من التظاهرات التي بقيَتْ مشهداً
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، الدولة التي كانت توصف بأنها جسر بين الشرق والغرب، وشهد تاريخه فترات من الازدهار والانفتاح على العالم، أصبح اليوم مرهوناً لأزمة متعددة الأبعاد، تسببت فيها خيانة بعض القيادات السياسية. هؤلاء السياسيون الفاسدون الذين باعوا ضمائرهم للمصالح الخارجية ساهموا في تفاقم الانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي يعاني منه الشعب اللبناني. العزلة العربية والدولية التي يواجهها لبنان هي نتيجة مباشرة لتواطؤ هذه المنظومة الفاسدة والحقيرة بامتياز مع قوى خارجية لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، ما أدى إلى قمع الحريات وجر البلاد إلى هاوية الفقر والذل. في هذا المقال، سنناقش مسألة خيانة الحكام وتأثيراتها العميقة على الشعب اللبناني، وكيفية تعامل الشعب مع هذا الوضع، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه المصالح الخارجية في استمرار الأزمة.
1-مفهوم الخيانة السياسية وعلاقات الحكام بالمصالح الخارجية.
–تعريف الخيانة السياسية. الخيانة السياسية تتمثل في انحراف القادة السياسيين عن مصالح شعوبهم ووطنهم لتحقيق مصالح ذاتية أو أجنبية. في حالة لبنان، تعمّقت هذه الخيانة من خلال تحالفات غير مشروعة مع قوى خارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية. هذه التحالفات تؤثر بشكل مباشر على سيادة الدولة وتضعف قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة تصب في مصلحة الشعب.
في السياق اللبناني، ظهر هذا النوع من الخيانة على مدار العقود الأخيرة، حيث استغلت القوى الخارجية الوضع السياسي الطائفي المعقد لفرض نفوذها، فيما قَبِل القادة السياسيون الفاسدون بذلك مقابل تعزيز نفوذهم الشخصي.
–التحالفات الخارجية وتأثيرها على القرار الوطني. لبنان هو ساحة صراع دولية وإقليمية منذ عقود، حيث تتنافس دول متعددة على النفوذ فيه. بعض السياسيين اللبنانيين تحالفوا مع هذه الدول لضمان بقائهم في السلطة أو لتحقيق مكاسب مالية. هذه التحالفات أدت إلى انقسامات سياسية داخلية وزادت من حدة الأزمات الطائفية. أبرز التحالفات تمثّلت في ارتباط بعض الفصائل السياسية اللبنانية بقوى إقليمية مثل إيران وسوريا، ما أدى إلى تآكل سيادة الدولة وتحييد المؤسسات الوطنية لصالح أجندات خارجية.
النتيجة كانت ضعف قدرة لبنان على التفاوض بحرية مع المجتمع الدولي والعربي، مما أدى إلى عزله وتفاقم الأزمات الداخلية. بدلاً من أن يكون القرار السياسي مستقلاً ويعكس إرادة الشعب اللبناني، أصبح مرهوناً لتلك القوى الخارجية، مما زاد من تدهور الثقة بين الحاكم والمحكوم.
2-تأثير خيانة الحكام على الشعب اللبناني.
–تفاقم الفقر والانهيار الاقتصادي. نتيجة للخيانة السياسية والانخراط في مصالح خارجية، تدهور الاقتصاد اللبناني بشكل غير مسبوق. المصالح الأجنبية لم تكن تهدف إلى إنعاش الاقتصاد اللبناني أو تحسين أوضاعه الاجتماعية، بل ركزت على استنزاف موارده ودعمت المنظومة الفاسدة. هذا التواطؤ الخارجي مع القيادات السياسية المحلية أدى إلى سرقة المال العام، وتدهور البنية التحتية، وانهيار النظام المصرفي.
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، تزايدت معدلات الفقر بشكل مخيف. حوالي 80% من اللبنانيين يعيشون اليوم تحت خط الفقر. الطبقة الوسطى التي كانت تشكل العمود الفقري للمجتمع اللبناني، تلاشت تقريباً، بينما يزداد الأثرياء، الذين يمثلون نسبة ضئيلة من السكان، ثراءً بفضل ارتباطاتهم الفاسدة بالنظام السياسي. هذه الطبقة الحاكمة استفادت من علاقاتها الخارجية لإخفاء ثرواتها وتهريبها إلى الخارج، مما جعل الأزمات المالية والاجتماعية أكثر تعقيداً.
–القمع وتكميم الأفواه. من أبرز نتائج الخيانة السياسية في لبنان كان قمع الحريات. الحراك الشعبي الذي اندلع في تشرين الأول 2019 كان تعبيراً صريحاً عن غضب الشعب اللبناني تجاه المنظومة السياسية الفاسدة، التي كانت تسعى لإسكات هذا الصوت الشعبي بكل الوسائل الممكنة. بدلاً من أن تكون الدولة داعمة لحرية التعبير والحوار الديمقراطي، لجأت إلى استخدام الأجهزة الأمنية للقمع وتكميم الأفواه.
العديد من الناشطين والصحفيين واجهوا التهديدات والاعتقالات بسبب محاولاتهم كشف فساد المنظومة الحاكمة. هذه الممارسات القمعية تؤكد أن النظام السياسي في لبنان لا يخدم مصالح الشعب، بل مصالح القلة المسيطرة، والتي ترتبط بشكل مباشر بأجندات خارجية تهدف إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، لتستفيد تلك القوى من ضعف الدولة وانعدام الاستقرار.
–العزلة العربية والدولية. التواطؤ مع الخارج أدى إلى تدهور علاقات لبنان مع المجتمع العربي والدولي. الدول العربية، التي كانت يوماً ما داعمة للبنان مالياً وسياسياً، انسحبت تدريجياً بسبب تدخلات قوى إقليمية. هذه العزلة جعلت لبنان عرضة لتداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة، حيث فقد الدعم المالي والاستثماري من الدول العربية التي كانت تعتبر الشريان الاقتصادي للبنان.
عزلة لبنان على الساحة الدولية أدت أيضاً إلى فقدان الدعم الاقتصادي الدولي. المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أصبحت مترددة في تقديم المساعدات للبنان بسبب الفساد والفشل في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. هذا الوضع جعل الاقتصاد اللبناني في حالة شلل، غير قادر على النهوض أو التعافي.
3-الخيارات المتاحة للشعب اللبناني.
–الثورة الشعبية كخيار للتغيير. في ظل هذا الوضع المزري، يبقى للشعب اللبناني خيار وحيد للتغيير وهو الثورة الشعبية السلمية. الاحتجاجات التي اندلعت في 2019 كانت خطوة أولى نحو هذا التغيير، حيث عبّر اللبنانيون عن غضبهم من الفساد السياسي والانهيار الاقتصادي. مع ذلك، قمع هذه الاحتجاجات وضع تحديات جديدة أمام الشعب.
الثورات السلمية تبقى الخيار الأنسب لإحداث تغيير جذري، ولكنها تحتاج إلى تنظيم أفضل واستراتيجية واضحة. من المهم أن تتوحد الجهود حول مطالب محددة مثل محاربة الفساد، استعادة الأموال المنهوبة، والإصلاح السياسي الشامل. الشعب اللبناني أثبت مراراً أنه يمتلك الوعي السياسي، ولكن النجاح يتطلب الاستمرار في الضغط على النظام الحاكم وعدم السماح للقوى الفاسدة بالاستمرار في السيطرة.
–استعادة الأموال المنهوبة. استعادة الأموال المنهوبة هي خطوة أساسية في أي خطة إصلاح. تشير التقديرات إلى أن مليارات الدولارات تم تهريبها إلى الخارج خلال السنوات الماضية من قبل المنظومة السياسية. هذه الأموال، إذا تم استعادتها، يمكن أن تساهم بشكل كبير في إعادة بناء الاقتصاد ودعم المشاريع التنموية التي يحتاجها لبنان بشدة.
ولكن هذه العملية تتطلب تعاوناً دولياً ومتابعة دقيقة. إنشاء لجان تحقيق دولية ومحلية يمكن أن يكون وسيلة فعالة لاستعادة هذه الأموال. كما يجب تعزيز دور القضاء اللبناني ليكون مستقلاً وغير خاضع للتأثيرات السياسية.
–بناء نظام سياسي جديد. النظام الطائفي الذي يحكم لبنان منذ عقود أثبت فشله. يجب أن يكون هناك حوار وطني شامل يهدف إلى بناء نظام سياسي جديد يقوم على الكفاءة والشفافية بعيداً عن المحاصصة الطائفية. هذا النظام يجب أن يعزز الديمقراطية الحقيقية ويحترم حقوق الإنسان والحريات.
تحقيق هذا الهدف يتطلب إرادة سياسية قوية، بالإضافة إلى دعم دولي للتأكد من أن الإصلاحات تنفذ بشكل فعال ومستدام. النظام الجديد يجب أن يكون قادراً على التفاوض مع المجتمع الدولي لاستعادة مكانة لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة.
4- دور القوى الخارجية في استمرار الأزمة اللبنانية.
–التدخلات الإقليمية والدولية. لبنان كان ولا يزال ساحة تنافس بين القوى الإقليمية والدولية. التدخلات الإقليمية، خاصة من إيران وسوريا، ساهمت في تعميق الانقسامات الداخلية وزيادة الفساد. هذه القوى تستفيد من النظام الطائفي لتعزيز نفوذها في البلاد.
على المستوى الدولي، القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا أيضاً تلعب دوراً في تحديد مسار الأزمة اللبنانية. توازنات القوى الإقليمية والدولية تجعل من الصعب على لبنان اتخاذ قرارات مستقلة، حيث تبقى المصالح الخارجية جزءاً من المعادلة السياسية الداخلية.
–العلاقات مع الدول العربية. الدول العربية، خاصة دول الخليج، كانت في الماضي الداعم الأساسي للاقتصاد اللبناني. ومع ذلك، تدهورت العلاقات بين لبنان وهذه الدول بسبب تحالفات بعض الفصائل اللبنانية مع قوى إقليمية معادية لهذه الدول. هذه العزلة العربية زادت من الضغوط على لبنان وأضعفت قدرته على الخروج من أزمته.
استعادة العلاقات مع الدول العربية يعتبر أمراً ضرورياً لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي في لبنان. يجب أن يكون هناك حوار سياسي جاد يهدف إلى إعادة بناء الثقة بين لبنان والدول العربية على أسس جديدة بعيداً عن التدخلات الإقليمية السلبية.
5-الخاتمة.
لبنان يقف اليوم على مفترق طرق. الخيانة السياسية والتواطؤ مع الخارج أديا إلى تدمير البلاد اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. الشعب اللبناني يعاني من الفقر والقمع والعزلة، ولكن الأمل في التغيير لا يزال موجوداً. الشعب اللبناني قادر على إحداث التغيير من خلال الوحدة والضغط المستمّر من أجل الإصلاحات ومحاربة الفساد. استعادة الأموال المنهوبة وبناء نظام سياسي جديد قائم على الشفافية والكفاءة هما الخطوتان الأساسيتان لإنقاذ لبنان من الانهيار الكامل.