لا معنى لتناول الطعام
باسكال هبر
من أعراض الكورونا الأساسية فَقْد المصاب حاستَيْ الشّم والتذوّق، إلى جانب ضيق في التنفس والحرارة المرتفعة ووجع الرأس وآلام العظام والأرق والسعال الناشف وغير ذلك. وإذا كان لمعظم هذه الأعراض أدوية علاجية، فإن حاستَيْ الشّم والتذوّق تبقى بلا علاج بإنتظار إشارة من الجسم نفسه الذي يتولى إعادة “تشغيل” الحاستَيْن ، وقد تطول هذه الإشارة أو تقصر وهذا عائد إلى مناعة الجسم. وثمة من أصيب بهذا العارض منذ أكثر من ثلاثة أشهر ولم تستقم أموره بعد على رغم ما تسبّب هذه الحالة من إزعاج لا يحتمل. وما يُعزّي هؤلاء أن الأطباء يهدّئون روعة المصابين بهذا العارض، بطمئنتهم أن الحاستَيْن عائدتان لا محالة ولو طال الإنتظار.
ولكن ماذا عن هاتين الحاستَيْن ومتى يفقدها الإنسان بغض النظر عن الإصابة بــ Covid-19؟ في ما يلي تحقيق يشرح هذه الحالة طبياً وعلمياً، بدءاً من هذه القصة الواقعية.
كانت مدبرة البيت الشابة منهمكة ذات يوم في إعداد فطيرة حلوة لأمها، فاكتشفت فجأة، وللمرة الأولى في حياتها، أنها قد فَقَدَتْ حاسة تذوّقها بحيث لم تعد تدرك طعماً للحلاوة، بل صار طعمها في فمها كطعم الطين لا مذاق له. وخُيِّل إليها أن “إدعاء” الناس من حولها أنهم كانوا يتلذذون بِقِطَع الفطيرة، خيّل إليها أنهم كانوا يجاملونها، وأن الفطيرة كانت تالفة.
ولكن خلال الأيام القليلة التي تلت ذلك، تبيّن لتلك السيدة أن ذلك الطعم المِسْخ، كان يتردّد مع كلّ طعام تضعه في فمها، فلا تحسّ بأيّ شكل من أشكال الطعام بمذاق يميِّزه عن سواه، بل كان لها جميعا رائحة كرائحة الصابون الكريه. وقد أدّى فقدانها حاسة التذوُّق إلى امتناعها عن الطعام فنقُص وزنها جراء ذلك نقصاً كبيراً خلال بضعة أشهر. عرضت نفسها على عدد من الأطباء فلم يستطع أيّ منهم أن يعيد إليها إحساسها السابق بطعم الأغذية.
إن آلاف الأشخاص ذكوراً ونساءً مصابون بشكل من أشكال فقدان أو ضعف حاستَيْ الشّم والتذوّق. ولا علاقة في ذلك بالإضطراب الخفيف العابر الذي يصيب الناس جميعاً بسبب الزكام أو الإنسداد الأنفي البسيط، وإنما الكلام مقتصر على فقدان الإنسان لهاتَيْن الحاستَيْن في حياته الطبيعية فلا يعود يعرف أثراً لرائحة أو طعم. إن حوالي 60% من الأشخاص الذين يمرّون في حياتهم بمثل هذه التجربة، يصبح لديهم فقدان الشّم والتذوّق شيئاً دائماً ، عليهم أن يتعايشوا معه.
إن فقدان الشّم هو أكثر ما يصيب أولئك الأشخاص التعساء. ولكن غالباً ما يُدرك ذلك على أنه فقدان للتذوق. ذلك أن هاتَيْن الحاستَيْن مرتبطتان الواحدة بالأخرى إرتباطاً وثيقاً. فَطَعْمُ القهوة، مثلاً، يأتي من شذاها بحيث أنّ حليمات التذوق بالفم لا تدرك إلا الحلاوة أو المرارة أو الملوحة أو الحموضة في الأطعمة أو الأشربة التي نتناولها.
وفقدان حاسة الشّم ليست بالشيء اليسير الذي يصح الإغضاء عنه، بل ينبغي أن ينظر إليه نظرة جدية، نظراً إلى أن إنعدام الشّم قد يجرّ إلى أوخم العواقب وأفتك الكوارث. فإذا لم تستطع ربة المنزل أن تشمّ رائحة الغاز إذا تسرب من الموقد، فإن ذلك أمر محفوف بالخطر كما هو واضح. كذلك إذا لم تتمكن من شمّ الأطعمة فإنها لا تستطيع أن تدرك أن التلف قد لحق بها، وبذلك تعرض نفسها وأفراد أسرتها لخطر التسمم الغذائي.
إن أشيع سبَبَيْن جسديَيْن لإضطراب حاستَيْ الشّم والتذوّق هما إما إصابة فيروسية أو ضربة على الرأس. فكلا الإصابتَيْن تُحدثان أذية دائمة للأعصاب التي تحمل “رسائل” الشّم والتذوّق إلى الدماغ من الأعصاب المستقبلة في الأنف واللسان. والإنسداد الأنفي بسبب أخماج بكتيرية في الجيوب أو بسبب الحساسية أو السلائل والناميات الأنفية، هو شائع أيضاً، غير أن هذه المشكلة أكثر قابلية للحل بالعلاج، كذلك فإن التدخين المباشر أو السلبي (بالوكالة)، يضعف حاسة الشّم.
ويمكن أن يكون فقدان الشّم أيضاً عرضاً مبكراً من أعراض داء ألزهايمر أو الشلل الرعاشي (باركنسون). إذ أن هنالك نظرية تقول أن المواد المحتمل تسببها في هذين المرضين تدخل إلى الجملة العصبية المركزية عبر عصب الشّم فتتلفه بدخولها.
وقد تنشأ الروائح الكريهة أو الروائح “الخيالية”، وهذه تشكّل جزءاً يسيراً من أجزاء جملة الإضطرابات التي تصيب حاستَيْ الشم والتذوّق ، قد تنشأ بسبب علّة أخرى كامنة كحدوث إضطراب إستقلابي لا يعود الجسم معه قادراً على تمثُّل بعض المواد الكيميائية في أطعمة معينة. فإذا إستبعدت هذه الأطعمة من أغذية المصاب، أصبح بالإمكان السيطرة على المشكلة.
كذلك فإن إنتشار المواد السامة في البيئة قد تكون أيضاً من أسباب فقدان أو إنحراف حاستَيْ الشم والتذوق. إن معظم الحالات من هذا النوع يتأتّى عن التعرّض إلى الحالات العارضة التي يشتد فيها هذا الإنتشار. ولكن الخبراء لا يعرفون مدى تأثير المستويات الدنيا من هذه المواد السامة، على هاتين الحاستَيْن، مثل التعرض للملوثات البيئية للهواء في الحياة اليومية. كما أن فقدان حاستَيْ الشّم والتذوّق يمكن أن يصيب الأشخاص الذين يتعاملون مع مواد معدنية كالرصاص والزرنيخ والزئبق والكادميوم- إما عن طريق الجلد بالملامسة أو عن طريق الأنف من ذرات الغبار، أو بإستنشاق الأبخرة من المذيبات الصناعية. وهنالك مشتغلون بأحواض السباحة فقدوا حاستَيْ الشّم والتذوّق بعد تعرّضهم الطارىء لمادة الكلورين. كما أن الروائح المنبعثة من بعض المبيدات الحشرية، عظيمة السُّمية للخلايا الحسية التي تبطن الأنف.
يقول أحد أطبّاء مستشفى هوبكينز الأميركيّة، إن من الضروري تشخيص هذا الإضطراب تشخيصاً صحيحاً. يوضح ذلك بقوله: إن سلائل الأنف مثلاً سهلة المعالجة، ولكن كثيراً من الأطباء قد يخطئونها بسبب إرتفاعها في الأنف، لذلك لا بدّ من إجراء الإختبارات التشخيصية على يد أطباء إختصاصيين، علمًا أنّ بعض المصابين الذين يشكون من شمّ رائحة كريهة قد يساعدهم على إجراء جراحة تجريبية لإزالة النسج الحسية الشاذة في الأنف.
والذين لا تفيدهم هذه الجراحة، فغالباً ما تفيدهم تجربة بعض الأدوية على أساس التجربة والخطأ، لأن ذلك غالباً ما يكون الخيار الوحيد أمامهم. والعقاقير المضادة للتشنج والإكتئاب والمضادة للشلل الرعاشي قد تساعد العصب الشمي على أن يطلق إشاراته بشكل صحيح، مما يؤدي أحياناً إلى إستعادة الحاسة. أما الأشخاص الذين تتراوح لديهم حاسة الشم بين مجيء وذهاب والذين يعدّون أوفر المصابين حظاً من النجاح، فأولئك غالباً ما أفادهم اللجوء إلى عقاقير السيترويد القشري (corticosteroids).