د. الياس ميشال الشويري
في هذا اللبنان، البلد المتجاوز والمخالف والمنتهك للقوانين والأعراف، استشرى العمى والفساد مثل طاعون عاصف أصاب البلد بأكمله. هذا العمى الأبيض والمشّع، الذي عمّ المجتمع اللبناني، منعه من رؤية عمى غريب ورهيب نتج عنه هيجان وتكالب ونباح على السلطة والحياة بأساليب جشعة وخشنة ووحشية. ولن نستغرب هذا المسلك من قِبَلِ مصاصي دماء أدخلونا وما زالوا، هم والبعض ممّن سبقهم، في حروب أتت على الأخضر واليابس، وشردّت من شردّت من اللبنانيين؛ كل ذلك من أجل فرض السيطرة والتحكّم الجائر على عميان لا يرون في ضياء النهار.
ولا يسع هذا المبصر، كغيره من القلّة المبصرين والأحرار والمدافعين عن الحق في الحياة بكرامة، سوى البكاء، والمزيد من البكاء على ما نعيشه اليوم وما أصاب أبناء هذا البلد من عمى البصيرة، العمى الذي هو تعبير صارخ عن الجهل الذي يتمتّع به أكثرية الشعب اللبناني الذي تخلّى عن أكبر نعمة وهبها الخالق له – البصيرة والرؤية الانسانية التي تمكّنه من الاستمرار والتقدّم. وما يمرّ به هذا اللبنان من فقدان المدنية كل مقوّمات وجودها الجمالية لصالح المصلحة الشخصية والأنانية والمحن والهزائم والتدهور الأخلاقي والتربوي والاجتماعي والعائلي… والانحدار المهول، والمخجل، والمقزّز في الأداء اللاسياسي، ما سبّبه سوى العمى الأبيض الذي سيطر على الجميع – الجهل، ثم الجهل، ثم الجهل.
كل شيء في هذا اللبنان أصبح مزوّراً! ومن يدعي أن هذا اللبنان بألف خير فهو إمّا أعمى، او انه قابع في دهاليز بعض ما يسمّى بالزعماء (أو بالأحرى ذوو عماء) وصغارهم من بعض ما يسمّى بالسياسيين الذين ضقنا ذرعاً من نباحهم، المحصّنين بمرتزقة من شعب جاهل لما يضمر له المستقبل من خلال سياسات هؤلاء التي أخفقت مراراً وتكراراً، وعلى مدى سنوات طوال، في إرساء قواعد الدولة العصرية التي تحترم قوانينها وتحمي مواطنيها وتؤمن لهم العيش الكريم، من بيئة صالحة، وكهرباء، ومياه، وأمان، وسلامة و…
هنيئاً للبنانيين وغيرهم ممن يصفّق كل يوم للواقع المرير الذي نعيشه (ما غزي قوم في عقر دارهم الّا ذلوا)، إفرحوا بالمصائب التي تنزل على رؤوسكم من غزاة السياسة ولا تريدون ان تغيروا شيئاً، فقط بسبب حقدكم الطائفي الأعمى، والمحسوبية، والمنسوبية، والذل الذي ارتضيتموه على أنفسكم من قبل مجموعة همّها الأوحد مصالحها الشخصية ولو اضطرها الأمر الى الفتك بالبلد كلّه ونهبه مرّات ومرّات. وللأسف، هذا ما يريدنا الآخرون عليه … المزيد والمزيد من التخلّف والرجعية وتدنّي كل المستويات، بما فيها المستوى التربوي بشكل عام والتعليم العالي بشكل خاص الذي يشهد الكثير الكثير من التجاوزات من دون حسيب أو رقيب. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الطامة الكبرى هي أن ترى بأم العين، ومن خلال التجربة الملموسة، بأن الشهادات باتت في بعض الأحيان كالهدايا في يوم العيد، توزّع على الأبناء والأقارب والمعارف لقاء منافع مادية و/أو معنوية (فمن يوقّع الشهادة يعطيها لنفسه من دون بذل أي جهد يذكر). إن قرار السكوت عمّا يجري في المجال التربوي يفقد ثقة الجامعات في الدول الاخرى بالتعليم والشهادات في لبنان، ويؤدي الى ازمة ثقة بكل ما يصدر من لبنان من وثائق ومستندات.
حقاً، نحن اليوم نعيش فوضى اجتماعية، أخلاقية، تربوية، سياسية، أمنية، قضائية، إدارية … تنسب الى الجريمة بحق هذا البلد، وتعبّر عن نفسها بشتّى الأعمال التي نراها هنا وهناك، وبالتالي تنحدر الى هاوية الخراب! ولبنان اليوم نموذج لهذه الحياة أو الصورة، فالحقد والكراهية يعشّشان في قلوب الكثيرين، ولكنهم يظهرون لبعضهم تعاوناً أو ما يسمى بالشراكة، وكل طرف سياسي منهم يجرّ وراءه ميليشيات مسلحة للقتل والتدمير، وهي أدوات تستخدم لفرض الإرادات. وهم في الوقت نفسه يتغيرون في حراكهم وتحالفاتهم وفق المعطيات المصلحية المرحلية ومن دون أي برمجة تعتمد على نظرية أو استراتيجية؛ فهو حراك انتهازي هدفه المصالح الضيقة! إنهم حرباء السياسة، يتلوّنون بين لحظة وأخرى، وهذه حال التحالفات السياسية في لبنان اليوم — الناقص للسيادة.
ممّا لا شك فيه أن الحكومات المتعاقبة التي أنتجتها هذه التحالفات في وادٍ والشعب في وادٍ آخر! فمن جهة، كشفت الأزمات المتلاحقة قلة خبرة الحكومات المتعاقبة في التعامل مع احتياجات المواطنين الأساسية، وهذا ظاهر للعيان من تعامل مسؤوليها مع الأزمة أو الأزمات المتعددة برفع شعار “طنّش، تعش، تنتعش”! ويؤكد من جهة أخرى الفساد المستشري في أروقتها حيث تحوّل المواطن صاحب الدخل المحدود كبش فداء ذُبح بدم بارد!
يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح، يوجعني أن أسمع النباح من هنا وهناك. فبدلاً من أن نزبد، ونرغي، ونهدّد الآخرين بخطاباتنا وعنترياتنا الصوتية المهترئة، علينا أن نعدّ لهم ما استطعنا من قوة. وعندما تتوافر لنا أسباب تلك القوة، لا أعتقد أننا سنرفع أصواتنا كثيراً لتكون تعويضاً عن عجزنا وخيبتنا وإحباطنا، ولن نتوعد أحداً بعظائم الأمور، بل سنضرب الأعداء من دون إطلاق رصاصة صوتية واحدة. وكما يقول المثل الانجليزي الشهير: فلنبحث عن عصا غليظة أولاً، ومن ثم سنتكلم بلطف، بشكل أوتوماتيكي! فالانتقام، بكل الأحوال، كما يقول الانكليز أيضاً، “أكلة يجب أن تؤكل باردة”.
على أي حال، لنتذكر ما قاله مارتن لوثر كينغ (زعيم امريكي من اصول افريقية، ناشط سياسي في المجال الانساني. كان من المطالبين في انهاء التمييز العنصري لاصحاب البشرة السوداء، كما يعتبر من اهم الشخصيات التي ناضلت في سبيل الحرية وحقوق الانسان): لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك إلا إذا كنتَ منحنياً، والذي ولِد ليزحف لا يستطيع أن يطير. فلماذا تزحف أيها المواطن الكريم، بلقمة عيشك وبأعبائك المادية وبكرامتك و… لهؤلاء الأوغاد الذين كان شعارهم ولا زال، حسب ما جاء في قصيدة للشاعر السوداني صلاح البندر:
اللهم زِد من جلوسنا على كراسينا
وبارك لنا فيها
واجعلها للوارث منّا
واجعل ثأرنا على شعبنا
وانصرنا على من عارضنا
ولا تجعل مصيبتنا في حُكمنا
ولا تجعل راحة الشعب أكبر همنا
ولا مبلغ عِلمنا
اللهم ارزقنا معونة لا نسرق بعدها أبدا
اللهم لا تفتح أبواب خزائننا لغيرنا
اللهم أني أعوذ بك من كرسي يُخلع
ومن شعب لا يُقمع
ومن خطاب لا يُسمع
ومن مواطن لا يُخدع
وأعوذ بك من كل عمل يُقرّبني إليك!
تذكرّ أخي المواطن أن السياسة منظومة قواعد خالية من العواطف، ولا تقر بالقيم والمبادئ الإنسانية وإن تلحّفت بها لاستغفال العامة من سذّج الناس بغية زَجّهم في آتون الصراع السياسي، من خلال اختراق جدار لاوعيهم وغبائهم عبر الشعارات الكاذبة وتحريض رواسبهم الكامنة وتجييرها في خدمة مصالح النخَب السياسية الحقيرة الساعية أبداً لتحقيق غاياتها غير المعلنة. إنّ ادعاء السياسي بالمبادئ والقيم والمثُل العليا يعدّ بمثابة أدوات النصب والاحتيال على الجمهور الجاهل. فمن شروط نجاح السياسي، إتقانه لفن الخداع والكذب لتضليل العامة من الناس، إطاعته للأوامر، واستعداده لسحق الآلاف من البشر، لا بل الملايين، لتحقيق مآربه الشخصية!
أخيراً وليس آخراً، لن نبالغ ولن نتجنّى على أحد إذا ما قلنا أن كل حرف وكلمة في القصيدة أدناه، للشاعر اليمني فتح مسعود، ينطبق بشكل تام على أغلب من تصدروا المشهد الديني والمذهبي والسياسي، وحتى العشائري في لبنان، منذ فترة الحرب الأهلية ولغاية تاريخه … أي، سادة وساسة الصدفة الذين سطوا على عقول اللبنانيين قبل أن يسطوا على خيرات وثروات ومقدرات لبنان، بإسم الدين والمذهب ومشتقاتهما:
سنَبيعُكم لكنْ لمَن
مَن يشتري منا العفَن
مَن يشتري منا النجاسةَ والقذارةَ والفِتنْ
مَن يشتري منا صراصيرَ النذالةِ والوهَـن
مَن يشتري منا الكوارثَ والمصائبَ والحزنْ
مَن يشتري منا الجراثيمَ المضرّةَ بالبدن
مَن يشتري منا اللصوصَ المستغلّينَ الخوَنْ
مَن يشتري العملاءَ والجبناءَ والأوساخَ مَن!
سنَبيعُكم لكنْ لمَـن
مَن يشتري منا الفطافطَ والضلافعَ والمِحَـن
مَن يشتري منا البواسيرَ الخبيثةَ والدَرَن
مَن يشتري شرَّ الدوابِ، وشرَّ عُبّـادِ الوثن
مَن يشتري عيباً يفضَّل عن مخازيهِ الكفـن
مَن يشتري عاراً علينا يستحي منهُ الزمن!
سنَبيعُكم لكنْ لمَـن
لستم كلاباً للحراسةِ كي يكونَ لكم ثمَن
لستم حميراً للركوبِ، ولا بغالاً للمُـؤَن
لستم دجاجاً تؤكلونَ، ولا دواباً تُحتضَن
لستم نعالاً تُلبَسون، ولا عبيداً تُؤتمَـن
مَن يشتريكم من بلاد العُربِ والعجم مجّاناً ومَن
سنَبيعُكم لكنّـهُ لـن يشتري أحدٌ ولـن
باللهِ لو أكرمتمونا، فارحلـوا عنّـا إذن
وإذا انتحرتم، سوف نشكركم على حُبّ الوطن!