د. الياس ميشال الشويري
الفساد الممنهج يشكّل أحد أكبر التحديات التي تواجهها الدول، خاصة في مساعيها لتحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الاجتماعي والسياسي. هذا النوع من الفساد ليس مجرد ممارسات فردية منعزلة، بل هو شبكة متشابكة من المصالح والممارسات الفاسدة التي تتغلغل في جميع مستويات الحكومة والمجتمع. عندما يصبح الفساد جزءًا لا يتجزأ من النظام السياسي والاقتصادي، فإنه يعرقل النمو الاقتصادي، ويضعف الثقة في المؤسسات، ويؤدي إلى توزيع غير عادل للثروة والفرص. في هذا السياق، تُعتبر مكافحة الفساد شرطًا أساسيًا لتحقيق التنمية، لأن الفساد يستهلك الموارد التي يمكن استخدامها لتحسين حياة المواطنين وتعزيز الاقتصاد.
ففي منطقة الشرق الأوسط، تمثّل إسرائيل ولبنان مثالَيْن متناقضَيْن تمامًا فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الفساد. إسرائيل، من جهة، نجحت في بناء منظومة قانونية ومؤسساتية قوية قادرة على مواجهة الفساد بفعالية بحيث دورها لا يقتصر على سن القوانين فقط، بل يشمل تطبيق هذه القوانين بحزم من خلال مؤسسات رقابية وقضائية مستقلة تعمل بشفافية وفعالية. على النقيض من ذلك، يعاني لبنان فساداً متجذّراً يمّس كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية. هذا الفساد لم يكن نتيجة عدم وجود قوانين فحسب، بل نتيجة سفالة المنظومة السياسية، والطبيعة الطائفية للنظام السياسي، وغياب المؤسسات الفعّالة التي يمكنها محاسبة المسؤولين عن الفساد.
اما النجاح الإسرائيلي في مكافحة الفساد فيرجع إلى عدة عوامل.
-أولًا، تمتلك نظامًا قضائيًا مستقلًا يستطيع محاسبة حتى المسؤولين رفيعي المستوى.
-ثانيًا، المؤسسات الرقابية فيها، مثل مراقب الدولة وهيئات مكافحة الفساد، تتمتّع بصلاحيات حقيقية وتعمل باستقلالية، ممّا يتيح لها كشف ومعاقبة المخالفات دون تأثيرات خارجية.
-ثالثًا، ثقافة الشفافية والمساءلة متجذّرة في المجتمع الإسرائيلي، حيث يتمّ تشجيع الكشف عن الفساد والإبلاغ عنه من قبل المواطنين ووسائل الإعلام. هذه العوامل مجتمعة ساعدت إسرائيل على الحد من الفساد، مّا أدّى إلى استقرار مؤسسات الدولة وتوفير بيئة مؤاتية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
بالإنتقال الى لبنان، نجد الفساد المتجذّر فيه عطّل تطوّر الدولة وأدّى إلى تدهور مؤسساتها. الفساد في لبنان لا يقتصر على الرشوة أو الاختلاس، بل يمتد إلى كافة أوجه الحياة السياسية والاقتصادية. النظام السياسي القائم على الطائفية يساهم في تعزيز الفساد من خلال تعزيز المحسوبية والولاءات الطائفية على حساب الكفاءة والنزاهة. ضعف المؤسسات الرقابية، وعدم استقلالية القضاء، وغياب الشفافية كلها عوامل تجعل من الصعب مكافحة الفساد في لبنان. نتيجة لذلك، تجد الدولة اللبنانية نفسها في حلقة مفرغة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يعجز النظام عن تلبية احتياجات المواطنين الأساسية بسبب هدر الموارد وفساد ما يسمّى بالمسؤولين.
فماذا عن الفروق الجوهرية بين البلدين في مكافحة الفساد؟
ان المقارنة بين إسرائيل ولبنان تُبرز فروقاً جوهرية في كيفية التعامل مع الفساد. في إسرائيل، توجد إرادة سياسية قوية لمكافحة الفساد، ممّا ينعكس في قوة وفعالية المؤسسات المسؤولة عن ذلك. على العكس، في لبنان، الفساد متجذّر إلى حد يجعل من الصعب على أي حكومة أو مؤسسة أن تتصدّى له بفعالية. بينما يعتمد النجاح في إسرائيل على قوة القانون والمؤسسات، يعاني لبنان فشل هذه الأدوات في أداء دورها بسبب الانقسامات السياسية والطائفية. هذا التناقض يُبرز كيف يمكن أن تؤثر البيئة السياسية والاجتماعية في نجاح أو فشل جهود مكافحة الفساد.
أما أسباب التفوق الإسرائيلي في مجال مكافحة الفساد فيمكن أن يُعزى إلى مجموعة من العوامل الهيكلية والثقافية. الإرادة السياسية تعتبر العامل الأول، حيث تتوافّر لدى القيادة الإسرائيلية قناعة بأهمية محاربة الفساد للحفاظ على استقرار الدولة وتقدّمها. كما أن قوة مؤسسات الدولة، وخاصة القضائية والرقابية، تضمن تطبيق القوانين بشكل صارم ومنصف. من ناحية أخرى، هناك وعي مجتمعي كبير بأهمية الشفافية والمحاسبة، ما يدعم جهود مكافحة الفساد ويساهم في خلق بيئة لا تتسامح مع المخالفات. هذه العوامل مجتمعة تفسّر لماذا استطاعت إسرائيل أن تكون نموذجًا ناجحًا في هذا المجال.
بالمقابل، لبنان يواجه تحديات هائلة في سعيه لمكافحة الفساد: فساد المنظومة السياسية، وهيمنة النظام الطائفي على السياسة، وغياب مؤسسات رقابية فعّالة كلها تساهم في تفاقم هذه الظاهرة. بالإضافة إلى ذلك، الأزمات الاقتصادية المتتالية جعلت الوضع أكثر تعقيدًا، حيث أدى الفساد إلى تدمير الثقة بين الدولة والمواطنين، وزاد من صعوبة تحقيق أي إصلاحات جذرية.
ومن خلال النظر إلى الوضع في لبنان، يصبح من الواضح أن الإصلاح الفعلي لمكافحة الفساد يواجه عقبات كبيرة. أحد أهم هذه العقبات هو أن الفساد في لبنان متجذّر في النظام السياسي نفسه. الفاعلون السياسيون الذين يجب أن يقودوا جهود الإصلاح هم الفاسدون وجزء من المشكلة، حيث يستفيدون بشكل مباشر من استمرار الفساد. هؤلاء الرِعاع يملكون مصالح راسخة في الحفاظ على الوضع القائم، حيث يستفيدون من الفساد من خلال التحكّم في الموارد العامة واستغلالها لمصالحهم الشخصية أو الحزبية.
من المؤسف أن المنظومة السياسية في لبنان ترى في الفساد وسيلة للبقاء في السلطة والتحكّم في الثروات والموارد. الفساد هنا ليس مجرد خلل في النظام، بل هو جزء من الطريقة التي تدار بها السياسة والاقتصاد في البلد. هذا الوضع يخلق دائرة مفرغة، حيث تعيق هذه المنظومة الفاسدة أي محاولات جادة للإصلاح، لأنها تعتبر هذه المحاولات تهديدًا مباشرًا لمصالحها. إصلاح الفساد يعني بالنسبة لها تقليص سلطاتها وتقليل فرصها في تحقيق المكاسب الشخصية، ومن هنا استبعاد إمكانية الإصلاح في ظلّ النظام الحالي الفاسد بامتياز!
ان تحقيق إصلاح حقيقي في لبنان يبدو بعيد المنال في ظلّ النظام السياسي الحالي. الفساد أصبح جزءًا من نسيج السلطة، ومن الصعب أن تأتي التغييرات, إذا كانت ستأتي من نفس الرِعاع الذين يستفيدون من هذا الفساد. في هذه الحالة، يصبح الحديث عن إصلاح جذري لمكافحة الفساد مجرّد شعارات فارغة دون وجود إرادة فعلية للتغيير.
الخاتمة: طريق الإصلاح طويل وشاق
تسليط الضوء على المقارنة بين إسرائيل ولبنان في مكافحة الفساد يكشف أهمية وجود إرادة سياسية قوية ومؤسسات مستقلة وفعالة كشرط أساسي لمحاربة هذه الظاهرة المدمرة. إسرائيل تُظهر كيف يمكن بناء نظام قادر على مكافحة الفساد بنجاح، من خلال مؤسسات ذات سلطة فعالة وآليات رقابة صارمة.
يمكن القول ان مقارنة إسرائيل ولبنان في مكافحة الفساد تبرز تحديات كبيرة أمام لبنان، خاصة في ظلّ النظام السياسي الحالي الفاسد بامتياز. بينما تقدّم إسرائيل نموذجًا لنجاح مكافحة الفساد من خلال الإرادة السياسية والمؤسسات القوية، يعاني لبنان غياب هذه العناصر. رغم هذه التحديات، لا يمكن فقدان الأمل بشكل كامل. قد يكون الحل في تعزيز دور المجتمع المدني والإعلام في فضح ممارسات الفساد ومحاسبة المسؤولين عنها يوماً ما. التغيير قد يأتي من ضغط شعبي واسع النطاق، يدفع نحو إعادة تشكيل النظام السياسي بطرق تحّد من هيمنة الفاسدين. بدون هذه الضغوط، سيظّل الفساد عنصرًا مركزيًا في الحياة السياسية اللبنانية، وسيستمّر في إعاقة أي جهود للتقدّم والتنمية.