التركيز دائماً على الطلاب
د. الياس ميشال الشويري
البحث العلمي والتطوير الأكاديمي هما الأساس الذي تعتمد عليه المجتمعات لتحقيق التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي. فمنذ بداية البشرية، كان الإنسان دائمًا يسعى إلى فهم العالم من حوله، وتحليل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، ومن ثم تطبيق هذه المعرفة لحل المشكلات التي يواجهها في حياته اليومية. ومع تطوّر الحضارات، أصبحت مؤسسات التعليم العالي والجامعات حجر الزاوية في هذا السعي، حيث تجمّعت العقول الفذّة للبحث والدراسة وتوليد الأفكار الجديدة.
في الدول المتقدمة، يُعدّ البحث العلمي مكوّنًا رئيساً في بنية الاقتصاد الوطني، لأنها تدرك أن الاستثمار في البحث والتطوير ليس مجرد رفاهية، بل هو ضرورة للبقاء في صدارة المنافسة العالمية. ولذلك، تقوم بإنشاء مراكز بحثية متخصّصة تتولّى مهام تطوير العلوم والتكنولوجيا، وتطبيق نتائج الأبحاث في مجالات مثل الصناعة، الطب، الزراعة، والطاقة. هذه المراكز البحثية لا تعمل بمعزل عن الجامعات؛ بل تكون غالبًا جزءًا لا يتجزأ منها، حيث يتعاون الأكاديميون والباحثون معًا لتطوير حلول مبتكرة لمواجهة التحديات الحديثة.
على سبيل المثال، تقود الجامعات الكبرى في العالم مشاريع بحثية ضخمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، علم الجينوم، وتقنيات الطاقة المتجدّدة. هذه الأبحاث لا تظلّ حبيسة الأروقة الأكاديمية، بل تجد طريقها إلى السوق من خلال الشراكات مع الصناعات والشركات. هذا التعاون بين الأكاديميا والصناعة يُعرف بـ “نقل التكنولوجيا”، وهو عملية حيوية تُسهم في تحويل الاكتشافات العلمية إلى منتجات وخدمات تجارية تساهم في تحسين نوعية الحياة.
علاوة على ذلك، تستفيد المجتمعات من البحث العلمي ليس على المستوى الاقتصادي فقط، بل على الصعيد الاجتماعي والثقافي أيضاً. فعندما تساهم الجامعات في تعزيز البحث العلمي، فإنها تعمل على تكوين جيل من المفكرين والقادة الذين يمتلكون الأدوات والمعرفة اللازمة لمواجهة تحديات المستقبل. هذه العملية لا تساعد فقط في حل المشكلات القائمة، بل تُعّد أجيالًا جديدة قادرة على التكيّف مع المتغيرات السريعة في عالمنا اليوم.
في المقابل، فإن الدول التي تهمل البحث العلمي والتعليم العالي، غالبًا ما تجد نفسها متخلّفة عن الركب. فبدون دعم البحوث الأكاديمية والتطبيقية، يصبح من الصعب تحقيق تقدم اقتصادي ملموس أو تحسين جودة الحياة للمواطنين. كما أن الفجوة بين هذه الدول والدول المتقدمة تتسّع مع مرور الوقت، ما يؤدي إلى تبعية اقتصادية وتكنولوجية قد تكون صعبة التدارك.
من هنا، تبرز أهمية أن تتبنّى الحكومات والمؤسسات التعليمية في جميع أنحاء العالم سياسات تشجّع على البحث العلمي، وتخصّص له الموارد اللازمة. فالاستثمار في العقول الشابة وتوفير البيئة المناسبة للبحث والدراسة هو استثمار في مستقبل المجتمع بأسره. وبهذا، يُمكن تحقيق توازن بين التقدّم التكنولوجي والمعرفة العلمية من جهة، وبين العدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي من جهة أخرى.
بناء على ما تقدّم، يمكن القول إن البحث العلمي هو القوة الدافعة التي تُمكّن المجتمعات من تحقيق أهدافها الطموحة، وتضمن أن تظلّ في مسار التقدّم والابتكار. ولتحقيق ذلك، يجب أن يكون هناك التزام جماعي من الحكومات والمؤسسات التعليمية والصناعات لدعم البحث العلمي وتطوير التعليم العالي، بما يحقّق مصلحة الجميع.
“إسرائيل“، على سبيل المثال لا الحصر، تبنّت نموذجًا أكاديميًا مستوحى من النظام الألماني، المعروف بتركيزه الشديد على البحث العلمي والدراسات العليا. هذا النموذج، الذي يتّسم بطابع نخبوي، جعل من الجامعات الإسرائيلية مراكز متقدمة للبحث والتطوير، حيث يتم التركيز على إنتاج المعرفة الجديدة والابتكار.
شخصيات بارزة مثل “حاييم وايزمان“، الذي كان أول رئيس لدولة إسرائيل وعالم كيمياء مرموق، لعبت دورًا مهمًا في تشكيل النظام الأكاديمي الإسرائيلي. وايزمان، الذي كان لديه خلفية أكاديمية قوية، أدرك مبكرًا أهمية البحث العلمي في بناء دولة قوية ومزدهرة. لقد سعى إلى تأسيس مؤسسات تعليمية تركّز على البحوث العلمية المتقدمة، ما ساهم في تطوير الجامعات الإسرائيلية لتصبح من بين الأفضل في العالم في مجالات مثل التكنولوجيا والهندسة والعلوم الطبيعية.
هذا التوجّه الأكاديمي كان له دور كبير في دفع عجلة الابتكار في إسرائيل، مما جعلها واحدة من الدول الرائدة عالميًا في مجالات التكنولوجيا العالية والبحث العلمي. تجدر الإشارة الى أن الجامعات الإسرائيلية تعتمد على تمويل حكومي سخيّ، بالإضافة إلى شراكات مع القطاع الخاص، ما يوفّر بيئة خصبة للبحث والتطوير، والنتيجة نظام أكاديمي يولد ابتكارات تعزّز الاقتصاد الوطني وتجعل من إسرائيل لاعبًا رئيساً في الاقتصاد العالمي.
لقد استفادت إسرائيل بشكل كبير من نظام تعليمي يركّز على العلم والتكنولوجيا، مدعوم بتشكيلة متنوّعة من مؤسسات التعليم العالي والمراكز البحثية المتخصصة التي لم تقتصر على التعليم فقط، بل كانت مهيأة بشكل جيّد لإعداد أجيال جديدة من المبتكرين والباحثين، ما حوّل طاقاتها البشرية إلى قوة علمية وتكنولوجية هائلة. وبفضل هذا التركيز على التعليم والبحث، تمكنّت إسرائيل من تحقيق مكانة متقدّمة على الساحة الدولية، حيث أصبحت من بين الدول الرائدة في مجال التكنولوجيا المتقدمة. تجدر الإشارة الى أن إسرائيل تحتل المركز الثالث عالميًا في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، بعد “وادي السليكون” في كاليفورنيا وبوسطن، والمركز الخامس عشر في إنتاج الأبحاث والاختراعات. عندما يُؤخذ في الاعتبار عدد سكانها ومساحتها، تحتل إسرائيل المرتبة الأولى عالميًا من حيث إنتاج البحوث العلمية. هذا الإنجاز يعكس نجاح النموذج التعليمي الإسرائيلي، الذي يربط بين التعليم العالي والبحث العلمي، وبين الابتكار التكنولوجي والتنمية الاقتصادية.
إسرائيل تولي البحث العلمي أهمية كبيرة، حيث يصدر الكنيست (أو مجلس النوّاب)، باعتباره أعلى هيئة تشريعية، قوانين وقرارات تركّز على تعزيز هذا المجال. هذه القوانين تتعرّض للتحديث بشكل دوري لتواكب التغيرات والاحتياجات المتطورة. تبدأ برامج التعليم في إسرائيل بالتوجّه نحو العلوم والتكنولوجيا منذ مراحل الطفولة المبكرة، وتركز المناهج الدراسية على مجالات مثل الرياضيات، العلوم الطبيعية، وإنجازات العلماء. هذا التوجّه لا يقتصر على التعليم النظري فقط، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسوق العمل والإنتاج، مّا يضمن أن الطلاب يتلقون تعليمًا يتناسب مع احتياجات المجتمع والصناعة. ومن خلال تعزيز فكرة الارتباط بالأرض، تدعم إسرائيل مفهوم أن التقدّم العلمي يجب أن يخدم المجتمع بشكل مباشر. أحد البرامج البارزة في هذا السياق هو “المختبر التكنولوجي”، الذي أطلقته الحكومة الإسرائيلية بهدف دعم الابتكار والذي يتيح لأصحاب الأفكار التكنولوجية المبتكرة تحويل أفكارهم إلى منتجات صناعية. الحكومة الإسرائيلية تقوم بتمويل المرحلة الأولى من هذا التحوّل، مّا يشجع على الابتكار دون تحميل المبتكرين المخاطر الاقتصادية. والى ذلك، تتولّى الحكومة أيضًا مسؤولية تقييم مدى قابلية الفكرة للتطبيق، التنفيذ، والتسويق، مما يوفّر بيئة داعمة للمبتكرين تسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني ودفع عجلة التقدم التكنولوجي في البلاد.
ماذا لو أجرينا مقارنة بين إسرائيل ولبنان؟
ففيما تمكنّت إسرائيل من بناء نموذج ناجح يعتمد على البحث والابتكار كركيزة أساسية لقوتها الاقتصادية والعسكرية، يعاني لبنان تحديات كبيرة تعيق تقدمه في هذا المجال. هذه الدراسة المقتضبة تسلّط الضوء على الفروق الجوهرية بين البلدين في مجالات التعليم والسياسات الحكومية ودعم الابتكار وريادة الأعمال، مع التركيز على الأسباب التي جعلت إسرائيل تتفوّق، والتحديات التي تواجه لبنان في سعيه لبناء اقتصاد قائم على المعرفة. من خلال هذه المقارنة، نستكشف الفرص الممكنة للبنان في استغلال إمكاناته غير المستغلة، ونقدّم توصيات لإصلاحات يمكن أن تساعد في نقل لبنان إلى مسار جديد من النمو والابتكار.
1-بالنسبة للبنية التحتية التعليمية والبحثية، ففي اسرائيل نظام التعليم متقدم يركّز على العلوم والتكنولوجيا من مرحلة التعليم الأساسي حتى التعليم العالي. وتعزّز المناهج الدراسية التفكير النقدي، المهارات العملية والابتكار. الجامعات مثل معهد التكنيون والجامعة العبرية فتقدّم برامج تعليمية متطوّرة في مجالات متعددة، ما يعزز من قدرة الطلاب على المساهمة في البحث والابتكار.
والى نظام التعليم هناك الاستثمار في البحث. فمعاهد الأبحاث في إسرائيل تتلقى تمويلًا كبيرًا من الحكومة والقطاع الخاص. البحث العلمي ليس فقط مجالًا أكاديميًا، بل هو عنصر استراتيجي يدعمه القطاع الصناعي ويعتبر أساسًا للنمو الاقتصادي والتفوّق العسكري. تمويل الأبحاث لا يقتصر على الجامعات فقط بل يشمل أيضًا مؤسسات بحثية متخصصة مثل معهد وايزمان.
بالإنتقال الى لبنان، تحديداً الى نظام التعليم، نجد أن الطلاب في بعض الجامعات الرائدة يتمتعون بتعليم جيّد يعكس التزام هذه المؤسسات تقديم برامج أكاديمية قوية. ومع ذلك، يظلّ عدد هذه الجامعات محدودًا، بحيث تُعد على أصابع اليد رغم وجود أكثر من 50 جامعة في لبنان. وبينما توفّر هذه الجامعات الرائدة تعليمًا ذا جودة، إلا أن التحدّي الأكبر يكمن في ضعف التركيز على البحث والتطوير. غياب التركيز على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي ليس فقط مسألة أكاديمية، بل هو أيضًا نتيجة لسياسات حكومية غير داعمة، وعدم وجود استراتيجيات واضحة لتعزيز الابتكار. في هذا السياق، تجد الجامعات نفسها معزولة عن التطورات التكنولوجية العالمية، وغير قادرة على المساهمة بفعالية في بناء اقتصاد قائم على المعرفة.
أما بالنسبة للإستثمار في البحث، فالتمويل محدود بشكل كبير، وعادةً ما يعتمد على المساعدات الدولية أو التمويل الخاص الذي يكون غير مستدام. نقص التمويل يعني أن معظم المشاريع البحثية تكون محدودة النطاق ولا يمكنها التوسّع أو الاستمرارية.
2- في ما خصّ السياسات الحكومية والدعم المالي، نجد أن الحكومة الإسرائيلية تسّن سياسات تهدف إلى تعزيز البحث والتطوير من خلال تقديم حوافز مالية وضريبية للشركات والأفراد الذين يستثمرون في هذه المجالات. برامج مثل “المختبر التكنولوجي” توفر دعمًا ماليًا لمراحل تطوير المشاريع، مّا يساهم في تحويل الأفكار المبتكرة إلى تطبيقات تجارية ناجحة.
والى ذلك، هناك التعاون الوثيق بين الحكومة والجامعات وبين القطاع الخاص والذي يُترجم إلى مشاريع مشتركة. استثمارات في البحث، وابتكارات تكنولوجية، ما يخلق بيئة مواتية للنمو والابتكار.
أما في لبنان، فهناك نقص في التمويل الحكومي للبحث والتطوير يعيق تقدّم القطاع، فضلاً عن أن الأزمات الاقتصادية والسياسية تؤدي إلى تقليص الميزانيات المخصّصة للتعليم والبحث، ما يعني أن السياسات الحكومية تفتقر إلى الاستمرارية والتركيز على دعم الابتكار. ثم هناك التحديات الإدارية المتمثلة بالفساد والبيروقراطية وهما يشكلان تحديات رئيسية تجعل من الصعب تطبيق سياسات فعّالة لدعم البحث العلمي. وبديهي أن الإجراءات الإدارية المعقّدة تؤدي إلى تأخيرات في تنفيذ المشاريع وتقليل فعالية الدعم المقدم للبحث والابتكار.
3-الابتكار وريادة الأعمال في إسرائيل، فإن بيئة الابتكار تُعتبر واحدة من أكبر مراكز الابتكار التكنولوجي في العالم. وجود حاضنات أعمال ومسرعات للشركات الناشئة يعزّز من البيئة الريادية. الشركات التكنولوجية الناشئة تحصل على الدعم من المستثمرين المحليين والدوليين، ما يُساهم في نمو قطاع التكنولوجيا.
والى ذلك، تبني إسرائيل شراكات استراتيجية مع شركات ومؤسسات بحثية دولية، تُعزّز من قدراتها على الابتكار والتوسّع في أسواق جديدة، علماً أن التعاون الدولي يلعب دورًا كبيرًا في جذب الاستثمار والتكنولوجيا المتقدمة.
أما في لبنان، ورغم الإمكانات الكبيرة، تعاني الشركات الناشئة فيه صعوبات تتعلّق بالحصول على التمويل، البنية التحتية والدعم اللازم للنمو. فضلاً عن ذلك، فالأزمات الاقتصادية والسياسية تؤدي إلى عدم استقرار البيئة الريادية، الأمر الذي يعيق قدرة الشركات على الابتكار والتوسع.
وبالنسبة للبرامج الداعمة، فهناك مبادرات فردية ومحلية تدعم ريادة الأعمال، مثل حاضنات الأعمال والمسرعات التي تديرها منظمات غير حكومية أو شركات خاصة. ومع ذلك، لا تزال هذه المبادرات غير كافية مقارنة بما هو موجود في إسرائيل، وتحتاج إلى دعم أكبر لتوسيع نطاق تأثيرها.
4-هجرة العقول. ففي إسرائيل، يتمّ جذب العلماء والمبدعين من جميع أنحاء العالم من خلال بيئة مواتية للبحث والابتكار. برامج مثل “تساهال” تشجّع العقول المهاجرة على العودة والمساهمة في النمو الاقتصادي والتكنولوجي. كذلك تشجّع الحكومة على عودة هذه العقول المهاجرة، بتوفير فرص عمل متقدّمة ومزايا تنافسية، ما يساهم في تعزيز القدرة الابتكارية للبلاد.
أما في لبنان، فالأمر هو خلاف ذلك. هناك مشكلة اسمها “هجرة العقول”، وهؤلاء من العلماء والمهنيين بحثًا عن فرص أفضل. هذا الاستنزاف يحد من القدرة على تحقيق التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، حيث يفقد لبنان الكثير من المواهب والابتكارات.
5-حوكمة الجامعات. ففي اسرائيل، نموذج للحوكمة يقول على:
-استقلالية وشفافية، بحيث تتمتع الجامعات بقدر كبير من الاستقلالية الأكاديمية والإدارية. فضلاً عن أن نظاماً واضحاً للمساءلة والشفافية في إدارتها، يضمن جودة التعليم والبحث.
-مجالس إدارة مستقلة في هذه الجامعات تتولى مسؤوليات اتخاذ القرارات الاستراتيجية، وصولاً الى تعزيز قدراتها على التكيف مع التغيرات وتلبية احتياجات السوق.
-التعاون مع القطاع الخاص تلبية لمتطلبات السوق ودمج البحث العلمي مع التطبيقات العملية.
أما تأثير الحوكمة فيطاول:
-جودة التعليم، اذ أن الاستقلالية والشفافية تساهم في تحسين هذه الجودة لأن المناهج والبرامج الدراسية تتماشى مع أحدث التطورات العلمية والتكنولوجية.
-البحث والابتكار بفضل بيئة داعمة توفّر التمويل الكافي. فضلاً عن أن التعاون مع الصناعات يعزز من قدرة الجامعات على تقديم مساهمات قيمة في مجال البحث والتطوير.
-التوظيف والتمويل ان القدرة على جذب التمويل والتعاون مع القطاع الخاص تعزز من الموارد المتاحة للجامعات، مما يساهم في تحسين البنية التحتية وتعزيز فرص التعليم والبحث.
بالإنتقال الى لبنان، نجد أن نموذج الحوكمة في الجامعات غالبًا ما يعاني من المركزية والفساد، وهو ما يؤثر سلبًا في جودة الإدارة الأكاديمية والمالية. ان الافتقار إلى الشفافية والمساءلة يعيق فعالية الحوكمة.
ثم هناك محدودية الموارد. فالجامعات في لبنان تواجه صعوبات في تأمين التمويل الكافي بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية، ما يؤثر في قدرتها على تقديم تعليم عالي الجودة واستثمار في البحث العلمي.
والى ذلك، يجب أن لا ننسى تحديات الإدارة، أي ضعف النظام الإداري في العديد من الجامعات الذي يعوق قدرة المؤسسات التعليمية على تنفيذ استراتيجيات فعّالة وتحقيق أهدافها الأكاديمية.
ان ما تقدم يؤثر في جودة التعليم بسبب ضعف القدرة على تحديث المناهج والبرامج الدراسية وفقًا لاحتياجات السوق والتطورات العلمية. وفي موضوع البحث والابتكار، فإن قلة التمويل والتعاون المحدود مع القطاع الخاص يُقيّدان قدرة الجامعات اللبنانية على القيام بأبحاث علمية مبتكرة وتحقيق تقدم في المجالات التكنولوجية.
وينسحب الأمر على التوظيف والتمويل، ذلك أن المشكلات الإدارية والفساد يؤثران على قدرة الجامعات على جذب التمويل اللازم، ما يعيق تحسين البنية التحتية وفرص التعليم.
6-استراتيجيات الابتكار العسكري. اسرائيل تستثمر بشكل كبير في الابتكار العسكري، اذ تُدمج التكنولوجيا العسكرية في القطاع المدني. هذا التكامل يساهم في تطوير تقنيات جديدة تجد تطبيقات تجارية، ما يعزّز من النمو الاقتصادي والتفوق العسكري. وتقوم هذه الإستراتيجيات على:
-الأبحاث والتطوير. فإسرائيل تُنفذ أبحاثًا متقدمة في مجالات مثل الدفاع السيبراني والطائرات بدون طيار، ما يُمكّنها من الحفاظ على تفوقها التكنولوجي في منطقة مضطربة.
أما في لبنان، فالأمر مختلف لأنه يفتقر إلى القدرات والموارد لتطوير تكنولوجيا عسكرية محلية. كما أن الاعتماد على المساعدات الخارجية والمعدات المستوردة يحدّ من القدرة على الابتكار في هذا المجال. الوضع الأمني المتقلّب والموارد المحدودة يحصلان من الصعب تطوير أو دعم مشاريع تكنولوجية عسكرية.
في الخاتمة، وفي ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بلبنان، تبرز الحاجة الملحة إلى تغيير جذري في طريقة دعم التعليم. لا يكفي أن تقتصر الجهود على إنشاء جامعات جديدة، تجارية بمجملها، دون توفير بيئة تعليمية تدعم فعليًا البحث والتطوير وتواكب متطلبات سوق العمل. إن نجاح النظام التعليمي لا يعتمد على زيادة عدد المؤسسات التعليمية (التي تبغي الربح فقط)، بل على جودة التعليم والتزام الحكومات بتوفير الموارد اللازمة، وتعزيز برامج البحث العلمي، وربط التعليم بالاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية.
من جهة أخرى، لقد لمست كأستاذ محاضر في عدد لا يستهان به من الجامعات، كيف أن العديد من الطلاب يواجهون صعوبات كبيرة في الاستفادة من التعليم العالي في لبنان بالشكل الذي يحقّق لهم النجاح والتميّز. هذه الصعوبات لا تتعلّق فقط بعدم توافق البرامج الأكاديمية مع احتياجات سوق العمل، ولكن أيضًا بمستوى التحضير الأكاديمي للطلاب قبل دخولهم الجامعات. الواقع المرير هو أن كثيراً من الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات يفتقرون إلى الأسس التعليمية الضرورية التي تمكّنهم من الاستفادة الفعّالة من برامج التعليم العالي. الأسباب متعددة، بدءًا من ضعف التحضير الأكاديمي في المدارس الثانوية، وصولاً إلى غياب البرامج التدريبية التي تعزّز مهارات التفكير النقدي والإبداع. ان هذه الفجوة تؤثر سلبًا في أداء الطلاب في الجامعات، وتجعل من الصعب عليهم التفاعل مع المحتوى الأكاديمي بشكل فعّال.
وبرأيي المتواضع، يعاني العديد من الطلاب في الجامعات اللبنانية، ضعفاً في مستواهم العلمي يجعلهم غير مستحقين لفرص التعليم العالي التي يحصلون عليها. هذه المشكلة تنبع من عدة عوامل، منها ضعف التعليم الأساسي والثانوي وغياب معايير قبول صارمة في بعض الجامعات، ما يؤدي إلى تدهور جودة التعليم العالي. النتيجة هي وجود طلاب غير مؤهلين أكاديميًا في الجامعات، مما يؤثر سلبًا جودة التعليم الجامعي سمعة المؤسسات التعليمية نفسها. يتطلّب الأمر إعادة النظر في سياسات القبول والارتقاء بمستوى التعليم الأساسي لضمان أن يكون الطلاب الجامعيون مؤهلين بشكل حقيقي لمتابعة دراساتهم العليا.
بالمقابل، هناك أساتذة في الجامعات اللبنانية لا يستحقون أن يكونوا في مجال التعليم، سواء بسبب عدم إلمامهم الكافي بالمادة التي يدرسونها أو بسبب استمالتهم الطلاب عبر منحهم درجات غير مستحقة. هذا النوع من الأساتذة يُسهم في تدهور جودة التعليم الجامعي بشكل كبير، حيث يتم تخريج طلاب دون المستوى، ما ينعكس سلباً على سمعة الجامعات وعلى مستوى الخريجين في سوق العمل. في بعض الحالات، يقوم هؤلاء الأساتذة بإنجاح الطلاب بسهولة لزيادة شعبيتهم أو لتجنّب الصراعات، وهو سلوك يتنافى مع المبادئ الأكاديمية والأخلاقية. هذا النوع من الفساد الأكاديمي يشكل تهديداً خطيراً للنظام التعليمي، ويؤدي إلى تخريج أجيال غير مهيأة لمواجهة التحديات المهنية والعلمية. لمواجهة هذه المشكلة، يجب أن تكون هناك آليات رقابة أكثر صرامة على أداء الأساتذة، وتقييمات دورية من قبل الإدارة، وليس من قبل الطلّاب، تضمن أن يكون التعليم المقدّم ذا جودة عالية وأن يتمتع الأساتذة بالكفاءة والمعرفة اللازمة للقيام بمهمتهم التعليمية على أفضل وجه.
بالإنتقال الى فروقات الكنيست الإسرائيلي ومجلس النواّب اللبناني، في ما خصّ دعم الابتكار والعلم والتكنولوجيا، نجد فروقات جوهرية فالكنيست الإسرائيلي يعمل بشكل نشط على دعم الابتكار والعلم والتكنولوجيا من خلال سياسات وتشريعات واضحة ومحددة. فضلاَ عن أن الحكومة تقدم بتحديث القوانين والسياسات بانتظام لضمان ملاءمتها مع أحدث التطورات والاحتياجات في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي.
في المقابل، يعاني مجلس النواب اللبناني ضعفاً في دعم الابتكار والعلم والتكنولوجيا والذي يعود إلى عدة عوامل منها البيروقراطية، الفساد السياسي، وضعف التخطيط الاستراتيجي.
وبالنتيجة، فإن إسرائيل، بفضل التشريعات والدعم الحكومي الموجّه، تمكنت من أن تصبح واحدة من رواد العالم في مجال التكنولوجيا والابتكار الذي يعكس استثمارًا طويل الأمد في البحث العلمي والتعليم المتخصص. أما لبنان، فعلى النقيض من البلدان التي تولي اهتماماً كبيراً لدعم البحث والابتكار كإسرائيل، فيواجه تحديات كبيرة بسبب غياب السياسات الفعالة في هذا المجال.
وفي الخلاصة، فإن الفرق الكبير بين الكنيست الإسرائيلي ومجلس النواب اللبناني في دعم الابتكار والعلم والتكنولوجيا يعود بشكل أساسي إلى الالتزام الحكومي والسياسات التشريعية. بينما يسعى الكنيست بنشاط لتعزيز هذه المجالات كجزء أساسي من استراتيجية التنمية الوطنية، يحتاج مجلس النواب اللبناني (بالتأكيد، ليس هذا المجلس العقيم) إلى تبنّي سياسات أكثر فعالية وطموحًا لدعم التعليم والبحث العلمي، إذا كان للبنان أن ينافس في الساحة الدولية.
في الختام، إذا كان من الضروري مواجهة إسرائيل، فإن السلاح الأكثر فاعلية ليس الصواريخ أو القوة العسكرية، بل العلم والمعرفة والأبحاث الأكاديمية. الاستثمار في التعليم والبحث العلمي هو السبيل لبناء مستقبل أفضل وتحقيق قوة مستدامة. بدلاً من الاعتماد على الأساليب العسكرية التي غالبًا ما تجلب الدمار أكثر ممّا تحقّق من نتائج، يمكن للبنان أن يسعى لبناء قدراته من خلال تطوير أنظمة تعليمية متقدمة، وإنشاء مراكز بحثية قادرة على توليد حلول مبتكرة للتحديات التي تواجهه.
تجربتا الرئيسين كميل نمر شمعون وفؤاد شهاب تقدّم أمثلة مهمة على كيفية توجيه لبنان نحو التقدّم والاستقرار من خلال التركيز على التعليم، والتنمية، وبناء المؤسسات.
-فالرئيس كميل شمعون، ركّز على تعزيز الاقتصاد اللبناني وجعل لبنان مركزًا ماليًا وتجاريًا إقليميًا. من خلال تحسين البنية التحتية ودعم السياحة، سعى الرئيس شمعون لتحويل لبنان إلى محور اقتصادي وثقافي في الشرق الأوسط. محاولاته للربط بين التقدّم الاقتصادي والدور الإقليمي للبنان أكدت على أهمية القوة الناعمة في تحقيق السيادة.
-أما الرئيس فؤاد شهاب، فإستثمر في بناء مؤسسات قوية وشفّافة يمكن أن تدير شؤون البلاد بشكل فعال. من خلال إصلاحاته الإدارية والتنموية، لقد ركّز على تطوير الموارد البشرية والبنية الاجتماعية في لبنان. هذا النهج أدّى إلى تعزيز الاستقرار الداخلي وأكد على أهمية المجتمع المستنير القادر على مواجهة التحديات بشكل فعّال.
في السياق الحالي، يمكن للبنان أن يستفيد من هاتين التجربتين لتطوير استراتيجيته الخاصة التي تركّز على العلم والمعرفة كأدوات أساسية لتحقيق السيادة. من خلال الاستثمار في التعليم العالي والبحث العلمي، وربطهما بسوق العمل والاحتياجات الاقتصادية، كما يُمكنه، من خلال منظومة قويّة، حرّة، وشفّافة لا تبغي الربح على حساب الوطن، بناء مجتمع قادر على الابتكار والمساهمة في التقدّم العالمي. القوّة الناعمة التي تعتمد على العلم والمعرفة ليست فقط أكثر استدامة من الصواريخ، بل أيضًا أكثر تأثيرًا في تعزيز مكانة لبنان على الساحة الدولية.