القنصل كمال سيوفي
أجرت الحوار مادلين طوق
أنين القطاعات الاقتصاديّة يزداد يومًا بعد يوم وأسبوعًا بعد آخر بسبب الحالة العامّة التّي حوّلت لبنان إلى “بلدٍ ميؤوس منه”، كما يرى كثيرون. ولأنّ خروج هذه القطاعات من وضعها الرّاهن يحتاج إلى جهد كبير على مستوى الدولة والحكومة، فإنّ المرحلة الراهنة تُنبئ بأنّ الآفاق مقفلة أمام أيّ حلّ سياسي، وتاليًا أمام انفراج قد يسمح لهذه القطاعات أن تتنفّس بعد الخسائر الكبيرة والباهظة التي تكبّدتها. وبما أنّ قطاعَيْ الهندسة والأعمال التنفيذيّة، فضلاً عن الاستشارات والدراسات المرتبطة بهما، يشكّلان نموذجًا من نماذج هذا التراجع، فقد توجّهنا إلى أحد القيّمين على مكتب هندسي واستشاري هو القنصل المهندس كمال سيوفي الذي وضعنا في صورة ما تعانيه المكاتب الهندسيّة والاستشاريّة في لبنان، راسمًا صورة قاتمة عن العام الحالي بتأكيده أنّ الحلّ مُستبعد في ظلّ الارتباك الحاصل واستبعاد الحلول المُرتكزة على قواعد سليمة.
في ما يلي نصّ الحوار:
س: العام 2020 الذي لفظ أنفاسه منذ أيّام وقبله العام 2019، كانا وبالاً على اللبنانيّين أوّلاً، وعلى كافة القطاعات الانتاجيّة، ثانيًا. في ضوء تجربتك الشخصيّة، ومن موقع مهنتك كمهندس واستشاري، كيف مرّ عليك هذان العامان ولا سيّما الثاني منهما؟
ج: 2020 كان الأكثر تضرراً وتراجعاً من الناحية المهنية استنادًا إلى خبرتي في الحقل الهندسي التي ناهزت الأربعين عاماً. فالتراجع ليس في قلّة المشاريع التي كانت تُنفّذ، وإنّما في المستوى التقني الذي عرفناه في السنوات الماضية والمتمثّل بمهارة عالية على صعيد الدراسات الهندسية والأعمال التنفيذية. وتعود أسباب تراجع النوعيّة إلى:
١- قلّة المشاريع والمداخيل، وهذا ما يؤثر سلباً على الأداء المهني.
٢- وباء كورونا الذي شلّ العمل لاشهر، إن في المكاتب أو على صعيد الورش القليلة القائمة حالياً.
٣- طرق الدفع التي ترتكز أصلاً على الدولار الذي يمكن التصرّف به، وأصبحت الآن تتوزّع على ثلاث: دولار نقدي، وهو الأقلّ بين المدفوعات، دولار شيك يُحسب مبدئيًّا على ٣٩٠٠ ل.ل. وأخيرًا دفعة بالليرة على أساس السعر الرّسمي أي ١٥٠٠ ل.ل. أو ٣٩٠٠ في أحسن الأحوال، علماً أنّ المكاتب الهندسيّة كانت تتقاضى بدلاً للأتعاب بالدّولار بسعر 1500 ل.ل. ولكنّه تعدّل حاليًا، ما أدّى إلى خلل في التعامل بين أصحاب المكاتب والمهندسين العاملين فيها، ولهذا نشطت التسويات لعلّ وعسى. وانسحب هذا الواقع على صعيد التنفيذ، فالمشتريات بات سعرها بالدولار النقدي من المورّدين، وهذا غير متاح في أكثر الأوقات، ناهيك عن اليد العاملة: هل تُسدّد أجورهم على أساس ١٥٠٠ أو ٣٩٠٠؟ كلّ هذا أثّر في الإنتاجية.
٤- التعامل مع المصارف المهيمنة على مدخراتنا والتي تمنعنا من التصرف بها.
٥- إنفجار المرفأ في 4 آب المنصرم الذي هدّم وعطل مكاتب عديدة، ومنها مكتبنا في منطقة الجميزة، الأمر الذي اضطرنا إلى إنفاق مبالغ متاحة دفعها من المصارف لإصلاح وترميم ما هُدِّم بغية التمكّن من العمل داخل المكاتب، لأن التواصل عبر الإنترنت من المنازل غير مجدٍ في مهنتنا.
٦- عدم ثقة المكاتب العالمية التي نتعامل معها، بالوضعَيْن الأمني والإقتصادي في لبنان وخوفهم من أن لا تمّم دراسة المشاريع في الأوقات المطلوبة. فإذا قرّرت العمل معنا فقد تستخدم طرق التهويل لتعديل بدل أتعابنا وتخفيضها معتبرة أن الدفع بالعملة الأجنبية هو ميزة مالية لنا وأن مصاريفنا هي أقلّ بسبب تدني قيمة الليرة اللبنانية!
لذلك، تحمّلَتْ المكاتب والشركات الهندسية وشركات التعهّدات الكثير من المتاعب المالية واضطرت إلى صرف بعض موظفيها، فيما اقفل بعضها أبوابها بالكامل.
س: قطاع البناء والمقاولات الذي يشكّل الجزء الأهمّ من عملك، كان الأكثر تضرّرًا إذا ما قورن بقطاعات أخرى أصابها هي الأخر الضرر. ماذا عندك على هذا الصعيد من معلومات وأرقام؟
ج: من المؤكد أن مجال المقاولات والأعمال الهندسية قد تأثر، وهذا واضح إذا اطّلعنا على الاحصاءات الخاصة برخص البناء في نقابة المهندسين في بيروت.
إن أموال متعهدي المشاريع العامة المرتبطة بمالية الدولة بقيت عالقة ولا تزال، ولم يتمكن أصحاب الحقوق من تحصيلها، مع العلم أنّ الدفع هو بالليرة اللبنانية وعلى أساس سعر الصرف الرسمي، أي 1500 ل.ل. للدولار الواحد، فيما مواد البناء في غالبيّة الورش، مدفوعة بالدولار الأميركي، وهو ما يشكّل أكثر من ٦٠ بالمئة من قيمة العقد.
للأسف، فدمار فاجعة ٤ أب ساعد بعض متعهدي أعمال البناء بالإستحصال على عقود جديدة وبالعملة الأجنبية، إذ إن مصادر الدفع هي مؤسسات أجنبية ومحلية جديّة تحمّلت مسؤولية كاملة بمساعدة المتضررين من خلال التصليحات التي تجرى في منازلهم.
أما على صعيد العقارات، فقد نشطت حركة البيع بسبب تهريب الأموال من المصارف وايداعها في عقارات أو شقق بإعتبار أن هذا النوع من التمويل أجدى من بقاء المدخرات في المصارف، وهذا إن دلّ على شيء فعلى حال الضياع الكامل وقلة الثقة عند البعض بسبب الوضع المصرفي.
س: ثمة بشائر تلوح في الأفق في 2021 منها وصول لقاح جائحة كورونا إلى لبنان، مع أنّ النتائج التي أظهرتها عمليات التلقيح لا تبدو، حتّى الآن، مطمئنة أو باعثة على الأمل للخلاص من هذه الجائحة. لكنّ ثمة بشائر تلوح في الأفق اللبنانيّة منها إمكانيّة تشكيل حكومة جديدة على رغم الصعوبات التي تواجه عملية الاستيلاد، وهذا يعني أنّ عجلة الحركة الاقتصادية ستعود إلى الدوران من جديد. ما هو تعليقك على هذا الكلام، وهل ترى بصيص نور في العام الحالي أم ترى الأخير امتدادًا للعامَيْن 2019 و2020؟
ج: لا أجد أي أمل، مع الأسف، خلال السنة الحالية لجهة وضع لبنان الإقتصادي والمالي.
كلّ ما يجري مرتبط بشكل وثيق بالسياسة، كما أنّ الكلّ يعلم أن الطبقة السياسية الحالية غير قادرة على إيجاد الحلول بل ليست عازمة على ايجادها لأنها تبدأ، أولاً وأخيراً، بمحاسبة الفاسدين وتغيير الذهنية الإصطفافية، علاوة عن الإجراءات الإصلاحية التي لا يمكن اتخاذها إلّا عبر حُكْم، وليس حكومة فقط، بعيدًا كلّ البعد عن الأجواء السياسية الحالية، وهذا ما لا يمكن أن نصل إليه إلاّ بتدخّل خارجي جامع وقوي يفرض الحلّ بالقوّة، مثل ما جرى خلال عدّة حقبات من تاريخنا الحديث والقديم، فضلاً عن أنّ الوضع الصحّي الناتج عن تفشّي كورونا لا يبشّر بالخير، ناهيك عن عدم وجود ثقة لنا بالطريقة التي ستُعتمد بالتلقيح من الناحية الإدارية والتنظيمية والطبية،التي لها أصول وقواعد ومتابعة ومتطلبات، وكل هذا نفتقر إليه في ظلّ الفوضى المستحكمة بنا وعلى كافة الأصعدة. يضاف إلى ما تقدّم، المشاكل الأمنية التي تطفو على السطح بين فترة وأخرى، وقد تزداد أكثر فأكثر لأسباب سياسية وإقتصادية معيشية. فالقتل المستباح على مرأى من الجميع ودون ريبة ولا خوف، إضافة إلى السرقات وغيرها، هي خير دليل على ما أقول.
لا بدّ أن نتأمل، فكل الديانات السماويّة مبنيّة على الأمل والرجاء، يضاف إلى ذلك حبّنا وتمسكّنا بهذا الوطن الذي علينا تحمل مسؤولية بقائه وإستمراره رغم كل المشاكل.
لذلك، لا يمكننا إلا المثابرة على البقاء وعلى تحمّل هذه الحقبة الصعبة من حياتنا وحياة وطننا، علّه بأملنا ورجائنا ينتصر على الفساد والكذب والحزبيّة الرخيصة ويبقى متميّزًا في فرض القانون والعدالة على الجميع، وفي إحترام الإنسان، وفي الحوكمة الصحيحة المبنية على أسس علمية.