“مظاهرات تُشبه”أسمع جعجعة ولا أرى طحناً
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، الذي لطالما حمل لقب “وطن الرسالة” بسبب تاريخه الغني وثقافته الفريدة وتنوّعه الطائفي، أصبح الآن نموذجًا للأزمات السياسية والاقتصادية، حيث يواجه المواطن اللبناني التناقض بين حلم العودة إلى الأيام الذهبية، أيّام الخمسينات والستّينات، والواقع الحالي المليء بالصعوبات والفساد، مع منظومة أقلّ ما يقال عنها: منظومة حثالة بامتياز. حتى التشبيه الذي حصل عليه بجدارة، وهو أنه “وطن الرسالة“، لم يعد، للأسف، رائجاً، بعد دخول المنظومة الفاسدة على الخط، مستغلة سلطتها ولا تزال لتحقيق مصالحها الشخصية على حساب الشعب.
1-أصول اللقب: كيف أصبح لبنان “وطن الرسالة”؟
-يُعرف لبنان بـ “وطن الرسالة” نظرًا الى دوره التاريخي كمركز للتنوّع الثقافي والديني في منطقة الشرق الأوسط، وقد ارتبط هذا اللقب به، منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندما كان لبنان يمثّل نموذجًا للتعايش السلمي بين مختلف الطوائف الدينية والعرقية. خلال القرن العشرين، كان لبنان مصدرًا للعلم والثقافة في العالم العربي، حيث قدّمت الجامعات والمدارس اللبنانية العديد من القادة والمفكّرين البارزين. هذه السمعة جعلت لبنان مركزًا للتبادل الثقافي والتعليمي، وساهمت في بناء صورة إيجابية له كرمز للتسامح والانفتاح.
2-الواقع المعاصر: كيف تحوّلت الرسالة إلى أزمة؟
- أسباب كانت وراء ما حدث:
الفساد المستشري بسبب المنظومة الحاكمة والذي أصبح أحد أبرز التحديات التي واجهت لبنان منذ التسعينات من القرن الماضي. منظومة حاكمة فاسدة استغّلت مواقعها لتحقيق مصالح شخصية، مّا أدّى إلى تفشّي الفساد على جميع الأصعدة. من اختلاس الأموال العامة، إلى إدارة الموارد بشكل غير شفّاف. لقد أثّرت هذه الممارسات السلبية بشكل كبير على الاقتصاد اللبناني والخدمات العامة. وبسبب هذا الفساد المستشري، أمست المنظومة الحاكمة رمزًا للفساد والتمييز، ممّا فاقم الأزمات التي يعاني منها الشعب اللبناني اليوم.
-سوء الإدارة: كيفية تقويض المؤسسات وتدمير الاقتصاد. ان سوء الإدارة في لبنان والحدّ من سلطة الهيئات الرقابية أدّيا إلى تدمير العديد من المؤسسات الحيوية. الفشل في إدارة الأزمات الاقتصادية، بما في ذلك أزمة الدين العام، وسوء استخدام الموارد، دفع الاقتصاد اللبناني الى الإنهيار ومعه تدهور مستوى المعيشة. هذه الإدارة الفاسدة أثرت سلبًا على جميع جوانب الحياة في لبنان، من الصحة إلى التعليم والبنية التحتية.
-الأزمات الاجتماعية: الفقر والبطالة وتدهور الخدمات. لقد تفاقمت الأزمات الاجتماعية في لبنان جراء تدهور الاقتصاد وسوء الإدارة. الفقر أصبح مشكلة رئيسية، اذ تعيش نسبة كبيرة من اللبنانيين الأحرار تحت خط الفقر. البطالة ارتفعت بشكل ملحوظ، مع عدم وجود فرص عمل كافية، خصوصًا للشباب. في الوقت نفسه، تدهورت الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحّة، ممّا زاد من معاناة المواطنين وجعل حياتهم اليومية أكثر صعوبة.
3-التناقض بين الرسالة والواقع، مجسداً بثلاث:
صورة مثالية مقابل واقع المرير. التناقض بين الصورة المثالية للبنان كـ “وطن الرسالة” والواقع المرير الذي يعيشه المواطنون اليوم مع منظومة حثالة هو تناقض صارخ. بينما كان لبنان يُعتبر نموذجًا للتعايش والتسامح، فإن الواقع اليوم يعكس صورة مختلفة تمامًا. الفساد، سوء الإدارة وانعدام الثقة في المنظومة الفاسدة بامتياز، أسفرت كلها عن تدهور الوضع المعيشي والاجتماعي، ممّا يتناقض بشكل كبير مع القيم التي كان لبنان يُمثّلها.
-المنظومة السياسية الفاسدة: من الحلم إلى الكابوس. ان المنظومة السياسية في لبنان أصبحت رمزًا للفشل والفساد. هذه المنظومة، التي كان من المفترض أن تقود البلاد، بعد حربٍ أهلية مدمّرة، نحو النمو والازدهار، ساهمت في تدهور الوضع من خلال فسادها وخضوعها الأعمى لإملاءات الخارج. هذه التحوّلات جعلت الحلم بلبنان المثالي يتلاشى أمام واقع مرير.
-التأثير على الشعب: كيف يعيش اللبنانيون اليوم؟ اللبنانيون اليوم، الشرفاء منهم، يواجهون تحديات كبيرة في حياتهم اليومية بسبب الأزمات المتفاقمة. الكثير منهم يعانون من الفقر، البطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة. تتجلّى هذه التحديات في سلب ونهب أموالهم في المصارف، نقص الخدمات الأساسية، عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية، والضغط الاجتماعي الذي يفرضه تدهور الوضع العام. في ظل هذه الظروف، أصبحت حياة المواطن اللبناني الشريف مليئة بالصعوبات والتحديات، ممّا أثر بشكل كبير على رفاهية وجودة الحياة.
4-الخيبة الشعبية: تصنيف الأحرار كأعداء. وهنا أيضاً لا بدّ من التوقّف عند:
-المواطنون الأحرار: رفض الفساد ومحاولة التغيير. في ظلّ الفساد المستشري وسوء الإدارة، برزت مجموعة من المواطنين الأحرار الذين يسعون إلى تحقيق التغيير. هؤلاء الأفراد، بما في ذلك النشطاء الاجتماعيين والحقوقيين، يرفضون الفساد ويعملون على تحسين الأوضاع من خلال الدعوة إلى الإصلاحات والمساءلة. رغم تزايد قمعهم ومحاربتهم من قبل المنظومة الفاسدة والمفسدة، يستمّر هؤلاء الأحرار في النضال من أجل تحقيق العدالة والتغيير الإيجابي في لبنان.
-التهميش والقمع: كيف يتمّ التعامل مع الأصوات المعارضة؟ في مواجهة التحديات التي يفرضها الفساد وسوء الإدارة، قامت المنظومة منذ التسعينات بتهميش وقمع الأصوات المعارضة الحرّة التي تسعى إلى إحداث تغيير. هذا التهميش ظهر جلياّ في الاعتقالات التعسفية، التضييق على حرية التعبير، وحملات التشويه ضد النشطاء الذين لا غبار عليهم. هذه الإجراءات هدفت إلى قمع الأصوات الحرّة التي تدعو إلى الإصلاح وتحدّي المنظومة الفاسدة القائمة، ممّا زاد من تفاقم الأزمة وإعاقة الجهود الرامية إلى تحقيق التغيير.
-التناقض الأخلاقي: الصراع بين المعتقدات الدينية والمطالب السياسية. يعيش اللبنانيون، الأحرار منهم تناقضًا أخلاقيًا عميقًا، حيث يتعرّضون لصراع بين قيمهم الدينية ومطالبهم السياسية. بينما تشدّد القيم الدينية على أهمية الأخلاق والتسامح، تواجه هذه القيم تحديات عندما يتعلّق الأمر بالمطالبة بالتغيير ومواجهة الفساد. هذا التناقض يخلق توترًا داخليًا ويعقّد عملية اتخاذ القرارات بشأن كيفية التعامل مع الوضع الراهن، ممّا يؤدّي إلى حالة من التردّد والتناقض في استجابة الشعب الحر للأزمات.
5-الأمل في التغيير: الطريق إلى استعادة الرسالة، عن طريق خطوتَيْن:
-التغيير من الداخل: خطوات نحو الإصلاح الشامل. ان إعادة بناء لبنان كـ “وطن الرسالة” يتطلّب إصلاحات شاملة من الداخل. هذه الإصلاحات تشمل التخلّص من المنظومة الحالية الفاسدة بادىء ذي بدء، تحسين النظام السياسي، تعزيز الشفافية والمساءلة، وتطوير مؤسسات الدولة لتكون أكثر كفاءة واستجابة لمطالب المواطنين. يمكن أن تشمل الخطوات العملية إنشاء مؤسسات مستقلة شفّافة لمكافحة الفساد، وتحديث القوانين لضمان نزاهة العمليات الانتخابية والإدارية.
-دور الشباب والنشطاء: القادة الجدد في النضال من أجل العدالة. ان الشباب والنشطاء الأحرار في لبنان يلعبون دورًا حيويًا في عملية التغيير. هؤلاء القادة الجدّد يجلبون طاقات جديدة وأفكارًا مبتكرة لتحفيز التغيير الإيجابي. من خلال تنظيم الاحتجاجات، تعزيز الوعي بالقضايا الاجتماعية، والعمل على المستوى المحلي، يساهم هؤلاء النشطاء الأحرار في دفع عملية الإصلاح والمطالبة بالعدالة والشفافية.
6-دروس من الماضي: تجارب دول أخرى في الإصلاح، ومن الأمثلة:
-دول نجحت في إصلاح أنظمتها السياسية، وحقّقت نقلة نوعية في مسارها السياسي والاقتصادي، مثل سنغافورة، هونغ كونغ، جورجيا، رواندا، وبوتسوانا. هذه الدول، التي سنتناول تجاربها في مقال مقبل، نجحت في تنفيذ إصلاحات جذرية مكّنتها من تحقيق تحوّل إيجابي على كافة الأصعدة. من خلال رجالات دولة بكل ما للكلمة من معنى، وليس مثل المنظومة التي لدينا، تعزيز سيادة القانون، وتطبيق سياسات اقتصادية شفّافة ومدروسة، تمكّنت هذه الدول من الانتقال من حالة الفوضى أو التخلّف إلى نماذج ناجحة تستقطب الاستثمارات وتحقّق الازدهار. تُمثّل هذه التجارب خارطة طريق للبلدان التي تسعى إلى الخروج من أزماتها وتحقيق تقدّم ملموس، ويمكن أن تكون مصدر إلهام للبنان في سعيه نحو بناء دولة حديثة تقوم على العدالة، الشفافية، وحكم القانون.
7-دعوة للعمل: مسؤولية المجتمع الدولي في دعم لبنان لوضع مسيرته نحو التغيير. ان المجتمع الدولي يلعب دورًا مهمًا في دعم لبنان في مسيرته نحو التغيير. من خلال تقديم المساعدة الفنّية والمالية، وبالتأكيد ليس في ظل هذه المنظومة، دعم مشاريع الإصلاح، وتعزيز التعاون الدولي. بلا شك، يمكن للمجتمع الدولي، اذا أراد ذلك، أن يساعد لبنان في تحقيق أهدافه وإجباره على القيام بإصلاحات حقيقية وتحسين الأوضاع.
-الشراكة بين الدول والمجتمع المدني اللبناني: خطوات نحو النجاح. ان تعاون الدول التي تبغي وضع حدٍ لما يتعرّض له لبنان من مآسٍ وويلات مع المجتمع المدني الحر، يمكن أن يكون مفتاحًا لتحقيق التغيير. من خلال بناء شراكات قوية بين منظومة حاكمة جديدة، المجتمع المدني، والقطاع الخاص، يمكن تحقيق إصلاحات فعالة وتوفير دعم حقيقي للتنمية. هذا التعاون يمكن أن يشمل برامج تدريبية، مبادرات تعليمية، ودعم للمشاريع الاجتماعية والاقتصادية التي تستهدف تحسين جودة الحياة في لبنان.
خاتمة
لبنان، الذي كان يومًا ما نموذجًا للتعايش والتنوّع الثقافي، يجد نفسه اليوم في خضم أزمة وجودية تهدّد جوهره كـ “وطن الرسالة“. فقد تحوّل هذا الوطن، الذي كان يمثّل الأمل والاستقرار في ظلّ ما عُرف بـ “المارونية السياسية”، في منطقة أقل ما يقال عنها مضطربة، إلى ساحة للفساد والفوضى تحت إدارة منظومة سياسية، أقّل ما يقال عنها “هفيانة على السلب والنهب والكراسي”، لا تهتّم سوى بمصالحها الضيقة. الفساد المستشري وسوء الإدارة المتفشّي وسلب ونهب أموال المودعين في المصارف دمّرت البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ممّا أدى إلى تفاقم الفقر وتراجع جودة الحياة.
منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، تعمّق الانقسام السياسي والطائفي، وأصبح لبنان مرآة للمصالح الخارجية والإقليمية المتنازعة. في هذا السياق، برزت معالم واضحة للامساواة الاجتماعية والاقتصادية. ففئة المنظومة الفاسدة، التي تمثّل 1% من السكان، إستحوذت على ربع الدخل الوطني، بينما يتقاسم النصف الأكثر فقرًا أقل من 10% من هذا الدخل. الأمر لا يقتصر على توزيع الدخل فقط، بل يمتد إلى الثروة أيضًا، حيث يسيطر أغنى 10% من السكان على 70% من مجموع الثروات. هذه الحقائق الصارخة تعكس فجوة هائلة بين الطبقات، مع فرص ضئيلة للارتقاء الاجتماعي، ممّا يترك الأغلبية الحرّة تعيش في حالة من العوز واليأس.
المنظومة السياسية الفاسدة وما يسمّى برجال الأعمال في لبنان، الذين أعماهم البطر والجشع، لم يكتفوا بالاستفادة من النظام القائم، بل عمدوا إلى ترسيخ مصالحهم من خلال تقاسم القطاعين العام والخاص، مستغلّين غياب الرقابة والمساءلة. أنشأ هؤلاء منظومة تتيح لهم جني الأرباح من كل نشاط اقتصادي تقريبًا، ممّا أدّى إلى إفقار الدولة وإضعاف مؤسساتها. في ظلّ هذا الوضع، لم يعد لبنان قادرًا على تلبية احتياجات شعبه الأساسية، ومع ذلك، يستمر حقيرو المنظومة في التغاضي عن الحاجة الملحة للإصلاح.
لبنان اليوم يقف على حافة الفشل كدولة. في غياب إصلاحات جذرية وفورية، سيصبح هذا السيناريو واقعًا لا مفر منه. التغيير السياسي والمؤسسي أمرٌ ضروري وملّح، لكن لا يقّل عنه أهمية إعادة صياغة النموذج الاقتصادي، بحيث يكون أكثر عدالة واستدامة. الإصلاح المالي هو الخطوة الأولى والأساسية نحو تصميم نموذج اقتصادي جديد يعيد توزيع الثروات بشكل أكثر إنصافًا، ويضع لبنان على طريق التعافي بإعادة أموال المودعين في المصارف الى أصحابها … الشرفاء.
إن تأسيس دولة جديدة في لبنان، “وطن الرسالة“، يتطلّب إرادة جماعية من الأحرار والشرفاء لتحقيق تغيير جذري في البنية السياسية والاقتصادية. قد لا يكون هذا التغيير سهلاً، لكنه السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان من خطر الانهيار وضمان مستقبل أكثر عدلاً وازدهارًا للأجيال القادمة، التي نطمح أن تجد قادة حقيقيين، وليس كما هو الحال اليوم مع منظومة، حقيرة بامتياز، يديرون شؤون البلاد بحكمة وعدالة، بعيدًا عن الفساد، “الزعرنات”، التسلّط، والدناءة في إدارة شؤون لبنان.