جدوى الحضارة إن فقدت روحها، وعن معنى الإيمان إن لم يتحوّل إلى ممارسة إنسانية تُرمّم هذا العالم المكسور.
1. المحبّة في الميلاد كقلبٍ للفلسفة الإنسانية لا كطقسٍ شعائري
إن جوهر عيد الميلاد لا يُختزل في الطقوس والاحتفالات والرموز الخارجية، بل يكمن في الانقلاب القيمي الذي أحدثته رسالة الميلاد في تاريخ الفكر الإنساني. ففكرة أن يولد الإله في الهامش، في الفقر، في العراء، لا في القصور ولا في مراكز السلطة، تحمل دلالة فلسفية عميقة مفادها أن القيمة الأخلاقية لا تُستمد من القوة ولا من السيطرة، بل من القدرة على التواضع والمشاركة والاقتراب من الألم الإنساني. هنا تتحوّل المحبّة من مفهوم أخلاقي مجرّد إلى قاعدة أنثروبولوجية لإعادة تعريف الإنسان، بوصفه كائنًا علائقيًا لا يكتمل إلا بالآخر. في عالمٍ معاصر أعاد إنتاج الإنسان كرقم اقتصادي أو أداة استهلاكية أو وقودٍ لصراعات لا تنتهي، تأتي المحبّة الميلادية كصرخة ضد هذا الاختزال الممنهج للكرامة البشرية. إنها تذكير بأن الإنسان لا يُقاس بما يملك بل بما يمنح، ولا بما يفرضه بل بما يحتمله من أجل غيره.
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن أزمة العالم اليوم ليست في نقص القوانين ولا في غياب المؤسسات، بل في الفراغ القيمي الذي أصاب معنى المحبّة نفسها. لقد جرى تدجين هذا المفهوم وتحويله إلى خطاب إنشائي يُستدعى في المناسبات، بينما تُدار العلاقات الدولية والاقتصادية والاجتماعية بمنطق النفعية الباردة. الميلاد، في جوهره، يفضح هذا التناقض، لأنه يضع المحبّة في مواجهة مباشرة مع أنظمة عالمية قائمة على الإقصاء والاستغلال وتراكم الامتيازات. وهنا تكمن راديكالية الرسالة الميلادية، إذ لا تكتفي بدعوة أخلاقية عامة، بل تُطالب بإعادة هيكلة نظرتنا إلى السلطة والثروة والمعنى، انطلاقًا من أولوية الإنسان كغاية لا كوسيلة.
إن العالم المنقلب على نفسه هو عالم فقد البوصلة بين الوسيلة والغاية، بين التقدّم التقني والانحدار الأخلاقي، بين الخطاب الحقوقي والممارسة الإقصائية. وفي هذا السياق، تعود المحبّة الميلادية لتطرح سؤالًا غير مريح: ما قيمة حضارةٍ تستطيع الوصول إلى الكواكب، لكنها تعجز عن حماية طفل من الجوع أو إنسان من الإذلال؟ إن الميلاد، بهذا المعنى، ليس حدثًا ماضيًا يُحتفل به، بل معيارًا نقديًا حاضرًا يُقاس به صدق إنسانيتنا.

2. المحبّة كفعل مقاومة في عالم العنف المنظّم
حين نقول إن المحبّة هي كل شيء، فإننا لا نتحدّث عن عاطفة ساذجة أو موقفٍ رومانسي منفصل عن الواقع، بل عن فعل مقاومة عميق في وجه منظومات العنف المنظّم التي تحكم العالم المعاصر. فالعنف اليوم لم يعد انحرافًا طارئًا، بل أصبح بنية مؤسسية تُدار بالقوانين والاقتصاد والإعلام، ويُسوّق بوصفه ضرورة أمنية أو مصلحة وطنية أو حتمية تاريخية. في هذا السياق، تبدو المحبّة فعلًا ثوريًا لأنها ترفض منطق التبرير الأخلاقي للقتل والإقصاء، وتعيد الاعتبار لقيمة الحياة البشرية خارج حسابات الربح والخسارة.
إن رسالة الميلاد، حين تُقرأ في ضوء واقع العالم اليوم، تكشف عن مفارقة صارخة: كلما ازداد العالم ادعاءً للتمدّن، ازداد قسوة في ممارساته، وكلما ارتفع منسوب الخطاب الأخلاقي، ازداد انفصاله عن الفعل الواقعي. هنا، لا تعود المحبّة خيارًا أخلاقيًا فرديًا فحسب، بل ضرورة تاريخية لإنقاذ الإنسان من ذاته. فهي وحدها القادرة على كسر الحلقة الجهنمية التي تربط الخوف بالعنف، والعنف بمزيد من الخوف. المحبّة، بهذا المعنى، ليست نقيض القوة، بل إعادة تعريف لها، قوة قادرة على تفكيك منطق الهيمنة من الداخل، لا عبر استبداله بهيمنة مضادة، بل عبر تجاوزه جذريًا.
في عالمٍ انقلب على نفسه، صارت الكراهية سلعة سياسية، وصار التحريض وسيلة للحكم، وصارت الهويات أدوات تعبئة ضد الآخر. أمام هذا الواقع، يستعيد الميلاد معناه كدعوة إلى بناء إنسان قادر على رؤية الآخر لا كتهديد بل كمرآة لضعفه الإنساني المشترك. المحبّة هنا ليست إنكارًا للصراع، بل سعيًا لتجفيف منابعه عبر معالجة جذوره النفسية والاجتماعية والاقتصادية. إنها فعل شفاء جماعي لعالمٍ مصاب بجراح مفتوحة، يرفض الاعتراف بها، ويفضّل تغطيتها بخطابات القوة والانتصار الوهمي.

3. المحبّة كأفق خلاص لعالم فقد المعنى
إن أخطر ما يواجه العالم المعاصر ليس الحروب ولا الأزمات الاقتصادية وحدها، بل فقدان المعنى الذي يجعل الإنسان غريبًا عن ذاته وعن الآخرين. في هذا الفراغ الوجودي، تتكاثر أشكال العنف والانتحار الرمزي، ويصبح الإنسان كائنًا مُرهقًا بلا أفق، يبحث عن بدائل زائفة للمعنى في الاستهلاك أو التعصّب أو الانغلاق. هنا، تعود المحبّة الميلادية لتُطرح كأفق خلاص، لا بمعناه اللاهوتي الضيّق، بل كإمكانية إنسانية لإعادة ترميم العلاقة بين الإنسان وذاته والعالم.
إن المحبّة، كما يقدّمها الميلاد، ليست وعدًا بالخلاص السهل، بل دعوة إلى تحمّل مسؤولية الألم الإنساني بدل الهروب منه. إنها انتقال من منطق السؤال عن من هو المخطئ إلى سؤال أعمق عن كيف يمكن إنقاذ الإنسان من السقوط النهائي في العدمية. في عالمٍ يقيس كل شيء بمنطق السوق، تُعيد المحبّة الاعتبار لقيم لا تُقاس ولا تُشترى، كالكرامة والرحمة والتضامن. وهي بذلك تُشكّل أساسًا لإعادة بناء معنى العيش المشترك في زمن التفكك.
إن القول إن عيد الميلاد يعني أن المحبّة هي كل شيء، هو في جوهره إعلان موقف حضاري في وجه الانحدار الأخلاقي العالمي. إنه رفض لتحويل الإنسان إلى رقم، ورفض لاختزال الإيمان في طقوس، ورفض لقبول عالمٍ بلا قلب. المحبّة هنا ليست نهاية الطريق، بل بدايته، لأنها تفتح أفقًا جديدًا للفعل الإنساني، أفقًا يعترف بالضعف كجزء من القوة، وبالآخر كشرط للذات، وبالمعنى كغاية تتجاوز كل حسابات الربح والخسارة.
4. الخاتمة
في عالمٍ انقلب على نفسه، وتاه بين شعارات التقدّم وواقع الانهيار الأخلاقي، يعود عيد الميلاد كتذكيرٍ جذري بأن المحبّة ليست ترفًا ولا خيارًا ثانويًا، بل الشرط الأساسي لبقاء الإنسان إنسانًا. إنها ليست ذكرى تُحتفل بها مرة في السنة، بل معيارًا دائمًا يُقاس به صدق الإيمان، وعمق الحضارة، ومعنى الوجود. فإذا كان العالم اليوم يقف على حافة التفكّك، فإن المحبّة، كما أعلنها الميلاد، تبقى الإمكانية الوحيدة لإعادة لملمة المعنى، وترميم الإنسان، وإنقاذ هذا العالم من نفسه.
























































