يمحي الذاكرة
بقلم د. غالب خلايلي
مضى وقتٌ كافٍ للحكماء كي يرسموا صورةً شبه واضحةٍ للداء التاجي التاسع عشر، هذا الذي تبين أنه، مع الأسف، موسوعةُ أمراض (لتنوّع أعراضه، واختلافِها بين مريض وآخر)، وأن بعض الناجين من حالاته الشديدة يعانون أشدّ المعاناة.
أحدهم قال في برنامج متلفزٍ عرضته محطة “روسيا اليوم” مساء 8 شباط 2021: “الحياة بعد النجاة من المرض الشديد هي الشقّ الأصعب، فالمعاناة تصبح عشرةَ أضعافها”، ولهذا أطلق على المصابين بأعراض ما بعد كوفيد Post Covid اسم )الكوفيديون طويلو المدى Covid Long Haulers)، حيث يمكن أن يؤثر المرض على القلب والدماغ (سكتة قلبية أودماغية)، والبصر (ضعف البصر أو فقدانه إلى وقت غير معلوم)، والشعر (تساقط كامل الشعر)، والرئة (تليّف الرئتين وقصور وظائف التنفس)، كما تتأخر وظائف الشم والتذوّق وربما السمع بالعودة إلى طبيعتها أشهراً.. وفي هذا المجال يقول المرضى: “العلماء لا يعرفون حتى الآن تبعات كورونا”، ويصفون معاناتهم مع الأطباء بالقول: “عادة ما تنتهي مقابلة الطبيب بقوله: أنت بخير، أنتَ قلِق فقط. ومع الأسف إذا كان المرء لا يتمتع بتأمين صحي، فإنه لا يستطيع إجراء كل الفحوص التي تكشف مدى تضرّره”.
وتقول مريضة أميركية اسمها آمندا: “أُعلن عن أول حالة كوفيد في ووهان الصينية يوم 17 نوفمبر 2019، ولكني كنت أعاني قبل ذلك، فقد بيّنت صورة شعاعية للصدر لي منظر بياض يسمى الزجاج المحجّر (إصابة رئوية تتناول القصيبات الناعمة والأسناخ، وتؤدي إلى حسّ الاختناق)، كان ذلك يوم 14 نوفمبر 2019 أي أنني كنت مصابة. فقدان الذاكرة وتغيّمها طبع حياتي الجديدة، ولذا أنا الآن أكتب كل شيء كيلا أنسى، وقد ملأت الثلاجة ملصقات تذكّرني بما يجب فعله لأولادي”.
وتبيّن مريضة أخرى نجت من الموت، وأسّست جماعة المرضى طويلي المدى على الفيس بوك: “كنت أظن أنني وحيدة، ولكن هناك عشرة آلاف في مجموعتي أتبادل وإياهم المشورة بشأن ما نكابده. أتناول سبعة عشر صنفا من الأدوية كي أبقى حيوية، منها الكورتيزون ومضادات الحموضة، والزنك ومضادات الكآبة. يقول الأطباء: إن كورونا يقصّر الأعمار بنحو 10% من العمر المقدّر، والنساء أكثر تأثراً من الرجال. طقطقة المفاصل وقلة التركيز وضعف الذاكرة أمور تقلقنا. يمرّ المرضى أحياناً بنُوَب ذعر جنونية Panic Attacks”.
ويقول جراح أوعية متوسط العمر نجا من الموت واسمه مايكل: “أشعر بالتعب الشديد، وبضبابية الشعور. كثيراً ما أضيع عن البيت إذا خرجتُ، لذا فإن أول واجب لي قبل الخروج، هو كتابة عنواني. أشعر كأنني أستبطنُ جسدَ عجوزٍ ثمانيني، وأنظر إلى آلة الفيولا التي كنت أعزف عليها بحزن، لأن أصابعي لا تطاوعني الآن في إمساكها والعزف عليها. أقاوم كي أعود طبيعياً”.
وهكذا يخلص معظم الناجين إلى القول: “لم نكن نعرف قيمة ما كنا به من نعيم قبل مرضنا. الآن عرفنا”.
ووفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Lancet على الشبكة في 8 يناير 2021، فقد أجرى أطباء صينيون في مستشفى Jin Yin-tan في ووهان دراسة على 1733 مريضًا بكوفيد تمّ تخريجهم بين 7 يناير 2020 و29 مايو 2020، بمتوسط عمر 57 عاماً، وكان متوسط وقت المتابعة بعد ظهور الأعراض 186 يومًا. وجد الباحثون أن الأعراض الأكثر شيوعًا عند المتابعة هي: التعب أو ضعف العضلات (63 %)، وصعوبة النوم (26 %)، والقلق أو الاكتئاب (23%). وعلى هذا استنتج الباحثون “أن الناجين من المرض الشديد يحتاجون إلى المتابعة الحكيمة بعد التخرّج من المستشفى”، فهناك من نجا من المرحلة الحادة للمرض، لكنه لم ينجُ من العقابيل.
(نوضّح هنا أن الحالات الشديدة هي نحو 5% من الحالات، وينجو منها نحو نصفها أي 2-3% من كل الحالات المصابة، ومن هؤلاء يأتي الكوفيديون المزمنون، كما نوضّح أن أي إنسان قد يصاب أكثر من مرة بنمط مختلف من الداء، وقد تكون المرة التالية أشد من الأولى. هذا ويلعب التطعيم ضد كوفيد دوراً كبيراً في زيادة المناعة (من 60-90%)، وفي تقليلٍ مهم لعدد الحالات الشديدة).
إلى ذلك، قام كوفيد بنقلة رقمية هائلة ، لم تخطر على بال أكثر المتحمّسين للعالم الرقمي. والشيء بالشيء يذكر، نقل كوفيد أرقاماً كبيرة وصغيرة من جيوب إلى جيوب، فأفلس البسطاء، وأتخم الأغنياء في غمضة عين.
وما حدث ببساطة مؤلمة: كوفيد بَعَّدَ كل ما كان مألوفاً في حياتنا، وقرّب كلّ ما كان قليل الألفة أو غير مألوف. فجأة تقطعت سبل الحياة وشرايين العالم، إذ توقفت الحركة بأشكالها، وحتى الطائرات ما عادت تطير، إلا لنقل المؤن والعتاد الطبي (والحربي مع الأسف).
هنا برز ما يسمى العمل عن بعد بأشكاله: التعليم عن بعد، العمل المكتبي عن بعد، والتسوق عن بعد، وحتى التطبيب عن بعد.
والعمل عن بعد، أياً يكن شكله، كان موجوداً من قبل، لكنه غدا فجأة ضرورة من أجل إيقاف انتشار المرض، الذي ينتقل بالهواء بأسهل مما يتخيل المرء. كان لهذا السلوك من يشجّعه لما فيه من مكاسب، إذ يوفر ميزانياتٍ تُصْرَف على الجوانب التي يحتاجها الموظف عند حضوره إلى مقرّ العمل: وسائل النقل، الطرق المجهزة، محطات البترول، المكاتب المؤثثة، شبكة الإنترنت القوية، وسائل السلامة والطوارئ، عمّال النظافة، السكرتاريا، الأجهزة المكتبية والحواسب والأوراق والطابعات، وغيرها الكثير من المستلزمات التي ترصد لها ميزانيات سنوية. والجميل أن العمل عن بُعد يُظهر لنا موظفين منتجين يؤدون عملهم بحيوية ونشاط وهم مسترخون (ربما ببيجاماتهم) في منازلهم، أو وهم يشربون الشاي في حديقة ما، أو في مكتبة قريبة أو في أي موقع يريدونه، وهذا يعني إنتاجيةً أفضل للموظف الذي لا حاجة لقدومه، فعند الحاجة تُرسِل إليه جهة العمل طلب اجتماع في ساعة محددة.
كل هذا سوف يوفّر بالتأكيد المال لأرباب العمل وأصحاب المدارس والجامعات وغيرهم، وإن كان على حساب آخرين دُمِّرت أعمالُهم، وتدهورت معيشتهم. فما الذي يتضح إذاً؟
الواضح أنه لا شيء في الكون يفرض التحوّل الرقمي بهذه السرعة مثل «جائحة عالمية» كالتي تمرّ بنا اليوم. ولا بد أن يتساءل بعضهم: هل الأمر مدروس؟ فيما يؤكد عمالقة التقنية أن المستقبل الرقمي اندفع فجأة للأمام، الأمر الذي لخّصه الرئيس التنفيذي لمايكروسوفت بقوله: “إن قواعد التباعد الاجتماعي قرّبت كلّ بعيد، فحدثت بين عشية وضحاها تغيّرات في سلوك المستهلكين كانت ستستغرق سنوات”، ومن هنا بدأنا نسمع أن عمالقة المال الجدد (أمازون وغيرها) صاروا أغنى من الدول.
صار واضحاً أن التطعيم المبكّر مفيد، على الرغم من التشويش المتعمّد على اللقاحات، كلها (لأسباب خرافية: نظرية المؤامرة) أو بعضها (لأسباب سياسية ما بين شرقية أو غربية، أو علمية)، وإن بينت الدراسات أن لبعضها آثاراً جانبيةً نادرةً، بعضها خطير، يُكشف عنها كل يوم، وأكثرها ما يحكى عن لقاح أسترا زينيكا وما قد يسببه من خُثار (جلطات). لقد استطاعت دول قليلة غنية في العالم أن تطبق التطعيم ضد كوفيد بنسب عالية، لكن المؤسف هو أن دولاً كثيرة لم يصلْها اللقاح حتى اليوم، بدليل أن منظمة الصحة العالمية تأمل أن تصل نسبة التطعيم العالمية إلى 10% مع حلول أيلول المقبل، وإلى 30% مع نهاية العام 2021. وهذا يعني أننا سنشهدُ تحوّراتٍ متعدّدةً للحُمَة التاجية، وأن المشهدَ الطبي الاقتصادي الساخنَ سوف يستمر في دول كثيرة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية عام 2022، حاصداً في طريقه (ولعلّه المطلوب دون أن أجزم) خبراتٍ وخيراتٍ عزيزة كان يمكن أن يستفادَ منها لو أن الإنسانية بخير!