اراض سائبة في غياب الدولة
د. الياس ميشال الشويري
لطالما كان الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية محط اهتمام وطني وقومي، حيث يتّم التركيز على الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للسيادة اللبنانية. لكن في خضم هذا الخطاب، يتّم التغاضي عن شكل آخر من أشكال الاحتلال الداخلي، وهو احتلال اللبنانيين لأراضي بعضهم البعض، سواء من خلال السيطرة بالقوة، أو الاستيلاء غير المشروع، أو انتهاك حقوق الملكية تحت غطاء الطائفية والسياسية أو حتى بفعل الأعراف العشائرية والمناطقية.
إن هذا المقال يسعى إلى تسليط الضوء على هذه الظاهرة من منظور شامل، يطرح إشكالية: كيف يمكن للبنانيين أن يتحدثوا عن الاحتلال الخارجي بينما يتجاهلون الاحتلال الداخلي؟ هل يمكن تصنيف استيلاء فئات لبنانية على أراضٍ لبنانية على أنه شكل من أشكال الاحتلال؟ وما مدى تأثير هذه الممارسات على وحدة لبنان واستقراره؟
- مفهوم الاحتلال الداخلي ومظاهره في لبنان
–الاستيلاء السياسي والطائفي على الأراضي. لطالما ارتبطت الأرض في لبنان بالصراع السياسي والطائفي، حيث شهدت بعض المناطق عمليات تغيير ديموغرافي، إما نتيجة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، أو بسبب سياسات تهدف إلى فرض هيمنة طائفة معينة على منطقة معينة. ففي بعض الحالات، تم الاستيلاء على أراضٍ عبر وسائل غير قانونية، كفرض واقع جديد بالقوة أو التهجير القسري، دون مراعاة حقوق المالكين الأصليين.
–سيطرة العائلات والميليشيات والمناطقية. تلعب البنى العشائرية والعائلية دورًا كبيرًا في لبنان، حيث تسيطر بعض العائلات أو العشائر على أراضٍ شاسعة، وتمنع الآخرين من الاستفادة منها أو حتى المطالبة بحقوقهم فيها. وغالبًا ما يتّم ذلك تحت غطاء القوة والسلاح، ممّا يجعل الدولة عاجزة عن فرض القانون.
–التعديات العقارية والاقتصادية. هناك ظاهرة أخرى تتمثل في قيام شخصيات نافذة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، بالاستيلاء على أملاك عامة أو خاصة دون أي مسوّغ قانوني، بل بفضل نفوذها وسلطتها. ومثال على ذلك التعديات على المشاعات العامة وعلى الأملاك البحرية والنهرية، حيث تم تحويل الكثير من الشواطئ اللبنانية إلى أملاك خاصة، في انتهاك صارخ للقانون.
- المقارنة بين الاحتلال الإسرائيلي والاحتلال اللبناني الداخلي
–الاحتلال الخارجي: إسرائيل كقوة غاصبة. احتلت إسرائيل أراضٍ لبنانية في أكثر من مرحلة، بدءًا من اجتياح 1978، مرورًا بالغزو الشامل عام 1982، وحتى انسحابها عام 2000، مع استمرارها في احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. ولا يختلف اثنان على أن هذا الاحتلال هو اعتداء على السيادة اللبنانية، وانتهاك للقانون الدولي.
–الاحتلال الداخلي: استغلال اللبنانيين للأراضي اللبنانية. في مقابل الاحتلال الإسرائيلي، نجد أن بعض اللبنانيين أنفسهم يمارسون أنماطًا مختلفة من الاحتلال الداخلي، سواء عبر فرض أمر واقع على أراضٍ ليست لهم، أو عبر استغلال النفوذ السياسي للاستيلاء على الممتلكات العامة والخاصة. وفي حين أن الاحتلال الإسرائيلي يُقابل بالمقاومة والرفض الوطني، فإن الاحتلال الداخلي غالبًا ما يتّم تجاهله أو يُبرَّر بأعذار طائفية أو اجتماعية.
- التداعيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية
–تفكّك مفهوم الدولة. عندما يتمكّن الأفراد أو المجموعات من احتلال أراضٍ دون محاسبة، فإن ذلك يؤدي إلى إضعاف هيبة الدولة ومؤسساتها، إذ تصبح سيادة القانون أمرًا ثانويًا، ممّا يعزّز الفوضى ويمنح الشرعية لهيمنة الأقوى.
–تعزيز الانقسامات الطائفية والمناطقية. إن السيطرة الطائفية والمناطقية على الأراضي تؤدي إلى مزيد من العزل بين المجموعات اللبنانية، وتُفاقم الصراعات بين الطوائف والمذاهب. فبدلًا من أن يكون لبنان دولة جامعة لكل مواطنيه، يتحوّل إلى مجموعة “كانتونات” تتبع لعائلات أو طوائف معينة.
–التأثير على الاقتصاد والتنمية. الاستيلاء غير الشرعي على الأراضي يعيق التنمية الاقتصادية، إذ يمنع تنفيذ مشاريع وطنية كبرى، سواء في مجالات الإسكان أو البنى التحتية أو السياحة. كما يؤدّي إلى تهجير بعض الفئات من مناطقها، ممّا يؤثّر على الاستقرار الديموغرافي والاقتصادي في البلاد.

- سبل المعالجة والحلول
–فرض سيادة القانون. الحل الأساسي يكمن في تطبيق القانون بحزم على الجميع، دون استثناءات سياسية أو طائفية. يجب على الدولة استعادة سلطتها على الأراضي العامة والخاصة التي تمّت السيطرة عليها بطرق غير شرعية، وإيقاف كل مظاهر الاحتلال الداخلي.
–إنهاء المحاصصة الطائفية في إدارة الأراضي. يجب إنهاء استغلال الانتماءات الطائفية والمناطقية في قضايا الأراضي، وضمان أن يتّم التعامل مع جميع اللبنانيين على قدم المساواة وفقًا للقانون، لا وفقًا للنفوذ أو الانتماء.
–تعزيز الوعي الوطني حول خطورة الاحتلال الداخلي. من الضروري أن يكون هناك وعي مجتمعي وإعلامي حول مخاطر الاحتلال الداخلي، وكيف يمكن أن يكون بنفس خطورة الاحتلال الخارجي، إن لم يكن أشد خطرًا على بنية الدولة واستقرارها.

- الخاتمة
إن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية هو بلا شك اعتداء يجب التصدّي له، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن للبنانيين أن يغضوا الطرف عن الاحتلال الداخلي الذي يمارسه بعضهم ضد بعض. فكما أن الاحتلال الخارجي هو انتهاك للسيادة، فإن الاحتلال الداخلي هو انتهاك لحقوق اللبنانيين أنفسهم، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي تعيق بناء دولة حقيقية قادرة على الدفاع عن أراضيها واستقلالها. عليه، فإن الحل يبدأ من الداخل، عبر فرض سلطة القانون، وإنهاء الاستغلال السياسي والطائفي للأراضي، وخلق وعي وطني بأن الاحتلال الداخلي لا يقل خطورة عن الاحتلال الخارجي. فهل يمكن للبنان أن يكون حرًا بحق، بينما لا تزال أراضيه محتلة بأيادٍ لبنانية؟ من هنا، نناشد فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء التدخّل العاجل لوضع حد لهذه التعديات واستعادة حقوق المواطنين وفق الأطر القانونية.
في هذا السياق، يمثّل الاعتداء الذي واجهه كاتب هذا المقال نموذجًا صارخًا لهذه الظاهرة، حيث أقدم شخص من آل عزام في بلدة معاصر الشوف على التعدّي على أرض صاحب العلاقة، ولم يكتفِ بذلك، بل رفض حتى تاريخه إزالة التعدّي، ووصلت به الوقاحة إلى محاولة تطويب الأرض بأسماء أبنائه، متجاهلًا القوانين والدعاوى القضائية.
وعلى الرغم من رفع دعوى قضائية ضده لدى قاضي الأمور المستعجلة في دير القمر، إضافة إلى توجيه مراسلات شخصية إلى البلدية ووزارة المهجرين، إلا أن المعتدي لا يزال متعنتًا في موقفه، ما يعكس ضعف الدولة في حماية حقوق مواطنيها.
لذلك، نطالب الجهات الرسمية المعنية باتخاذ الإجراءات الحازمة لحماية حقوق الأفراد ومنع أي استغلال غير قانوني للأراضي، لأن التراخي في مثل هذه القضايا يفتح الباب أمام مزيد من التعديات، ويضعف ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها.