مودعون يتظاهرون للإفراج عن أموالهم المحتجزة
د. الياس ميشال الشويري
في السنوات الأخيرة الماضية، واجهت دول عدة تحديات مالية واقتصادية حادة هدّدت استقرارها المالي وأثرّت بشكل كبير في مواطنيها، وبخاصة في المودعين في المصارف، كان من بينها: قبرص واليونان كمثلَيْن على كيفية إدارة الأزمات المالية الكبرى من خلال تدخلات دولية، إصلاحات هيكلية وإجراءات تقشفية.
وغنيٌ عن القول أن لبنان يجد نفسه، اليوم، في وضع مشابه، اذ يعاني أزمة مالية خانقة أثّرت في قيمة العملة الوطنية وأدت إلى تقييد حركة رؤوس الأموال. ولفهم التحديات التي يواجهها لبنان وكيفية تحسين الوضع المالي، لا سيما في ما يتعلق بحماية حقوق المودعين واستعادة الثقة في النظام المالي، لا بدّ من دراسة التجارب السابقة لهذه الدول.
ان الأزمات المالية التي تواجهها الدول لا تقتصر على تأثيراتها الاقتصادية فحسب، بل تمتد لتشمل الجوانب الاجتماعية والسياسية، ما يجعل من الضروري فهم أبعادها وكيفية التعامل معها. من هنا، فإن دراسة الأزمات المالية التي شهدتها دول مثل قبرص واليونان، تكتسب أهمية خاصة، لأنها تقدّم دروسًا قيمة يمكن أن تساعد دولًا أخرى، مثل لبنان، في إدارة أزماتها المالية الحالية والمستقبلية.
بالنسبة للبنان، فإن فهم وتحليل تجارب الدول الأخرى، لاسيما اليونان وقبرص، يُمثّل أداة حيوية لتجنّب الأخطاء نفسها والتعلّم من نجاحاتها. وتتجلّى أهمية هذا الموضوع في أنه يسلّط الضوء على الطرق التي يمكن من خلالها تحسين الوضع المالي وحماية حقوق المودعين، الذين هم في صميم أي نظام مالي. كما يساعد الموضوع في تحديد الإجراءات الضرورية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي واستعادة الثقة في النظام المصرفي، ما قد يُسهم في إعادة بناء الاقتصاد اللبناني على أسس أقوى وأكثر استدامة، وبالتالي يحمي حقوق المودعين ويعيد الثقة إلى النظام المالي والاقتصادي.

1-طبيعة الأزمات المالية في كلّ من لبنان، قبرص، واليونان.
بالنسبة للبنان، أولاً، فإن أزمته المالية تتميّز بأنها أزمة مركبة ومتعددة الأبعاد، تجمع بين ثلاثة أمور: الانهيار النقدي، الأزمة المصرفية، وأزمة الديون السيادية، وهي ليست وليدة الساعة بل بدأت تتشكّل على مدى عقود بسبب سوء الإدارة الاقتصادية وتراكم الديون العامة، اضافة الى تراجع احتياطيات النقد الأجنبي وانعدام الثقة في الحكومة… كل هذا أدى الى فقدان العملة اللبنانية قيمتها بسرعة كبيرة مقابل الدولار، ما أدى إلى تضخّم مفرط وتآكل القوة الشرائية للمواطنين، ما دفع المصارف اللبنانية الى فرض قيود غير رسمية على سحب الأموال وتحويلها إلى الخارج، فحالت هذه الخطوة دون تصرّف المودع بودائعه، وبالتالي تجميد فعلي لهذه الودائع. ان هذه الأزمة تُعتبر نتيجة تراكمية لضعف الحوكمة، الفساد المستشري، والاعتماد الكبير على تدفقات رؤوس الأموال من الخارج، خاصة التحويلات من المغتربين.
ثانياً، بالنسبة للأزمة المالية في قبرص، والتي أضيء عليها في العام 2013، فقد كانت أزمة مصرفية في المقام الأول، ولكنها مرتبطة بشكل وثيق بالأزمة اليونانية، ولهذا تعرّضت مصارفها، التي كانت تمتلك أصولًا تفوق بكثير حجم الاقتصاد القبرصي، لخسائر هائلة نتيجة إعادة هيكلة الديون اليونانية. هذا الانكشاف الكبير على الديون السيادية اليونانية أدى إلى أزمة سيولة كبيرة في النظام المصرفي القبرصي، حيث لم تعد المصارف قادرة على تلبية التزاماتها تجاه المودعين. ولمواجهة هذه الأزمة، لجأت قبرص إلى طلب حزمة إنقاذ مالي من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ولكن هذه الحزمة كانت مشروطة بخصم جزء من ودائع المودعين الكبار في المصارف المتعثرة وفرض قيود صارمة على حركة رؤوس الأموال.
ثالثاً، في ما خصّ الأزمة المالية اليونانية التي بدأت أزمة ديون سيادية نتيجة لعجز الحكومة عن تسديد الديون المتراكمة بسبب العجز المزمن في الميزانية وسوء الإدارة المالية، فقد اكتشفت الأسواق المالية أن الحكومة اليونانية قدمت بيانات غير دقيقة عن وضعها المالي الحقيقي، ما أدى إلى فقدان الثقة بشكل سريع وزيادة هائلة في تكلفة الاقتراض. وعندما أصبحت اليونان غير قادرة على خدمة ديونها، اضطرت إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. ان هذه الأزمة كانت مصحوبة بفرض إجراءات تقشفية صارمة كشرط الحصول على حزم الإنقاذ المالي، ما أدى إلى انكماش اقتصادي كبير، والى زيادة في معدلات البطالة، والى اضطرابات اجتماعية واسعة. في العام 2012، ولكن سرعان ما تمّ تنفيذ أكبر عملية إعادة هيكلة للديون السيادية في التاريخ الحديث، اذ تمّ تخفيض قيمة الديون بشكل كبير لتمكين اليونان من استعادة بعض الاستقرار المالي.

والآن ماذا عن الإجراءات المتخذة لتحسين الوضع المالي؟
في لبنان اتخذت اجراءات عدة، منها إعادة هيكلة الديون، أي التفاوض مع الدائنين الدوليين بما في ذلك صندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة ديونه. وكان الهدف إيجاد حلول طويلة الأمد لتخفيف عبء هذا الدين، لكن التقدم في هذه المفاوضات كان بطيئًا بسبب تعقيدات سياسية وعقبات داخلية.
والى هذا التفاوض، صدرت دعوات لإعادة هيكلة النظام المصرفي اللبناني بشكل شامل، لكن التنفيذ الفعلي لهذه الخطط تأخر بسبب الاضطرابات السياسية وعدم وجود توافق حول الإصلاحات المطلوبة. وللخروج من هذا المأزق، تمّت السيطرة على رأس المال ، بفرض قيود صارمة على السحب، ما أثر بشدة في قدرة المودعين على الوصول إلى ودائعهم، اضافة الى بذل الدولة جهوداً لبدء إصلاحات اقتصادية، مثل تحسين إدارة الموارد العامة ومحاربة الفساد، ولكن هذه الإصلاحات كانت غير مكتملة ولم تحقّق النتائج المرجوة حتى الآن. لذا، حاول لبنان الحصول على دعم دولي من خلال صندوق النقد الدولي، ولكن هذا الدعم كان مشروطاً بتنفيذ إصلاحات هيكلية صارمة لم تتمّ.
وبخلاف ما جرى في لبنان، تلقت اليونان بين عامي 2010 و 2015، ثلاث حزم إنقاذ مالي من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، شملت تحويلات مالية ضخمة لمساعدتها على تفادي الإفلاس، شرط خفض الإنفاق الحكومي، زيادة الضرائب، وتخفيضات في الأجور والمعاشات. وبالفعل تمّ تنفيذ عملية إعادة هيكلة ديون اليونان في العام 2012 وتخفيضها بشكل كبير من خلال التفاوض مع الدائنين لتقليص الأعباء عنها. والى ذلك، شملت إعادة هيكلة الديون، تمديد آجال استحقاقها، تخفيض معدلات الفائدة وتقديم تسهيلات أخرى لمساعدة اليونان على تحسين قدرتها على سداد الديون. ثم قامت بتنفيذ إصلاحات في سوق العمل، في النظام الضريبي والقطاع العام. تضمنت هذه الإصلاحات تسريع إجراءات الخصخصة وتحسين كفاءة القطاع العام.
وبالإضافة إلى الإجراءات التقشفية، كان هناك تركيز على تحسين نظام الرعاية الاجتماعية ودعم الأسر المتضررة.
بالنسبة لقبرص فإن الإجراءات المتخذة تناولت التالي:
-طلب المساعدة. ففي العام 2013، طلبت قبرص المساعدة المالية من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، فتمّ تزويدها بحزمة إنقاذ مالية بقيمة 10 مليارات يورو. وكانت هذه الحزمة مشروطة بإعادة هيكلة النظام المصرفي، بما في ذلك خصم من الودائع الكبيرة في المصارف المتعثرة، كذلك إعادة هيكلة المصارف، لا سيما المتعثرة منها، أدى الى دمج بنوك وتحجيم حجم القطاع المصرفي لتقليص تعرضه للمخاطر.
والى ما تقدّم تمّ فرض خصم على الودائع الكبيرة في المصارف المتعثرة كجزء من خطة الإنقاذ، ممّا أثر على المودعين الكبار. كذلك تمّ فرض قيود على رأس المال، مؤقتاً: قيود صارمة على السحب والتحويلات الدولية لحماية النظام المصرفي من الانهيار الكامل. والرفع التدريجي للقيود، بعد استقرار الوضع المالي، للسماح بعودة النظام المصرفي إلى العمل الطبيعي.
كذلك اتخذت اصلاحات اقتصادية شملت تحسين إدارة المالية العامة، تعزيز الرقابة المالية، وتطبيق سياسات تقشفية لتحسين الوضع المالي للبلاد.
نخلص من ذلك لنقول أن “طبيعة الإجراءات المتخذة لتحسين الوضع المالي في لبنان، قبرص، واليونان بناءً على الخصائص الفريدة لكل أزمة، قد اختلفت. فلبنان واجه تحديات تتعلق بالفساد وسوء الإدارة، وتركيبة سياسية أقل ما يقال عنها أنها “فاسدة” بامتياز (كونها استغلته ونهبته على مدى أكثر من 40 عاماً)، مّا يجعل الإصلاحات أكثر تعقيدًا. في المقابل، اليونان وقبرص كانتا تتعاملان مع مشاكل ديون وتعرض مصرفي كبير، ما تطلّب معالجة الأزمة وتدخلات دولية وإعادة هيكلة مؤسساتية واسعة. لكل من هذه الحالات دروسًا قيمة تتعلق بكيفية إدارة الأزمات المالية واستعادة الاستقرار الاقتصادي، وهي دروس يمكن أن تكون مفيدة في وضع السياسات المستقبلية لدول أخرى تواجه أزمات مشابهة.
إن الأزمة المالية في لبنان تضعه أمام مفترق طرق حاسم يتطلّب اتخاذ قرارات جريئة ومدروسة لضمان استقرار مستقبلي طويل الأمد. بينما تعكس تجارب قبرص واليونان دروسًا مهمة حول إدارة الأزمات المالية. أما النجاح فيبقى مرهونًا بقدرة لبنان على تنفيذ إصلاحات شاملة والتفاوض على دعم دولي فعّال. حماية المودعين، استعادة الثقة في القطاع المصرفي وتعزيز النمو الاقتصادي، وهي أهداف أساسية يجب أن تُوجّه جميع الجهود نحو تحقيقها.

ولكن، من بين أهم الأسباب التي تعيق الخروج من هذه الأزمة هو الفساد المتجذّر في المنظومة السياسية الحاكمة. الفساد في الطبقة السياسية ليس مجرد عرض جانبي للأزمة بل هو أحد العوامل الرئيسة التي أدت إلى انهيار الثقة في المؤسسات العامة وتفاقم الأوضاع الاقتصادية منها: فساد المؤسسات الحكومية والمجالس البلدية المتعاقبة وكذلك فساد المؤسسات الرسمية مثل: المجالس البلدية، مجلس الإنماء والإعمار، مجلس الجنوب، صندوق المهجرين، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، على سبيل المثال لا الحصر.
فمنذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، تولت حكومات ومجالس نيابية متعددة إدارة البلاد. ومع ذلك، فإن هذه الحكومات المتعاقبة والمجالس النيابية لم تتمكن من تحقيق الاستقرار أو التنمية الاقتصادية المستدامة التي كانت ضرورية لإعادة بناء لبنان. على العكس من ذلك، يمكن القول إن معظم هذه الحكومات والمجالس قد ساهمت بشكل كبير في تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعانيها لبنان اليوم، وذلك بسبب فسادها وسوء إدارتها.
لقد فشلت الحكومات المتعاقبة منذ تلك الحقبة في إدارة الموارد العامة بشكل فعال، بحيث أن الكثير من الأموال العامة أُهدرت في مشاريع غير منتجة، أو استخدمت لتمويل مصالح سياسية ضيقة. وكانت النتيجة زيادة الدين العام وتفاقم الأزمات المالية التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية في لبنان.
والى ذلك، تفشّت المحاصصة الطائفية. ورغم حصول لبنان على قروض ومساعدات دولية بعد الحرب الأهلية، فإن الحكومات المتعاقبة فشلت في بناء بنية تحتية قوية أو تحسين الخدمات العامة. بل ان الكثير من المشاريع التي كان يمكن أن تخدم مصلحة البلاد تم تسييسها أو أُجهضت بسبب الفساد. وكانت النتيجة ما يعانيه لبنان من نقص حاد في البنى التحتية الأساسية، مثل الكهرباء والمياه والنقل، مما يزيد من معاناة المواطنين ويعيق التنمية الاقتصادية.
وانسحب الفساد على المجالس النيابية، سواء في تشريع قوانين تخدم المصالح الخاصة، أو في ضعف الرقابة والمساءلة، فضلاً عن تعطيل الإصلاحات الهيكلية، التي أبقت لبنان في حالة من الجمود السياسي والاقتصادي، أدت الى تعميق الأزمة الحالية وجعل من الصعب إيجاد حلول فعالة.
لقد شهد لبنان حكومات متعاقبة ومجالس نيابية متورطة في الفساد وسوء الإدارة، ما أدى إلى تفاقم الأزمات التي يعانيها اليوم. خصوصاً لناحية اعتماد المحاصصة الطائفية على أساس عدم الكفاءة، استغلال الموارد العامة، ضعف الرقابة والمساءلة، وتعطيل الإصلاحات الهيكلية. هذه كلها كلها عوامل أسهمت في تفشي الفساد وانهيار ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، من المجالس البلدية إلى مجلس الإنماء والإعمار، الى مجلس الجنوب وصندوق المهجرين، الى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ان هذه المؤسسات تشترك في كونها أدوات حيوية لتحقيق التنمية وإعادة الإعمار وتوفير الرعاية الاجتماعية. ومع ذلك، أدّت ممارسات الفساد والمحسوبية إلى تعطيل دورها وحرمان المواطنين من الخدمات التي تستحقها.
ان هذا الفساد المتفشّي في المجالس البلدية ومجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب وصندوق المهجرين والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في لبنان، يُظهر مدى عمق الأزمة التي تواجهها الدولة اللبنانية على مختلف الأصعدة. تحولت هذه المؤسسات، للأسف، التي كان من المفترض أن تكون أدوات للتنمية والإعمار وتحسين ظروف المعيشة إلى بؤر للفساد والمحسوبيات، مما أدى إلى تعطيل دورها الأساسي وتفاقم معاناة المواطنين.
في مقالنا القادم، سوف نسلّط الضوء على خداع جمعية المصارف والمصارف، وتحالفها مع المنظومة السياسية الفاسدة بامتياز؛ هذا التحالف الوسخ أدى في نهاية المطاف الى الإنهيار الذي يشهدة لبنان اليوم على كافة المستويات.