هل هناك فعلاً مخطّط لتسريع إفلاس المصارف؟
كان يمكن هذا العنوان الذي تصدّر صحيفة “النهار” الرزينة في أحد أعدادها الأخيرة، أن يمرّ، كغيره من العناوين، من دون التوقّف عنده والاستشعار بخطر مضمونه، لو لم يكن موحى به من نائب رئيس المجلس النيابي ايلي الفرزلي، ردًّا على سؤال طرحته الصحيفة عليه بهذا الخصوص. ومن المعروف عن الفرزلي أنّه عضو في “تكتّل لبنان القويّ” الذي يرأسه النائب جبران باسيل، الرئيس الظلّ كما يصفه كثيرون، والذي لا يرضيه إطلاقًا أن يُروّج هذا النوع من الأخبار المضرّة بالعهد وسيده.
ولعلّ المستغرب أنّها “الخطيئة” الثالثة التي يرتكبها نائب رئيس المجلس. فالأولى حصلت في مطرانيّة الروم الارثوذكس يوم قاد حملة اسقاط قرار رئيس الحكومة حسان دياب بتعيين مستشارته للشؤون الصحيّة د. بترا خوري، خلافًا لإرادة مطران بيروت وتوابعها الياس عوده، وقد نجح، مع سواه من القيادات الارثوذكسيّة، في إفشال ما كان يعتزم به رئيس الحكومة، علمًا أنّ النائب باسيل كان من الداعمين لهذا التعيين لأنّ د. بترا خوري ليست بعيدة عن التيار العوني، وبذلك يحقّق أحد أهمّ أمنياته بوصول شخصيّة إلى مركز محافظة العاصمة تدين له بالولاء.
“الخطيئة” الثانية، وهي الأقسى، تمثّلت بما أورده في كتابه “أجمل التاريخ كان غدًا”. فقد أضاء على حادثة تضرّ كثيرًا بباسيل، سَرَدَها في الصّفحتَيْن 656 و657 من هذا الكتاب، وفيها تفاصيل عن مرحلة تشكيل الحكومة التي أعقبت انتخابات العام 2009، وكيف ساهم بحلّ عقدة توزير باسيل وتسليمه حقيبة الطاقة بعد الفيتو الذي وضعه سعد الحريري. يومها، قابل النائب ميشال عون هذا “الفيتو” بالاصرار على تسليم الوزارة لصهره، قبل أن يهدّد علنًا بمنع التشكيل “كرمى عيونه”، ما استدعى الفرزلي إلى الاتصال بالقيادة السورية وطلب المساعدة لحلّ هذه العقدة. يومها يقول نائب رئيس المجلس، اتّصل الرئيس السوري بشار الأسد بالعاهل السعودي عبدالله بن عبد العزيز وقال له بالحرف: “ليس لميشال عون ولد صبيّ. جبران باسيل، صهره، كإبنه، وهو يريده وزيرًا للطاقة والمياه”. وهكذا كان، ومع أنّ الفرزلي، وإزاء الضجّة التي أحدثتها هذه الفقرة من الكتاب، اضطرّ إلى القول أنّ ما حصل جاء بمبادرة شخصيّة منه، إلاّ أن مجرّد ذكره هذه الواقعة دَفَعَتْ الكثيرين إلى الاعتقاد أنّ تصويب كلامه بعد هذه الضجّة، جاء من باب رفع العتب، خصوصًا وان المنظّر السياسي كريم بقرادوني في كتابه “صدمة وصمود” روى الكثير عن علاقة الرئيس الحالي ميشال عون بالقيادة السوريّة، ما يؤكّد أن ايلي الفرزلي، بتصويبه، سعى إلى استيعاب الرئيس عون وبخاصة النائب باسيل الذي يتحرّك على كلّ الجبهات منذ فترة لخلافة عمّه في قصر بعبدا.
فماذا قال النائب ايلي الفرزلي لـ “النهار”؟
لقد طالب “بإسقاط نهج هذه الحكومة التي تريد إفلاس المصارف التي غَزَتْ المنطقة بنجاحاتها”، وربما تكون هذه “الخطيئة” الرابعة، أضاف: “نحن نعيش ليلة انترا جديدة في لبنان، وهذه مسؤولية المجلس النيابي أن “يفكّ رقبة” هذا المخطّط، وأن يُسقط هذا النهج، وسنسقطه، علمًا أنّ هناك حرصًا من لجنة المال والموازنة في مجلس النواب على توحيد الأرقام قبل التفاوض مع صندوق التقد، لأن هناك فرقًا كبيرًا بين أرقام المستشارين والأرقام الفعليّة”. هذه “الصرخة” التي تولاّها أحد أركان هذا العهد، (وبالمناسبة، صرّح في المدّة الأخيرة بما يفيد أنّ هناك مشاورات متواصلة لتشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري، وقد تكون هذه “الخطيئة” الخامسة)، لم تكن الصّرخة الوحيدة لإنقاذ القطاع المصرفي من براثن من يريد الانقضاض عليه، بل أنّ جمعية المصارف في لبنان رفعت الصوت مجدّدًا وأعلنت “حرصها الشديد على عدم المساس إطلاقًا بودائع الناس، مع المحافظة على مقوّمات الاستقرار المالي، واستنهاض الوضع الاقتصادي وتحفيز النمو وخَلْق فرص عمل للبنانيّين”، مستغربة إصرار الحكومة على “استبعاد القطاع المصرفي من محادثات مالية يُفترض أن تؤدي إلى قرارات ذات تَبِعات أكيدة وعميقة على مستقبل لبنان الاقتصادي، على رغم الدور الحيوي الذي تلعبه المصارف في رسم هذا المستقبل”. وبناء على ما تقدّم، ختمت ملاحظاتها بإبداء امتعاضها على الأرقام التي قدّمتها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي والتي لا تزال منذ أسابيع موضع نقاش وقولها “أنّها لا تشكّل قاعدة صالحة للانقاذ المالي”.
وإذا كان البعض قد وصف بيان جمعية المصارف بـ “حدّة مخفّفة” قياسًا ببيانات سابقة لها، إلاّ أنّ ما أغاظ هذه الجمعية ورَفَع من صرختها قولها أن لقاء بعبدا المالي أصدر “حكمًا” غير مبرّر بإعلان “إفلاس” لبنان على رغم خيارات إنقاذيّة لا تزال موجودة ويمكن اعتماد البعض منها. وربما بسبب هذا القرار خرج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من اجتماع بعبدا المالي الأخير قبل أن ينتهي هذا الاجتماع، وقد بدا مكفهرّ الوجه. لقد نبّه، قبل خروجه، من خطورة “تصفير” الديون المترتبة على الدولة للمصرف المركزي وللمصارف وتاليًا للمودعين، لأنّ خسائر لبنان الـ 80 ألف مليار ليرة قابلة للتغطية في المدى القريب. كما نبّه إلى خطورة شَطْب السندات السياديّة، لأنّ هذا التدبير سيصيب لبنان في الصميم ويُفقد ثقة الأسواق المالية الدوليّة به وإلى الأبد. ومن المعروف أنّ الحاكم، وفي حديث إلى مجلة Paris Match قبل أيّام، ردّ على مقال لرئيس الحكومة في “واشنطن بوست” في أيار الماضي حذّر فيه من خطر أزمة غذائيّة كبيرة في المدى القريب. رياض سلامة، وفي حديثه إلى هذه المجلة الفرنسية، أكّد أنّ لبنان غير مُفْلس وأنّ الحلّ يأتي من السلطة السياسيّة التي عليها تطبيق الاصلاحات الضروريّة التي طالب بها المجتمع الدولي منذ مؤتمر Cèdre ولم تنفّذ حتّى الآن. ومع الأسف، فالمشاركون في اجتماع بعبدا المالي، وبينهم مستشارون اختصاصيّون، لم يستمعوا إلى ما قاله حاكم مصرف لبنان ولا إلى تنبيهاته في ما خصّ تطبيق الاصلاحات السياسيّة التي بدونها، لن يحصل على قرض من صندوق النقد الدولي، وبالتالي من Cèdre الذي يشترط موافقة صندوق النقد الدولي على إقراض لبنان قبل أن يعاود البحث في تمويل المشاريع التي عُرضت في ذلك الاجتماع وطُوِيت صفحته، مع التذكير أنّ القرض الذي رصده هذا المؤتمر وصل إلى 11،8 مليار دولار، وتردّد مؤخّرًا أنّ المبلغ انخفض إلى 6 مليارات بسبب عدم جديّة الحكومة، هذا إذا تجدّد البحث في موضوع المساعدة.
وعدم رضى رياض سلامة على ما جرى في الاجتماع المالي، انسحب على “لجنة تقصّي الحقائق” التي لم تكن راضية، هي الأخرى، على نتائج لقاء بعبدا، وبهذا الصدد قال عضو اللجنة النائب نقولا نحاس أن مراجعة أرقام الخسائر أوصل إلى خفضها من 240 ألف مليار إلى 80 ألفًا وأنّ لبنان لا يزال يملك الوقت للمعالجة. وتردّد أنّ هذه اللجنة ستُصدر تقريرًا في القريب العاجل، وربما مع صدور هذا العدد، يتضمّن إشارة إلى الخيارات المُتاحة أمام إنقاذ لبنان. ومن المنتظر أن تعود المصارف إلى فتح الباب أمام حوار عميق حول الخطّة الحكوميّة التي تنطوي على اقتطاع عشوائي لمدّخرات الناس، وكذلك فرض ضرائب ورسوم لا يستطيع الاقتصاد اللبناني تحمّلها. في الإطار نفسه، اعتبر الخبير الاقتصادي والمصرفي نسيب غبريل أنّ “المقاربة التي تضمّنتها الخطة الحكومية في شقّها المصرفي لم تكن صحيحة لأنّها حمّلت المواطن كلفة المقاربات الخاطئة. فالخلل في الخطّة كان واضحًا من خلال محاولتها تحديد حجم القطاع المصرفي وعدد المصارف، بمعنى آخر وَضَع اليد على هذا القطاع، ممّا لا يعكس هوية لبنان الاقتصاديّة الحقيقيّة”، متوقّعًا تعديل هذه الخطّة والأخذ بعين الاعتبار ما أعلنته جمعية المصارف التي أُبقيتْ بعيدًا من المشاورات منذ قرّرت الحكومة عدم دفع سندات اليوروبوند، وأيضًا عندما وضعت خطّتها الأوليّة. إنّ التفاهم والتواصل هما الحلّ للنهوض في البلاد، والأهمّ من كلّ ذلك، هو إعادة تدوير العجلة الاقتصاديّة التي تقود حتمًا إلى النهوض بالاقتصاد، وتاليًا إلى الحفاظ على ودائع الناس”. وأيّد، أخيرًا، موقف رئيس جمعية المصارف د. سليم صفير الذي اعتبر فيه “أنّ يومًا بعد يوم تتبيّن الحاجة لأن تجلس الدولة مع كلّ من مصرف لبنان وجمعيّة المصارف لحلّ كلّ المشاكل العالقة من جهة، وللمساهمة في تعزيز مشهد التلاقي والتفاهم وتظهير صورة لبنان الموحّد أمام المجتمع الدوليّ”.
يأتي تسارع الحدث المالي والمصرفي في وقتٍ بدأ الخناق يشتدّ على سعر صرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار والذي وصل، في السوق السوداء، إلى رقم مرتفع جدًّا: ستة آلاف ليرة للدولار الواحد، وفي وقت أيضًا بدأ تطبيق قانون قيصر الذي قد يشدّد الخناق أكثر على عنق الاقتصاد وعلى المصارف تحديدًا، لوجود فروع لبعضها في سورية. وفي غمرة هذا الواقع المستجد والخطير، تصدّر الساحة المصرفيّة خبران: الأولى، أنّ عددًا من المصارف بدأ يُقفل فروعًا له، وأن ثمة من يردّد أن هناك عمليات تسريح لموظفي هذا القطاع بدأت وستفعّل، علمًا أن عدد العاملين في هذا القطاع يصل إلى 26 ألف موظّف. أمّا الخبر الثاني، فيتعلّق بالتعميم الذي صدر عن المصرف المركزي العراقي في نيسان 2019 والذي قد يؤدّي إلى مغادرة السوق العراقيّة ستّة مصارف لبنانيّة. هذا من دون أن نعرف ماذا سيحلّ بفروع المصارف اللبنانية في سورية مع البدء بتطبيق قانون “قيصر”.
إشارة أخيرة إلى أنّ الحلّ السياسي يبقى المنفذ الأساسي للخروج من هذه الأزمة التي تضاعفت منذ تشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب التي أُقفِلت بوجهها الأبواب الخليجيّة والغربيّة وأبقتها في عزلة مريرة. ومن هنا نفهم مطالبة نائب رئيس الحكومة ايلي الفرزلي بضرورة التغيير والاتيان بحكومة ثانية تنفتح على الشرق والغرب معًا، على رغم الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تطاول كلّ الدول وتجعلها تهتمّ فقط بأوضاعها الداخليّة!