صاحب الكفّ النظيف، الآدمي د. نايف معلوف غادرنا بعدما أيقن أن الإصلاح والداعين اليه، لن تقوم له و لا لهم، قائمة. لقد انتظر هذا النزيه، سنوات و سنوات، لعلّ ضمائر المسؤولين في الدولة تصحو ومع صحوتها تستقيم الأوضاع، ولكن كيف لهذه الضمائر أن تعود الى رشدها ونقاوتها وقد انغمست في الفساد وباتت جزءاً من هذا الكلّ؟
لقد كان د. نايف في المراكز التي تولّاها، يُغرّد دائماً خارج سرب الفساد والمفسدين، ولهذا حورب، اُبعد عن القرار في المراكز التي تولّاها، ووُضع “على الرفّ” كما هو التعبير الشائع. كان الجميع يعلم أنه ظُلم وأن مثله لا يوضع الاّ في صدارة اللائحة الاصلاحية ولكن على مَن تقرأ مزاميرك يا داوود؟ لا أحد أحبّ أن يسمع . أن يرى. أن يتجرّأ و يقول الحقيقة. كأن الكلّ تآمر عليه، ما حمل المتربصّين بالإصلاح والنزاهة الى رفع الصوت وكلّ الأسلحة ودفعة واحدة في وجهه، كأنه نحر الجمهورية اللبنانية ورماها على قارعة الطريق إرباً إرباً…
لقد رافق الظلم الدكتور نايف معلوف في مسيرته المهنية منذ تولّى مهماته في وزارة التربية مديرا عاماً للتعليم الإبتدائي، كما رافقه يوم عُيّن محافظاً لمدينة بيروت، فمديراً عاماً لرئاسة الجمهورية أيام الرئيس الأسبق الياس الهراوي، ابن مدينته زحلة والجوار. وكان في هذه المناصب الثلاثة وتحت الإكراه: مكبّل اليدَيْن، مُقفل الفم، منزوع الصلاحيات. “لقد كبّلوه ورموه في اليمّ وقالوا له عُمّ”، كما قال الكاتب والشاعر المتمرّد ولي الدين يكن، وكأنه نظم له هذا البيت الشعري قبل قرنَيْن.
نايف معلوف الذي تولّى إدارة مدرسة البشارة الأرثوذكسية و الذي كان عضواً في مجلس أمناء جامعة البلمند التي ساهم في تأسيسها،خرّج أجيالاً و وضع غير مؤلّف في التربية والفلسفة وعلم الإدارة، والبعض منها لا يزال مخطوطات، غادرنا والإصلاح لا يزال أنشودة تُردّد ببغاوياً ، كما يردّد النشيد الوطني، ولم يتجسّد هذا الاصلاح واقعاً، وقد لا يتجسّد. لقد كان يعرف هذا المصير لهذه الأنشودة، ولهذا بدا حُزنَه مضاعفاً حُزْنَ من سار على خطاه ولا يزال، رغم شعورهم بالإعياء والتعب، تماماً كما كان شعور هذا الآدمي في العقد الأخير من عمره.
من مآثر ونُبل هذا الراحل الكبير انه أوصى بأن يقتصر الحضور على عائلته خلال الإحتفال بالقداس الإلهي قبل أن يوارى في الثرى. لم يشأ أن يُحمّل أصدقاءه ومعارفه ومحبّيه مشقّة الإنتقال الى باحة الكنيسة لمرافقته وهو يودّع الحياة وينتقل الى مملكته الناصعة البياض حيث له فيها الكلمة الفصل والقرار النافذ والحكمة التي لا تعلو عليها حكمة.
فهنيئاً لك الى جوار الأبرار والقديسين، ووداعاً ايها المحبّ الذي كان نسيج وحده.لقد فارق الحياة بهدوء ورحابة صدر بعيداً من كل مباهج الحياة و صخبها وضوضائها.
آخر ورقة من مخطوطات له لم تسلك طريقها الى الطباعة، ترك صفحة بيضاء ذيّلها بتوقيعه.هكذا كان نايف معلوف: صفحة بيضاء لم تُلوّث بنقطة سوداء واحدة.

كان بودّ محافظ بيروت الحالي القاضي مروان عبود أن يزور قبل أيام الدكتور نايف معلوف للإطمئنان الى صحته وطلب من صديق مشترك أن يتصّل به ويُحدّد موعداً للقائه. لكنّ ظروفاً عدّة حالت دون هذا اللقاء، فعاود المحافظ الكرّة مرة ثانية وثالثة ولكن دون جدوى،ما أبقى حزنا بليغا في نفسه،رغم انه كان سباقا في اللياقة و الاحترام عندما زاره قبل سنوات في سابقة لم تحصل للتعرّف اليه بعدما سمع عنه الكثير: عن نُبله، عن نظافة كفّه، عن استقامته وعدله ومحبّته وكلّ الصفات الحميدة التي كان يمتلكها.
في تلك الزيارة، واكبته “تأمين ومصارف” والتقطت صورة جمعتهما ونشرت آنذاك مقالاً دوّنا فيه ما جرى بينهما. وبهذه المناسبة الحزينة، وتكريماً لهذا الراحل الكبير، نُعيد نشر المقال كما ورد لعلّ من لم يعرف نايف معلوف، يتعرّف اليه ويتوقف عند مسيرته الإدارية التي تكاد تكون نادرة.
خطوة غير مسبوقة قام بها محافظ بيروت الحالي القاضي مروان عبود، عصر هذا اليوم الخميس (11/11/2021)، بانتقاله من مكتبه في الوسط التجاري إلى الأشرفية، لزيارة المحافظ الأسبق د. نايف معلوف الذي كان مثال الإداري من حيث نظافة الكفّ والشفافية والتهذيب والأخلاق والتشدّد في اعتماد النصوص القانونيّة في إنجاز معاملات المواطنين. وبسبب هذا الأداء المتميّز، حورِبَ كثيرًا، إلى أن قدّم استقالته وانتقل في عهد الرئيس الياس الهراوي إلى القصر الجمهوري ليتولّى مهمّات إداريّة قبل أن يُحال إلى التقاعد. ولهذا الانتقال قصّة ستدخل حتمًا في كتاب عن ذكريات المرحلة الماضية، قد يصدره الدكتور معلوف إذا سمحت له الظروف الصحيّة. ومن المعروف عن المحافظ الأسبق أنّه أحد، بل أبرز مؤسّسي جامعة البلمند وكان عضوًا في أوّل مجلس أمناء لها. وهو في منزله يحتفظ بملفٍّ جامعٍ عن تأسيس هذه الجامعة وما هي العقبات التي كادت تمنع قيامها لولا تدخّله شخصيًا مع وزارة التربية التي كان أحد أركانها، وهذا فصلٌ آخر من فصول الإنجازات التي حقّقها خلال العقود الخمسة الماضية، منذ أن شغِل منصب مدير التعليم الابتدائي في وزارة التربية بعد تولّيه إدارة مدرسة البشارة الارثوذكسيّة.
اللافت هنا أن المحافظ مروان عبود لم يلتقِ يومًا بالدكتور نايف معلوف ولا الأخير التقى به. لكن في الزيارة التي حصلت اليوم، أبلغه القاضي عبود أنّ اسمه استوقفه عندما كان قاضيًا في ديوان المحاسبة وذلك في حدود العام 1994، يومها اطّلع في أثناء مراجعته أحد الملفّات على اعتراضٍ متعلّق بالمحافظة قدّمه معلوف بشأن قرارٍ وزاري مخالف للقانون وأبى أن يوقّع عليه. ومن يومها حَفِظَ مروان عبود اسم الدكتور معلوف، متمنّيًا أن يلتقيه يومًا، فدارت الأيّام ومرّت السنون وشاء القدر أن يجمعهما في هذا اللقاء. وعندما جرى اتّصال قبل أسبوعَيْن بين الرجلَيْن بمسعًى من أحد الوسطاء وتقرّر خلاله أن يلتقيا للتعارف عن قرب، كانت رغبة الدكتور نايف أن يبادر إلى زيارة المحافظ عبود لتهنئته بالمنصب الجديد ولو متأخرًّا، لكنّه اعتذر لأسبابٍ خاصّة جدًّا تحول دون الانتقال من منزله، فسارع القاضي عبّود إلى تلقّف المبادرة وإعلامه بزيارة له في غضون ايّام.
دام اللقاء ساعة ونصف الساعة تناول خلاله الطرفان أحاديث شتّى العقبات الكثيرة التي يعانيها المحافظ عبود جرّاء الأوضاع السائدة في العاصمة بيروت، وما أكثرُها. كما كان هذا اللقاء مناسبة قدّم خلالها الدكتور معلوف كتابَيْن لضيفه الكريم، الأوّل باللغة العربيّة وعنوانه “خوابي العمر” والثاني بالفرنسية واسمه Je me souviens.
الانطباع الذي خرج به المحافظ الأسبق من لقائه مع المحافظ الحالي هو أنّ هذا القاضي عبود عفوي وصادق وصريح ومترفّع ومتواضع وطامح إلى تحقيق الكثير من الإنجازات. إنّ وجوده في هذا المنصب يرفع من قيمة الكرسي التي يجلس عليها لا العكس.
س: وهل ستردّ له الزيارة قريبًا؟
ج: آمل، إذا سمحت الظروف، فالخطوة التي قام بها تجاهي أسَرَتني كثيرًا، وكلمات الشكر لا تكفي وحدها!