عبودية من التاريخ الماضي
بقلم د. غالب خلايلي
العبودية قديمة قِدَم التاريخ، وهي قائمةٌ إلى اليوم على رغم كلّ ما يُقال عن حريّةٍ هنا وديمقراطية هناك، صارتا تبدوان حتى للأحمقَ كذبتَيْن كبيرتَيْن، ولا أدري – في هذا المقام – لماذا لا يُغيّر المنبهرون بتلك التعابير قناعاتِهم على رغم وضوح الصورة؟
ومع أن كثيراً من صور العبودية تعيش بين ظهرانينا، لم أفكّرْ بأمرها كثيراً، إلا بعدما اتضح الأثر المدمّر لها في سنتيّ كوفيد 19، وبعدما قرأتُ مقالاً رهيباً نشرتْه (مجلة تأمين ومصارف العدد 235 – 236، أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2020) عن (التأمين في تجارة العبيد)، أوضح “أنه بدأ في القرن الخامس عشر، وتزامن مع ظهور النظام الرأسمالي، وموجات اكتشاف العالم الجديد، حيث نشأت صناعة التأمين على العبيد والسّفن التي تنقلهم، وتعوّض حتى عن رمي العبيد المختطفين في البحر”.
يقول وليامز في كتابه (الرأسمالية والعبودية Capitalism and Slavery): “إن جميع طبقات المجتمع الإنكليزي قبل 1783 م كانت جبهةً موحّدة في مسألة تجارة العبيد، فالتاج والحكومة والكنيسة والرأي العام كلها ساندت تلك التجارة، حتى إنّ حملةً منها انطلقت برعاية ملكة بريطانيا وإيرلندة إليزابيث الأولى (1533– 1603م)، ويقول: يتحمّلُ المؤمِّنُ نفسُه خطر خسارة العبيد أو القبض عليهم أو موتهم أو أي حادث آخر لا يمكن تجنّبُه، ويستثنى الموت الطبيعي من ذلك، وكذا رمي “البضاعة”، فما الذي يعنُونه بذلك؟
إنهم يعنون الموت الناجم عن إنهاء الأسير حياته بسبب اليأس، أو عندما يُقتَل العبيد أو يُلقَوْن في البحر لقمع تمرّدهم، وهنا على شركات التأمين الاستجابة لطالب التعويض! أي إن القبطان يعرف أنه سيعوّض حال رمي البضاعة في البحر، من أجل إنقاذ السفينة والملاحين (والعبيد هنا بضاعة مثلهم مثل الأخشاب والحيوانات).
ولنذكر أنه بدءاً من 1 أيار (مايو) 1807، صار مثل هذه التجارة غير قانوني، بعد نضالٍ قانونيّ طويل.
لمحة من التاريخ الحديث. عدا عن الإبادة العرقية واستعباد أهل البلاد (مثل الهنود الحمر في القارة الجديدة، والأبورجيين في أستراليا…)، عرف التاريخ البريطاني والأميركي قبل نحو أربعة قرون “العبودية البيضاء” قبل “العبودية الملونة”، وكان الآيرلنديون ضحاياها، لتأتي بعدها “العبودية الهجين”، وفيها زُوِّجت الأيرلنديات بأفارقة لإنتاج عبيد سمر أقل سعراً. وإذا كان بعضهم قد خجل من إطلاق مسمّى “عبيد” على الإيرلنديين، واستبدل بها تسمية “عمال بالتعاقد”، إلا أن الحقيقة لا تتغير، إذ كان الإيرلنديون في القرنين الـ 17 و 18 مجرد بضاعة حية، شحن منهم مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، الذين تقول إحدى الروايات: إن مئة منهم شكّلوا الموجة الأولى من العبيد الذين وصلوا القارة الجديدة عام 1619م في احتفال بعيد الفصح، قبل أربعة أشهر فقط من أول موجة من العبيد السود القادمين من إفريقيا. ويقال: بدأ الاستعباد عندما باع ملك إنجلترة جيمس السادس 30 ألفاً من السجناء الأيرلنديين عبيداً إلى العالم الجديد. وكان إعلان أصدره عام 1625م يفرض ترحيل الإيرلنديين المحكومين بالسجن على ذمة قضايا سياسية إلى ما وراء البحار، وبيعهم للمستعمرين الإنكليز في الهند الغربية، بحسب الكاتب جون مارتن. وهناك من يُرجع بدء بيع الأيرلنديين للمستوطنين الإنكليز في أميركا للحروب الأهلية الإنكليزية منذ منتصف القرن 17، عندما تعرض أكثر من 500 ألف أيرلندي للقتل على يد الإنكليز بين 1641 و1652م، كما بيع 300 ألف آخرون عبيداً، واتسمت رحلات نقلهم بالعنف والوحشية، أو كما وصفها كثيرون “رحلة موت بطيء”، لا تختلف عن الرحلات الخاصة بالعبيد الأفارقة، والتي صورها الفيلم الشهير للمخرج ستيفن سبيلبيرغ في فيلمه “Amisted (1997)”.
ولم تكن العبودية شيئاً غريباً عن ذلك العصر. كانت ظروف العمل في الريف والمدن أشبه بالرقّ بسبب المعاملة السيئة للعمال، وصنوف العقاب التي كانت تنزل بهم. وقد استمرّت مع الذين انتقلوا إلى أميركا، ومنها الجَلْد والضرب حتى الموت، وإحراق العبيد أحياء حال ارتكابهم لأية أخطاء في العمل القاسي الذي يقومون به لصالح أسيادهم المختلفين معهم دينياً، أو إذا فكروا بالتمرد.
يُذكر أن التجارة بالعبيد السود بدأت تنتشر على نطاق واسع في تلك الفترة، وكان التعامل مع الأفارقة، الذين لم يلحق بهم عار الكراهية للعقيدة الكاثوليكية، أفضل من التعامل مع إخوتهم في البؤس والشقاء القادمين من إيرلندا. كما كان العبيد السود أكثر كلفة من الأيرلنديين، ففي نهاية القرن الـ 17 كان العبيد الأفارقة يقدّرون بأسعار باهظة نسبياً (50 جنيهاً إسترلينياً)، أما الإيرلنديون فكانوا أرخص بكثير، إذ لم يتجاوز سعر أي منهم خمسة جنيهات. وإذا جلد الإقطاعي عبده الإيرلندي أو وسمه أو ضربه حتى الموت فلا يعد ذلك جريمة. موته مجرد خسارة مادية، هي أقل بكثير من قتل عبد إفريقي غالي الثمن.
وشيئا فشيئا انهمك المُلّاك الإنكليز بمعاشرة الإيرلنديات، بهدف الاستمتاع، وكذا الحصول على سلعة رخيصة الثمن، إذ أن أطفال العبيد عبيد أيضاً، مما يضمن قوىً عاملة رخيصة للإقطاعيين، كما راح المستوطنون يزاوجون النساء الإيرلنديات وصغار فتياتهن، مع العبيد الأفارقة، وذلك من أجل الحصول على عبيد مهجّنين (خلاسيين) ذوي مظهر خارجي معين يُباعون بأسعار باهظة.
استمر التهجين بين الأفارقة والإيرلنديات عشرات السنين، وتحولت إلى ظاهرة منتشرة، حتى صدر في العام 1681 م مرسوم يحظر الممارسة “الرامية إلى إنتاج عبيد للبيع”، وكان الدافع الرئيس وراء إصدار هذا المرسوم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها شركات استقدام العبيد.
العبودية الحديثة لبست أثواباً جديدة: إذا كانت العبودية بشكلها التقليدي (نزع الملوّنين من أرضهم، وشحنهم بالسفن، وبيعهم مقيّدين بالسلاسل…) قد اختفت، إلا أن هذا الاختفاء شكليٌّ بحت، فالحقيقة أن العبودية صارت أمرَّ إذ لبست أثواباً جديدة، وطالت فئاتٍ واسعةً حتى من غير الملوّنين، فغدا إنسانُ اليوم عبداً ذليلاً بما لا يُقاس إلى عبودية الماضي، ويمكن القول: إن كلّ من لا يملك قراره عبدٌ مهما ارتفعت منزلته.
كما يمكننا أن نتحدث عن أنواع من العبودية السائدة بين البشر والدول؟
-
- العبودية اللونية: ليس بالضرورة أن يُمتهن المرء لأنه غامقُ البشرة، بل قد يكون أبيضَ أشقرَ محمرّاً، لكنه ينتمي إلى دولٍ أو دياناتٍ مغايرة، فالأبيضُ الإنكليزيّ قد يرى أنه (سوبر) على باقي الناس حتى لو كانت بشراتهم مثل بشرته، كما أن الأبيض في غير دول قد يمارس عبوديةً على أصحاب البشرات الغامقة، أو العكس.
- العبودية العائلية أو القبلية: ترى في العائلة الواحدة، أو عند مجموعة العائلات التي تتسيّدها عائلة، فيما يكون لباقي العائلات ترتيبٌ حسب درجة أهمّيتها أو قربها من العائلة المتسيّدة (أو القبيلة).
- عبودية خدم المنازل: وهي تذكر بالعبودية الأولى، سواء أكان الخدم (مستوردين من أفريقيا أو آسيا..!) أم من السكّان المحليين الفقراء، أم من المهجّرين داخل دولهم أو خارجها، وهذا وحدَه فصل كبير تختلف مآسيه بين بيت وآخر، وبلد وآخر.
- التزويج بالإكراه والاستغلال الجنسي: وتضم شراء النساء للزواج عندما لا يكون لدى الأنثى الطفلة أو البالغة حرية اختيار الزوج أو رفضه، مع الخضوع الكامل في الزواج نفسه، كما تضم أيضاً الاستغلال الجنسي أو الدعارة القسرية بالقوة أوبالتهديد بأية عقوبة أخرى، وتعد اللاجئات والفارات من الحروب أكثر عرضة للاسترقاق، وهو ما يحدث بشكل منتظم كما تفيد التقارير.
- العبودية الدينية: حيث الاضطهاد قديماً وحديثاً بسبب الانتماء الديني (خاصة عند بدء التبشير)، وحيث حروب الإلغاء والإبادة، ومن أمثلتها القديمة اضطهاد أتباع الديانات الجديدة كلها، ومن الحديثة الاستعباد البريطاني (البروتستانتي) لأهل إيرلندة (الكاثوليك)، والاستعباد الكاثوليكي الفرنسي أيام لويس الرابع عشر للبروتستانت، وحروب الفرنجة التي اشتهرت باسم (الصليبية)، وحروب البوسنة والهرسك، وغيرها كثير مما نعيشه اليوم.
- العبودية الحزبية: وهي التي تمارسها أحزاب السلطة في الشرق والغرب، أو تمارسها أحزاب ذات نفوذ على باقي الأحزاب أو على الناس من غير الحزبيين.
- العبودية للتقاليد البالية: وفيها يُستعبد الناس (راضين أو غير راضين) للعادات والتقاليد الموروثة، والتي تختلف من مجتمع لآخر، كما تختلف حتى مع مبادئ الديانات الذي تنتمي المجموعات البشرية إليها، إذ إن العادات والأعراف أقوى. ومن الأمثلة السائدة عادات الزواج المتبعة والتي قد تهدم الفكرة من أصلها (رفض المتقدم لأسباب مادية أو جغرافية أو فكرية…)، أو تهدم الزواج إذا حصل. من هذا الباب يمكن أن نشير إلى عبودية حديثة مرتبطة بالعادات الجديدة طبية الطابع سيئة الطالع، وهي:
- العبودية الطبية “التجميلية”: وهي عبودية مستفحلة منذ عقد أكثر، ابتدأت بالأنوف نحتاً وتصغيراً تقليداً لأنوف الممثلات الجميلات، ولو من غير استطباب، وامتدت إلى الجلد لاسيما بعد اكتشاف فعالية البوتكس في إخفاء التجاعيد (إذ يشل العضلات) ثم حقن بعض المواد المالئة، ثم إلى الأسنان نجراً ولصقاً وتلميعاً، فالأثداء فالمؤخرة….، مما يملأ قاموساً أبطاله (نجوم الفن ووسائط التواصل) وضحاياه نساء وصبايا وشبّان وغيرهم، علماً أن هناك، عدا البشاعة والتشوه، أضراراً جمة، قد تكون غير عكوسة. ويلعب الجهلُ والتقليد الأعمى (من جهة الضحايا) والطمع وحب المال (من الجهة الأخرى) دوراً في تلك العبودية.
- العبودية للتدخين والمسكرات والمخدّرات: وهذه (وأقلها التدخين) من أقوى المؤثّرات العقلية التي يُقبل الناس عليها برضاهم، وينفقون أموالهم أو يستدينون أو يرتكبون الآثام من أجلها، وهي تستعبدهم وتمرضهم وتنهك قواهم، وقد تدخلهم في حلقة معيبة يرتكبون فيها الجرائم، ولا ينجو منها سوى من هداه الله وعاد إلى فطرته السليمة، وعبر هذه العبودية (لاسيما المخدّرات) تسيطر فئاتٌ باغية على جماهير عريضة من الشبان والشابات، ويستخدمونهم لأغراض دنيئة مثل الإجرام والبغاء والإرهاب.
- العبودية الهرمية: وهي التي نراها من قبل بعض الرؤساء على المرؤوسين، أياً تكن مجالات مسؤولياتهم، سياسية، أو اقتصادية، أو حتى تعليمية (عبودية الطلاب والأساتذة الأصغر للأستاذ الكبير)، ليمارس كلٌّ بدوره التنمّرَ أو الامتهانَ نزولاً إلى أسفل الهرم.
- العبودية الاقتصادية: وهي الأوضح اليوم، تمارسها الدول ذات الاقتصاد القوي أو المؤسسات الاقتصادية القوية على الدول الفقيرة، أو يمارسها الأغنياء وأرباب العمل على العاملين عندهم أو الفقراء المتعيّشين عليهم.
- العبودية التقنية: وهي واضحة كسابقتها، والتي استشرّت وإياها في عصر كوفيد، ومشكلتها أن معظم الناس يقبلون عليها دون أن يرَوا خطرها المدمّر للإنسانية، ويدفعون ثمنها غالياً حتى قبل لقمة الخبز، إلى درجة الإدمان أحياناً، كما تدفعها المؤسسات والدول التي تحتاج تلك التقنيات، بعد أن صارت لغة العصر، وتبقى عبدةً لأصحابها ما دامت لا تملك أمر التطور العلمي. وهنا نشير إلى إدمان الأطفال الإلكتروني وآثاره المدمرة، كما نشير إلى خطر القرصنة Hacking أو تسريب المعلومات مقابل مبالغ مالية ضخمة مما يجعل الأمن الإلكتروني Cybersecurity من أكثر الأمور أهمية اليوم بالنسبة إلى كل القطاعات الحيوية تقريباً.
-
- العبودية للعمل وأرباب العمل: ونراها في المجتمعات التي تغيب فيها قوانين العمل، أو يُلتفّ عليها بأساليب شيطانية، فإذا بالعمال (أطباء، مهندسين، ممرّضين، بنّائين، بائعين،….) مستعبدين في أماكن عملهم، لا يعرفون راحة، لا في عيد أو عطلة، ولو اشتكَوا وبكَوا، أو بكت أعضاؤهم (من قلوب وكلى ورئات وأكباد..) عليهم، تراهم يمشون ساهمين مسربلين بدخان التبغ لا يدرون أهم أحياء أم أموات. كما أن هناك صنفاً لا تستعبده جهة العمل، لكنه يستعبد نفسه بنفسه، فإذا هو مدمنٌ على العمل، لا يعرف فكاكاً منه، سواء أمن أجل الحب الجمّ للمال، أم من أجل العمل نفسه، فترى المدمن لا يرتاح في إجازة وهو يراقب هاتفه أو حاسوبه..، إن لم يعد إلى مكان عمله، وكم خرّ من هؤلاء صرعىً في ساحة العمل.
- العبودية للمال: وهي عبودية رديئة جداً وجدنا بعضاً من معانيها فيما سبق، وفيها يستعبِدُ المالُ الإنسانَ، فتراه خادماً له، في الوقت الذي يجب أن تنقلبَ فيه الآية (أي أن يكون المال هو الخادم للإنسان). وهنا نرى أن عبدَ المال جبانٌ يخشى العوز والفاقة مع أنه بخير، لكنه لا يطمئن، خاصة بغياب الضمان الاجتماعي المنصف، كما نرى أنه بخيل يقتر على عائلته ومجتمعه وحتى على نفسه (أحياناً)، فيما كان يمكن أن يتنعّم الجميع بدلاً من ضياع المال في المخابئ أو المصارف. وفي هذا المجال كم ذكر من الحكم والنصائح، مثل: “المال خادم جيد، لكنه سيد رديء”، ناهيك عمّا ورد في الديانات السماوية، من آيات تنظم المعاملات المادية، وتمجّد الإنفاق والعطاء، وتبشّر المعطين والمتصدّقين بحُسن العاقبة، فيما تنذر المبذّرين والبخلاء الأشحّاء بسوء المصير، لكن رغم ذلك نرى انتشار الفقر بشكل مريع، بسبب عبادة المال واستشراء الفساد.
- العبودية للبنوك وأرباب المال: يقع كثير من الناس ضحايا القروض وتمويل (المشاريع أو المنازل..) وبطاقات الائتمان، ليصبح معظم الناس رهائن عدد قليل من أرباب المال.
- عبودية الدَّيْن والعمل القسري: تظهر هذه العبودية عندما يكون عمل الشخص هو الضمان للدين، فهو وإن لم يُبَع صراحةً- إلا أنه خاضع لعقد إيجار طويل لا يمكنه إنهاؤه، ليبقى مع تدني شروط العمل والأجور وخصم الطعام والسكن عالقاً مدى الحياة داخل هذه الدوامة، إن لم يورث الدين لأفراد الأسرة الآخرين. كما يتضمن هذا النوع من العبودية العمل الجبري الذى تفرضه الدولة على الناس دون تقديم مقابل مناسب.
الاستئناس بالعبودية ومعيقات زوالها: على رغم وجود أصوات كثيرة تحارب العبودية والرقّ، ومن ذلك اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية قمع الاتجار بالأشخاص والدعارة وعمل الأطفال وتجنيدهم بالنزاعات المسلحة، وتخصيص يوم 2 كانون الأوّل (ديسمبر) يوماً عالميا لإلغاء الرق، إلا أن هناك عوائق كثيرة لإزالة العبودية، منها مشكلة المصطلح (إذ لا تعدّ بعض التصرفات عبودية)، ومشكلة المكاسب المادية التي باتت تروق للشركات الكبيرة وربما الدول، وأخيراً وجود قبول عند بعض المجتمعات، فهي مثلاً لا تعد الإجبار على الزواج عبودية.
ومن المؤسف أن كثيرين في عالمنا يستأنسون بالعبودية، ويتعايشون معها (هل أقول: يحبّونها؟)، إلى درجة تبقيهم خانعين قنوعين بوضعهم. ومنذ القديم، قال أفلاطون في هذا المجال: “لو أمطرتِ السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات”، وقال إبراهام لنكولن محرضاً: ” انهضوا أيها العبيد، فما رأيتموهم كباراً إلا لأنكم بقيتم صاغرين”. كما قال مصطفى محمود: “هناك من يناضل من أجل التحرّر من العبودية، وهناك من يطالب بتحسين شروطها“، في حين قال محمود درويش معللاً: “إن من رضع ثدي الذل دهراً رأى في الحرية خرابا وشرا”.
لا شك أن ثمن الحرية كبير مثلما قال شوقي: (وللحرية الحمراء باب / بكل يد مضرجة يدق)، وكثير من الناس يخشون التغيير، ومن ثم لا يريدون أن يغامروا أو أن يقدموا أية تضحية في سبيل الحياة. هذا حال الخانعين، لكن هناك من لا يرضى الهوان، ولا يخشى العواصف، مثلما قال فنسنت فان كوخ محرضاً: “يعرف الصيادون أن البحر عاتٍ، والعواصف شديدة، لكنهم يتحدّون المخاطر ولا يقتنعون بالبقاء على الشاطئ”.
خاتمة: كما رأينا، فإن الواقع مزرٍ في القرن الحادي والعشرين، قرن التقدم التقني الذي صار وبالاً على الناس، إذ جعلهم عبيداً له بدلاً من العكس، لغياب الأسس الإنسانية الناظمة، وسوء تطبيق القوانين، ولهذا على الإنسان في العالم عموماً، وفي العالم الثالث خصوصاً (إلا من رحم ربي، وعرف كيف يتخلص من شرور المادية) أن يعاني إلى ما لا نهاية، على أمل أن ينبثق فجر جديد ينقذ البشرية من الدرك الأسفل الذي تنزلق فيه.
وهنا لا بد في الختام أن نشير إلى القول الأثير للخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (لوالي مصر عمرو بن العاص)، وصار مثلاً: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!”.