المقاهي في أسواق بيروت القديمة
د. الياس ميشال الشويري
لا يزال اللبنانيون غير المستفدين من النهب والسرقة وتجارة الكبتاغون والمخدرات في أيامنا هذه، أو في أي وقتٍ مضى، يحّنون الى الزمن الجميل الذي لطالما يتذكرونه بشغف، في محاولة منهم للهروب من واقعهم المر الذي يعيشونه اليوم مع منظومة أقلّ ما يُقال عنها فاسدة، حقيرة، وبلا ضمير!
ومثلما لكل زمان دولة ورجال، فإن لكل زمان جيله! وشاءت الأقدار وظروف الحياة أن تجعل من جيل الخمسينيات والستينيات، أو فترة “المارونية السياسية”، كما يحلو للبعض أن يسميها، عنواناً كبيرا لما يسمّى بالزمن الجميل، بكل ما حمل من براءة وطيبة وسلام ومحبة.
على أي حال، يسعدني أن أبدأ مقالي هذا بما ورد في مقال شيّق للسيد خليل الخوري عن المارونية السياسية … الشجرة المثمرة، في العام 2017:
- عندما كان الموارنة أصحاب نفوذ و… صلاحيات في السلطة اللبنانية، كان لبنان منارة حقيقية في هذا الشرق، وكانت كلمة لبنان مسموعة في دنيا العرب، وفي الإقليم، وفي العالم كله.
- عندما كان الموارنة أصحاب نفوذ و… صلاحيات في السلطة اللبنانية، كان لبنان واحة للديموقراطية، وواحة علمية (وجامعية)، وواحة لنشر الكتب، وواحة لحرية الرأي، وواحة للإعلام، وواحة للسياحة، وواحة للطب، وواحة للفنادق (…).
- عندما كان الموارنة أصحاب نفوذ و… صلاحيات في السلطة اللبنانية، كان لبنان وجه العرب الحضاري، وكان يجمعهم في مؤتمر قمة ليزيل الخلافات أو يسعى لإزالة ما أمكنه الى ذلك سبيلاً.
- عندما كان الموارنة أصحاب نفوذ و… صلاحيات في السلطة اللبنانية، كانت المصارف اللبنانية الأشد ثباتاً بالرغم مما تعرّضت له خلال الحرب من بلطجة ولصوصية على أيدي العصابات المعروفة التي أوصلت لبنان اليوم الى ما هو عليه من بؤس ومرارة ويأس على كافة المستويات.
- عندما كان الموارنة أصحاب نفوذ و… صلاحيات في السلطة اللبنانية، كانت الليرة اللبنانية من أهم العملات الوطنية في العالم قاطبة، وكانت مقبولة في التداول المصرفي في أوروبا وأميركا … وكان الإقتصاد اللبناني ثابتاً … ولم يكن على لبنان دينٌ يذكر، حتى ما بعد الحرب الضروس التي استمرت خمسة عشر عاماً.
بالملخّص:
- الموارنة أقاموا نموذجاً ديموقراطياً سبّاقاً، وأعطوا المرأة حق الإنتخاب قبل دول أوروبية كثيرة، ومعهم تحقّق (وبالتأكيد مع اخوانهم اللبنانيين من مختلف الطوائف) الإستقلال قبل أربعة أخماس دول العالم الحالي.
- الموارنة نسجوا مع سائر أبناء الوطن الميثاق الوطني الذي لا يزال، حتى اليوم، ظاهرة فذّة خلاّقة لم تتوصل اليها حتى الدول التي تتألف شعوبها من مذهبين في الدين الواحد … فأقاموا وطن المساواة لــ 18 طائفة!
تجدر الإشارة هنا الى أنه في العام 1964 أتى وفد سنغافوري رسمي الى لبنان برئاسة رئيس مجلس الوزراء، آنذاك، لي كوان يو، لأخذ أفكار من التجربة اللبنانية الرائدة في ذلك الزمن، حيث كانت بيروت منارة فريدة للفكر والحرية والعيش المشترك وقبلة للسياحة والعلم والاستشفاء (تعتبر سنغافورة بلداً متعدد الديانات مثل لبنان، بسبب الخليط العرقي المتواجد فيها، من بوذيين، وطاويين، ومسلمين، ومسيحيين، وهندوس … وكانت في تلك الحقبة تعاني الاندماج مع ماليزيا وترزح تحت اضطرابات اجتماعية ونزاعات بين حزب العمل الشعبي الحاكم في سنغافورة وحزب التحالف في ماليزيا، ما تسبّب في انفصال سنغافورة عن ماليزيا لتصبح جمهورية مستقلة في آب 1965 ووصلت الى حدّ إعتبارها دولة غير قابلة للحياة. إلتقى الوفد السنغافوري مسؤولين حكوميين في بيروت، ولا سيما منهم السيد محمد عبدالله والدكتور نزار يونس، على مدى ايام من الاجتماعات والجولات في الربوع اللبنانية، وعادوا الى بلادهم بنصيحة ذهبية: لا تفعلوا مثلنا، بل افعلوا عكس ما سنفعل!).
أما بالنسبة للرئيس فؤاد شهاب، فقد شرح للرئيس السنغافوري أن الأهم في أوضاع مماثلة للبنان وسنغافورة هو التركيز على إعطاء الأولوية النظيفة لإصلاح الدولة، وإنشاء المؤسسات، وتحسين الأوضاع الإجتماعية وتنشيط الإنماء! وبذلك، تضعف الانتماءات والعصبيات الدينية والطائفية وما يتبعها من ألاعيب سياسية وتدخلات خارجية، ويشعر المواطن بإنتمائه الى وطنه أولاً الذي يأمّن له كل حقوقه وسبل العيش الكريم بالتساوي مع الجميع، فتضعف إمكانية إستغلاله غرائزياً أو عرقياً أو طائفياً أو عاطفياً. ونصحه بالإعتماد على بعثات شبيهة ببعثة أيرفد في لبنان، التي كانت تقوم بمسح شامل لواقع وخصائص الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية في البلد وتقدم الحلول الإصلاحية.
إستمع الزعيم لي السنغفوري بإهتمام كبير لكلام الرئيس اللبناني وفهم المغازي الجوهرية، وكان من قدر لي كوان يو أن يحكم بلاده لغاية عام 1990، تمكّن خلالها من تطبيق ما ألهمه اليه الرئيس شهاب، فجعل من دولته الصغيرة والضعيفة إحدى أجمل وأرقى البلدان في العالم من حيث تنظيمها ونهضتها ونجاحاتها الإقتصادية الباهرة، والحس المدني المرهف والحضاري لدى مواطنيها.
اليوم، وبعد مرور حوالي 60 عاماً، أضحت سنغافورة، التي كانت تعاني في الخمسينات والستينات من أزمة حادة في الإيواء والبطالة، والفقر، والحاجة الى كل شيء، منارة للحداثة والتطوّر والتكنولوجيا وقبلة للازدهار والسياحة والاستثمارات العالمية، ومن أكثر الدول ازدهاراً في العالم، مع تطور كبير في اقتصاد السوق الحرة وروابط التجارة العالمية القوية، وفي إجمالي الإنتاج المحلي لكل فرد في آسيا خارج اليابان، ورابع أهم مركز مالي في العالم، وتاسع أعلى احتياطي في العالم، ودولة متألقة تؤدي دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي. كما ويعدّ مرفأ سنغافورة خامس مرفأ في العالم من ناحية النشاط، ويحلّ الجواز السنغافوري في المراكز المتقدمة على مستوى العالم، حيث يمكّن صاحبه من الدخول الى حوالي 195 دولة من دون تأشيرة مسبقة. كل ذلك حصل بفضل الأب المؤسس لسنغافورة الحديثة، لي كوان يو، الذي قال عنه وزير الخارجية الأميركي الأسبق الدكتور هنري كيسنجر: “لي كوان يو، من أعظم الشخصيات نفوذاً وتأثيراً في التطورات التى شهدتها – وستشهدها – القارة الآسيوية.” وكما قال عنه إمبراطور الإعلام كيث روبرت ميردوخ: “حوّل لي كوان يو مستعمرة صغيرة وفقيرة وعاجزة إلى دولة متلالئة وغنية وحديثة لكن مطوقة دائما بقوى معادية. ويعتبر لي كوان يو، بذكائه المتقّد وفكره الثاقب، واحداً من أعظم رجالات الدولة في العالم وأشدهم صراحة وأكثر من حظى منهم بالتوقير والاحترام”.
ماذا يمكن أن نقول عن لبنان الذي كان في القمّة في الخمسينيات والستينيات مع الرئيسين كميل نمر شمعون وفؤاد شهاب (ولربما عاد الى القمّة مع الرئيس الحي بشير الجميّل الذي أعاد للدولة هيبتها حتى قبل أن يتسلّم سدّة الرئاسة) وأضحى اليوم في قعر القمامة على كافة المستويات بفضل حكّامه ممّن أجادوا بامتياز لغة النفاق والصياح والنهب وسرقة المال العام والخاص و…؟ اليوم اتضح، أكثر من أي وقت مضى، أن مشروع لبنان الكبير كان غلطة تاريخية … بامتياز! ليس في العالم «وطن» تحوّل عبئاً على أبنائه … كلبنان؛ ليس في العالم شعب همّه الأول التخلّي عن هوية «وطنه» والبحث عن جنسية حضارية أخرى كالشعب اللبناني؛ ليس في العالم بلد «يصدّر» آباؤه الأبناء إلى الخارج خوفاً على مصيرهم في الداخل – مثل لبنان؛ ليس في العالم دولة يحتاج كل تبديل رئاسي أو حكومي فيها إلى تدخّل خارجي على أعلى المستويات، وكل تعديل دستوري إلى قمة إقليمية – إن لم يكن إلى حرب أهلية – مثل لبنان.
ولا يُخفى على أحد مدى تداعيات غياب الضمير اللبناني في القرن الواحد والعشرين، والتي تجلّت في مشاهد عدة! ولعل مشهد نزيف الدم اللبناني خلال الحرب الأهلية هو أبرزها. كما لا يجب أن ننسى إنفجار مرفأ بيروت وضحاياه الأبرياء الذين يستحقون عن جدارة لقب شهداء (شهداء الغدر من القيّمين السفلة على هذا البلد)، والإغتيالات السياسية وغيرها التي تمّت على مدار السنين من أجل كم الأفواه وإسكات كلمة الحق. الأزمة الأساس حالياً هي أزمة ضمير؛ الضمير الذي ترك في حمامات الخارج! فمن أينَ لنا بدواء لمرض الضمير؟ ومن أين لنا بمصلٍ يقينا من نومه الثقيل؟ وإلى متى سنشهد إحتضار الضمير في هذه البقعة من الأرض على مشارف المُغريات وتخثّر المبادىء على موائد الفساد! نعم، الضمير الذي أتى على مُختلف جوانب الحياة في هذا اللبنان الذي أرادوه على شاكلتهم النتنة والقذرة من حيث الأصل والأخلاق، أضحى اليوم مرتعاً للفساد والقتل والإرهاب ولقطّاع الطرق وسارقي السيارات وتجّار الكبتاغون والمخدرات، كما هو مبيّن في الجوانب التالية، على سبيل المثال لا الحصر:
- الجانب السياسي: بغياب الضمير يغيب الإستقرار… يدور صلاح وفساد الأمم في فلك أهل السياسة، بحيث الصالح منهم يُصلّح والفاسد يُفسِد؛ وما يُميز الأول عن الثاني هو ضميره. الأمة التي تحسن أن تجهر بالحق وتجترئ على الباطل تمتنع فيها أسباب الفساد (عبّاس محمود العقّاد).
- الجانب الأمني: بغياب الضمير يغيب الأمان … أمن الوطن هو بمثابة صمّام أمان للمواطن، ومن دون معيارٍ مقبولٍ من الطمأنينة لا يسلم وطن ولا يبقى مواطن، بحيث يُهاجِر البشر ويُدمَّر الحجر. إن نظام الدولة هو من يصنع الأمن ويحافظ عليه، فإذا كان على رأسها ضمائر غائبة، غابَ الأمن وعمَّ الإرهاب.
- الجانب القضائي: بغياب الضمير يغيب العدل … القانون يحمي الحقوق ويُحدّد الواجبات، ومتى تهاوى القضاء، تهاوت معهُ أسس العدل والحق. وهل أبشع من قاضٍ فاقدٍ للضمير، عندئذ نعود إلى شريعة الغاب ليأخذ صاحب الحق حقه بيده طالما لا من رادع ولا من عقاب، ما يؤدي إلى الفلتان و”الهريان” المؤسساتي.
- الجانب الإداري: بغياب الضمير تغيب النزاهة … إن ما يُبديه الموظف من إستقامةٍ وحرصٍ عند قيامه بواجباته هو عين المطلوب. ولكن، ساعة تسيطر المصالح الشخصية والمحسوبية السياسية والتبعية والطائفية والمذهبية وغيرها على المنافع العامة، يتوقف عمل المؤسسات، العامة والخاصة على حدّ سواء! في الدول التي تحترم مواطنيها، يشعر المواطن في تعامله مع الإدارات العامة والخاصة بالكرامة، والمساواة، وعدم التمييز، وبأنه ليس في وضع استعطاء خدمة أو تزلّف أو ابتزاز أو خضوع. المشكلة لدينا أنه، في الكثير من الأحيان، نصادف لاعقي الأحذية في مراكز القرار!
- الجانب الإعلامي: بغياب الضمير تغيب الرؤية … تضليل الرأي العام يتطلب قبل كل شيء وسيلة إعلامية بلا ضمير مستعدة أن تقلب الحقائق مقابل مبلغ أو خدمة، فتقتطع من التصريح لتحريف المعنى أو تقتطع من المشهد لتضليل الرؤية. الإعلام الإنتقائي الذي يكثّف أو يغيّب التغطية ليس إعلاماً بل تعليماً.
- الجانب الإنساني: بغياب الضمير يغيب الإنسان … الحيوان يقتل في حالتَي الجوع والخوف، أما الإنسان فيقتل، بالإضافة إلى ما سبق، في حالتَي الشبع والطمأنينة أيضاً. الضمير هو بمثابة سُلطة الفرد الداخلية، لكن المشكلة أنه لدينا مُبرّر جاهز لكل خطأ نرتكبه، فترانا نُلغي بسُهولة الحواجز بين المُباح والمُحرّم.
- الجانب التربوي: بغياب الضمير بات مستقبل الكثير من أبنائنا الهلاك … إذ من المعلوم أن معظم خرّيجي المدارس والجامعات قد تركوا العلم عند مدخل الصروح التربوية، وركبوا مراكب الموت أو الهجرة أو السمسرة، حتى لم يعد ممكناً التمييز بينهم وبين العامة من الناس، وباتوا مستعدين للعق أحذية السفلة والسماسرة مقابل وظائف لا ينفعوها بشيء، أو مقابل حفنة من الدولارات، وكل ذلك على حساب إنسانيتهم … إذا ما وجدت!
- الجانب العسكري: بغياب الضمير تغيب الكرامة … كرامة الوطن والمواطن هي أمرٌ لا يُمس به، لذا وجب إحترامها وصيانتها، وهذا من واجب كل سُلطات الدولة. إن كل عسكريّ لهوَ مدعو إلى وقفة ضمير، لا سيّما أمام المخاطر التي باتت تُهدد لبنان داخلياّ وخارجياً.
كلمة حق تقال بحق حكّام لبنان، كما جاء في قول الشاعر الكبير محمد مطر:
- يكذبون بمنتهى الصدق، ويغشّون بمنتهى الضمير، وينصّبون بمنتهى الامانة، ويخونون بمنتهى الاخلاص، ويدعمون اعداءهم بكل سخاء، ويدمّرون بلدانهم بكل وطنية، ويقتلون اخوانهم بكل إنسانية، وعندهم مناعة ورفض في تطوير الذات والتقدّم والبحث العلمي وتبلّد ذهني للغاية، ويتقاتلون بالسلاح، ويسفكون الدماء، ويغتالون الشرفاء، ويحاربون إسرائيل … بالصياح والنباح والدعاء!
ممّا لا شك فيه أنه إذا صلح القائد، كالزعيم السنغافوري بامتياز لي كوان يو، فمن يجرؤ على الفساد في هذه الحالة. إن نقطة قوة لي كوان لم تكن السياسة الاقتصادية التي انتهجها، فأي خطة بالإمكان أن تعدّل وتراجع وتصحّح، بل تجسّدت في حرصه المستمر على محاربة الفساد، وخاصة الفساد الإداري، والقطيعة مع البيروقراطية، وفسح المجال للمستثمرين الأجانب (وليس كما هو الحال عندنا مع الشبّيحة، من أفراد أو أحزاب معروفة، على كل فردٍ أو مجموعة أرادت الإستثمار في أرجاء الوطن)، وفتح الباب أمام المهاجرين من النخب العلمية للعودة الى الديار والمشاركة في بناء الوطن (وماذا فعلنا بلبنان؟ كل ما نرى في لبنان من فساد وارتباك وفوضى وتدهور نشأ من عدم شعور الحثالة، من ما يسمّى بالسياسيين، بالواجب، لأنهم بالحقيقة سفلة ونصّابين من الطراز الأول، اعتمدوا على تعيين كلاب لهم في الوزارات والإدارات والمؤسسات لإبداء مصالهم على حساب مصلحة الوطن). من المعلوم أن أهم عناصر قوة الأمة: جودة تعليمها (وأين أضحى مستوى التعليم في لبنان اليوم؟)، ونزاهة قضائها (من المعلوم أن النظام السياسي الفاسد، كما هو الحال عندنا، يبحث دوماً عن قضاء فاسد مثله، كي يغطّي على فساده، ويبرئ ساحته، ويخلي طرفه من أي تهمة!) وحسن اختيار قادتها (وأين نحن من هؤلاء القادة؟ لدينا للأسف خارجين عن القانون شاء القدر أن يضعهم في مراكز المسؤولية وهم منها برّاء!) ومحاربة الفساد على كلّ مستوى (وماذا يمكن أن نقول عن إدارات ومؤسسات الـ لادولة التي أضحت مرتعاً للفاسدين والمفسدين والتبعية!)
يصّح في من أوصل لبنان الى الحالة التي هو فيها اليوم ما جاء أيضاً في قول الشاعر الكبير محمد مطر، مع بعض التعديلات البسيطة من هنا وهناك:
الحاكمون هم الكلاب؛ مع اعتذاري
فالكلاب حفيظة لوفاء
وهم اللصوص القاتلون العاهرون
وكلهم عبد بلا استثناء
إن لم يكونوا ظالمين فمن ترى
ملأ البلاد برهبة وشقاء
إن لم يكونوا خائنين فكيف
ما زال لبنان بيد الخونة والأعداء
ثلاثون عاماً والبلاد رهينة
للمخبرين وحضرة الخبراء
ثلاثون عاماً والشعب يفيق من
غفواته ليصاب بالإغماء
ثلاثون عاماً والمواطن ما له
شغل سوى التصفيق للزعماء
ثلاثون عاماً والمفكّر إن حكى
وهبت له طاقية الإخفاء
ثلاثون عاماً والسجون مدارس
منهاجها التنكيل بالسجناء
ثلاثون عاماً والقضاء منزّه
إلا من الأغراض والأهواء
فالدين معتقل بتهمة كونه
متطرفاً يدعو إلى الضراء
والله في كل البلاد مطارد
لضلوعه بإثارة الغوغاء
ثلاثون عاماً والنظام هو النظام
مع اختلاف اللون والأسماء
تمضي به وتعيده حثالة
تستبدل العملاء بالعملاء
واحسراتاه على لبنان وما حل به من منظومة فاسدة عشنا معها سنوات من الخداع، صُدّق فيها الكاذب وكُذّب فيها الصادق، وائتمن فيها الخائن وخوّن فيها الأمين، ونطق فيها الرويبضة (أي الرجل التافه الذي يتكلّم في الشأن العام). انظروا فقط إلى الأحداث والوقائع، واسمعوا إلى الإعلام وتابعوا لتروا الأهوال وانقلاب الموازين وتغيّر الأحوال على جميع المستويات في هذا اللبنان … لبنانهم النتن والقذر على شاكلتهم! بئس هذا الزمان حيث الصادق الأمين يقال عنه كاذب خائن، والكذاب الأفاك يقال عنه أمين صادق، والناصح المخلص يسجن ويهان ويدان، والعميل الخائن يصفّق له ويرفع على الأكتاف ويصان، والمؤمن التقي يُعتبر إرهابياً متخلّفاً، والفاجر الفاسق الشقي يصنّف بالإنسان الشريف والمواطن الصالح. لعنة الّله على هذا اللبنان … لبنانهم … لبنان الواحة الخصبة “للفساد” والدولة الاكثر فساداً في العالم! لبنان الضياع والخراب! في هذا الزمن الرديء بامتياز، شطارة وبطولة الحكّام السفلة هما بالتأجيج والصراخ والنباح والتهديد والوعيد والتصعيد وإثارة التأزيم والنهب والسرقة وغض النظر عن الفساد وذل المواطنين على الطرقات وفي معاملاتهم مع المؤسسات والإدارات العامة.
في الختام، عاشت المارونية السياسية ورحم الّله رجالاتها، من أمثال الرئيسين كميل نمر شمعون وفؤاد شهاب، ولعنة الله على هذا الزمن، زمن الرعاع والقذارة والحماقة والحقارة والابتزاز وإثارة النعرات والفتن والتضليل، حيث بات المواطن، المنهوب بجنى عمره، يعيش نار التفجيرات السياسية والإخبارية المدسوسة، والطائفية والفئوية، والمخابراتية.
ملاحظة: ما ورد في المقال يُعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب.