د. الياس ميشال الشويري
قال نيلسون مانديلا، زعيم الجنوب الإفريقي الذي كرّس حياته للنضال من أجل الحرية والمساواة، قال ذات يوم: “الفاسدون لن يبنوا وطناً، إنما يبنون ذاتهم ويفسدون أوطانهم.” هذه الحكمة تختصر جوهر التحديات التي تواجه الدول في محاولاتها لبناء مجتمعات مستقرة وعادلة. من خلال تجربته الفريدة، قدّم مانديلا نموذجاً عالمياً في القيادة المخلصة والمتجرّدة من الأنانية، مؤكداً أن بناء الأوطان يحتاج إلى قادة نزيهين يتجاوزون مصالحهم الشخصية.
فماذا يمكن أن نقول عن الحثالة التي حكمت لبنان منذ تسعينات القرن الماضي ولغاية تاريخه؟
يهدف هذا المقال إلى استكشاف أبعاد هذه المقولة، من خلال تحليل آثار الفساد على بناء الوطن، واستعراض مفهوم التجرّد في القيادة، مع ربط ذلك بالواقع اللبناني الذي يشهد أزمات عميقة جراء الفساد وسوء الإدارة.
1-الفساد كمشكلة مركزية في بناء الوطن
الفساد هو استغلال السلطة أو الوظيفة العامة لتحقيق منافع شخصية على حساب المصلحة العامة. يشمل ذلك الرشوة، المحسوبية، وسوء استغلال الموارد. عندما يسيطر الفساد على الأنظمة السياسية والإدارية، تصبح الدولة عاجزة عن تحقيق التنمية المستدامة، ممّا يؤدي إلى تآكل مؤسساتها وضعف أدائها. على الصعيد الاجتماعي، يساهم الفساد في تعزيز الفجوة بين الفقراء والأغنياء، ما يولّد شعوراً بالظلم والإقصاء، ويزيد من احتمالات اندلاع الصراعات الأهلية.
تؤكّد تقارير البنك الدولي ومنظمات الشفافية الدولية أن الدول التي ينتشر فيها الفساد، مثل لبنان، تشهد معدلات منخفضة من الاستثمار الأجنبي والتنمية الاقتصادية. يؤدّي هذا إلى تراجع الخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم، ممّا يضّر بشكل مباشر بجودة حياة المواطنين ويعوق تطوّر الأجيال القادمة.
ركّز مانديلا في حكمته على أن الفاسدين يسعون لبناء مصالحهم الشخصية على حساب بناء الوطن. عندما تُستغّل المناصب لتحقيق مكاسب فردية، كما هو واقع الحال في لبنان، تُهدر الموارد التي كان من المفترض أن توجّه إلى تطوير البنى التحتية وتعزيز الإنتاجية الوطنية. في مثل هذه الحالات، تتحوّل الدولة إلى أداة لخدمة نخبة صغيرة من المسؤولين الفاسدين وأصحاب النفوذ، بينما تبقى الأغلبية تعاني من الفقر والتهميش.
وتتجلّى هذه الظاهرة بشكل واضح في العديد من البلدان النامية، كما هو واقع الحال في لبنان، حيث يستخدم الفاسدون من السياسيين المال العام لتعزيز سلطتهم وتوطيد نفوذهم. النتيجة الحتمية لذلك هي انهيار الثقة بين الشعب والدولة، ما يضعف الروح الوطنية ويدفع الشباب للهجرة بحثاً عن فرص أفضل.
2- التجرّد في القيادة كشرط لبناء الوطن
نيلسون مانديلا هو تجسيد حي للقيادة المتجرّدة. بعد عقود من النضال ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، لم يسعَ مانديلا للانتقام أو تحقيق مصالح شخصية بعد خروجه من السجن. بدلاً من ذلك، عمل على تحقيق المصالحة الوطنية، مؤسّساً دولة ديمقراطية تقوم على العدالة والمساواة.
عندما انتُخب رئيساً لجنوب أفريقيا، أدار الحكم بتجرّد تام، مع التركيز على إعادة بناء بلاده اقتصادياً واجتماعياً. وبعد فترة رئاسية واحدة، تخلّى عن السلطة طوعاً، في خطوة تعكس إدراكه العميق أن القيادة ليست هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لخدمة الشعب. تجرد مانديلا من الطموحات الشخصية، ليُعلّم العالم درساً في النزاهة والإيثار.
في المقابل، يفتقر العالم العربي بشكل عام ولبنان بشكل خاص في كثير من الأحيان إلى نموذج القيادة المتجردة. غالباً ما يتشبّث الحكّام بالسلطة، مستخدمين موارد الدولة لتعزيز سلطاتهم وتوريثها. هذا التمسّك المَرَضي بالسلطة يؤدّي إلى انهيار مؤسسات الدولة وتحويلها إلى أدوات قمع واستنزاف.
غياب التجرّد في القيادة يجعل من المستحيل بناء دولة تقوم على العدالة والتنمية. في لبنان، على سبيل المثال لا الحصر، يُوظّف المال العام لخدمة المنظومة السياسية، بينما تُترك الأغلبية تعاني من أزمات متكررة في الصحة، التعليم، والبنية التحتية. النتيجة هي تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ممّا يجعل الشعوب عرضة لمزيد من الاستغلال والتبعية.
3-إسقاطات على الواقع العربي
تشير الدراسات إلى أن الفساد هو أحد الأسباب الرئيسية وراء تعثّر التنمية في العالم العربي. في لبنان، على سبيل المثال، أدت عقود من الفساد وسوء الإدارة إلى انهيار الاقتصاد والبنى التحتية، وتفاقم الأزمات الاجتماعية. في اليمن وليبيا وسوريا، كان الفساد أحد الأسباب الجذرية التي ساهمت في تأجيج الصراعات وتحويل هذه الدول إلى ساحات للفوضى.
عندما تصبح المصالح الفردية فوق المصالح الوطنية، يتحول الوطن إلى ضحية للطموحات الشخصية. هذا يُفقد الدولة قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية، ممّا يؤدّي إلى تزايد معاناة المواطنين وانتشار الفقر.
إن التجربة الأفريقية بقيادة مانديلا تمثّل مثالاً يمكن للعالم العربي استلهامه. هناك حاجة ملحة لقادة ملتزمين بالعمل من أجل شعوبهم، مستعدين للتخلّي عن السلطة إذا تطلبت مصلحة الوطن ذلك. بناء الأوطان يتطلّب قيادات شجاعة تتبنّى النزاهة والتضحية، وتعمل على بناء مؤسسات قوية قادرة على الصمود في وجه التحديات.
- الخاتمة
إن مقولة مانديلا: “الفاسدون لن يبنوا وطناً، إنما يبنون ذاتهم ويفسدون أوطانهم” تمثّل دعوة لكل المجتمعات لإعادة النظر في طبيعة قياداتها ونهجها السياسي. الفساد هو العدو الأول لأي مشروع وطني، لأنه يقوّض أسس الدولة ويعمّق معاناة الشعوب. في المقابل، يمثّل التجرّد في القيادة السبيل الوحيد لبناء دولة قوية ومستدامة.
في ظل الأزمات المتفاقمة التي يشهدها العالم العربي، يبقى استلهام حكمة مانديلا ضرورة قصوى. إن بناء الأوطان يحتاج إلى قادة يتصفون بالنزاهة والتجرّد، يعملون بإخلاص من أجل مستقبل أفضل لشعوبهم. دون ذلك، ستبقى الدول تعاني من الفساد والفوضى، كما هو واقع الحال في لبنان، وسيبقى حلم بناء الوطن الحقيقي بعيد المنال.