الإستثمار في العلم هو الهدف الأسمى
د. الياس ميشال الشويري
منذ تأسيسها عام 1948، نجحت إسرائيل في أن تصبح واحدة من أبرز الدول عالميًا في مجالات الابتكار والبحث العلمي. لم يكن هذا النجاح وليد الصدفة، بل كان نتيجة رؤية استراتيجية وضع أسسها حاييم وايزمان، أول رئيس لإسرائيل وعالم الكيمياء المرموق. من خلال الاستثمار المكثف في التعليم والبحث والتطوير، وبدعم من الثقافة المجتمعية الداعمة لريادة الأعمال، تمكّنت إسرائيل من تحويل التحديات إلى فرص، وبناء اقتصاد معرفي قوي يركّز على التكنولوجيا والابتكار. في هذه الحلقة الثالثة، نستعرض بالتفصيل كيف ساهمت العوامل المختلفة، بدءًا من رؤية وايزمان، في ترسيخ مكانة إسرائيل كدولة رائدة في الابتكار.
1-المرحلة التأسيسية: دور حاييم وإيزمان عالم الكيمياء الذي أصبح قائداً سياسياً..
-الخلفية العلمية والسياسية: ولد حاييم وايزمان عام 1874 في روسيا، وبرز كعالم كيمياء لامع قبل أن يتحوّل إلى النشاط السياسي. دراسته الكيمياء في أوروبا أكسبته مهارات علمية رفيعة المستوى، واستخدم هذه المهارات لتعزيز موقف الحركة الصهيونية على الساحة الدولية. كان لاختراعه طريقة لتحضير “الأسيتون” من مصادر طبيعية، دور كبير في دعم المجهود الحربي البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، ما أكسبه نفوذًا سياسيًا مكّنه من لعب دور محوري في وعد بلفور.
-التوجّه نحو البحث العلمي: وايزمان كان مؤمنًا بأن العلم هو أساس القوة الوطنية، ولذلك عمل على تأسيس بنية تحتية علمية في فلسطين قبل قيام الدولة. في عام 1934، أنشأ معهد زيفوتوفسكي للبحث العلمي في رحوفوت، الذي أصبح لاحقًا معهد وايزمان للعلوم. كان هذا المعهد نقطة الانطلاق للعديد من الأبحاث التي ساهمت في تطوير إسرائيل علميًا وتكنولوجيًا.
2-تأسيس معهد وايزمان للعلوم وأهميته في بناء الدولة:
بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، أصبح معهد وايزمان للعلوم مركزًا رئيسيًا للبحث والتطوير. دعم وايزمان هذا المعهد بشكل كامل، مستخدمًا نفوذه لجلب التمويل والدعم الدولي للمؤسسة. المعهد لعب دورًا كبيرًا في تدريب علماء إسرائيل الأوائل، ما ساهم في بناء قاعدة علمية قوية.
ومنذ بداياته، ركّز معهد وايزمان على مجالات العلوم الأساسية مثل الكيمياء والفيزياء والرياضيات والبيولوجيا. هذه التخصصات كانت أساسًا للعديد من الابتكارات الإسرائيلية في العقود اللاحقة، بما في ذلك تطوير تقنيات الحوسبة، الطب الحيوي، والتكنولوجيا الزراعية.
أما العوامل المساهمة في نجاح إسرائيل في الابتكار والبحث العلمي، فهي:
1-الاستثمار في التعليم. فمنذ تأسيسها، استثمرت إسرائيل بشكل كبير في نظامها التعليمي، مع التركيز على العلوم والتكنولوجيا. المناهج الدراسية تمّ تصميمها لتعزيز التفكير النقدي والإبداعي، والجامعات الإسرائيلية أصبحت مراكز للتميّز الأكاديمي، فضلاً عن ان التعليم الإلزامي المجاني مكّن من تنشئة أجيال من المتعلمين المتحمسين، ما ساعد على تزويد الصناعات التكنولوجية بالمهارات المطلوبة.
والى ذلك، أصبحت الجامعات الإسرائيلية مثل الجامعة العبرية في القدس، ومعهد التكنيون في حيفا، ومعهد وايزمان، أصبحت مؤسسات مرموقة عالميًا. كذلك لم تكن مجرد مؤسسات تعليمية، بل تحوّلت مراكز بحثية ساهمت في تطوير الأبحاث والابتكارات التي قادت الاقتصاد الإسرائيلي.
وللتذكير، فإن الكثير من العلماء الإسرائيليين الذين تخرّجوا من هذه الجامعات حصلوا على جوائز نوبل في مجالات مختلفة، ما يعكس المستوى الرفيع للأبحاث العلمية في البلاد.
2-الثقافة الداعمة للابتكار. فالثقافة الإسرائيلية تشجّع على المجازفة والابتكار. المجتمع يحتفي بالفشل كجزء من عملية التعلّم، وهو ما يدفع الشباب الى تجربة أفكار جديدة وتأسيس شركات ناشئة. ومن المعروف أن إسرائيل تعتبر “أمة الشركات الناشئة”، اذ أنشأت أكثر من 6 آلاف شركة ناشئة خلال العقود الأخيرة، ما جعلها واحدة من أعلى الدول في العالم من حيث عدد الشركات الناشئة للفرد.
وبالتوازي، لعب الجيش الإسرائيلي دورًا مهمًا في تدريب الشباب على مهارات القيادة وحلّ المشكلات. الوحدات التكنولوجية المتقدمة في الجيش، مثل وحدة 8200 للاستخبارات الإلكترونية، تعمل كحاضنات للابتكار. العديد من الخريجين من هذه الوحدات يذهبون لاحقًا لتأسيس شركات تكنولوجية ناجحة.
3-الاستثمار الحكومي والدعم المؤسسي، وتندرج تحت هذا العنوان، نقطتان:
-دعم البحث والتطوير (R&D) الذي تستثمر فيه اسرائيل حوالي 4.5% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهي واحدة من أعلى النسب في العالم. هذا الاستثمار يعكس التزام الحكومة بتطوير التكنولوجيا والعلوم. إضافة الى ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية، من خلال هيئات مثل سلطة الابتكار الإسرائيلية، تقدّم دعمًا ماليًا كبيرًا للشركات الناشئة والمشاريع البحثية، ما يعزز البيئة الابتكارية في البلاد.
– وبالنسبة للنقطة الثانية وهي البنية التحتية للتكنولوجيا، فإن إسرائيل طوّرت هذه البنية المتقدمة في مجالات مثل الاتصالات، الأمن السيبراني والطب الحيوي. لقد ساعدت هذه البنية التحتية في جذب الشركات متعددة الجنسيات التي أسست مراكز أبحاث وتطوير في البلاد، مما ساعد على نقل المعرفة وتطوير المواهب المحلية.
4-التعاون الدولي والشراكات الاستراتيجية. لقد استفادت اسرائيل من شراكاتها الدولية لتعزيز قدراتها العلمية. وقّعت اتفاقيات تعاون مع دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا، مما ساعد على نقل التكنولوجيا المتقدمة وتوسيع نطاق البحث العلمي. كذلك، فقد ساهمت البرامج المشتركة بين الجامعات الإسرائيلية والمؤسسات الأكاديمية في الخارج، في تبادل المعرفة وجذب الكفاءات العالمية إلى إسرائيل.
بالإضافة الى ما تقدّم، فإن العديد من الشركات العالمية مثل Google و Intel و Microsoft أسست مراكز بحث وتطوير في إسرائيل لجذب المواهب المحلية وتوفير فرصًا للتعاون في المشاريع البحثية المتقدمة، ما يساهم في دمج إسرائيل في الاقتصاد العالمي.
بالإنتقال ال مجالات الابتكار الرئيسية في إسرائيل، نجد أن التركيز انصب على أمرَيْن:
1-التكنولوجيا العالية (High-Tech): وبذلك أصبحت إسرائيل رائدة في مجال البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، اذ أن الشركات فيها طوّرت العديد من التقنيات المتقدمة في مجالات مثل الحوسبة السحابية، الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. أما الشركات الناشئة مثل Waze التي استحوذت عليها Google و Mobileye التي إستحوذت عليها Intel ، أصبحت رموزًا للنجاح الإسرائيلي في هذا القطاع.
بالنسبة للأمن السيبراني، فبسبب التحديات الأمنية، أصبحت إسرائيل قوة رائدة في مجال الأمن السيبراني. الشركات الإسرائيلية تطوّر حلولًا مبتكرة لحماية الأنظمة الرقمية، ويتمّ تصدير هذه التقنيات إلى دول وشركات عالمية.
2-التكنولوجيا الطبية والبيولوجية، وتضمّ: الطب الحيوي والتكنولوجيا الزراعية (Agri-Tech).
بالنسبة للطب الحيوي، اسرائيل اشتهرت بابتكارها في هذا المجال، بدليل أن الجامعات والشركات الإسرائيلية تطور علاجات وأجهزة طبية مبتكرة، مثل الأجهزة القلبية الاصطناعية، وأنظمة التصوير الطبي المتقدمة. وخلال جائحة COVID-19، لعبت شركات إسرائيلية دورًا في تطوير اللقاحات والعلاجات، ممّا يعكس تقدمها في هذا المجال.
في ما يتعلّق بالتكنولوجيا الزراعية Agri-Tech، فإسرائيل طورت تقنيات زراعية مبتكرة للتعامل مع ندرة المياه والتحديات البيئية. تقنيات الري بالتنقيط والزراعة العمودية التي طورتها الشركات الإسرائيلية تستخدم الآن في جميع أنحاء العالم.
الإرث المستدام لوايزمان وإسرائيل الحديثة من ناحيَتَيْ التأثير العالمي والاستمرارية والابتكار المستدام.
بالنسبة للإإبتكارات الإسرائيلية، أصبحت جزءًا من الحياة اليومية حول العالم. التقنيات التي طورتها الشركات الإسرائيلية تستخدم في الهواتف الذكية، السيارات ذاتية القيادة، أنظمة الأمان، والزراعة المستدامة. والى ذلك، فهي مستمرة في قيادة الابتكار من خلال الاستثمار المستدام في التعليم، البحث العلمي ودعم ريادة الأعمال. المؤسسات الأكاديمية، مراكز البحث والشركات الناشئة تواصل التعاون من أجل تحقيق المزيد من الابتكارات التي ستساهم في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي.
في الختام، إسرائيل اليوم هي مثال حي على كيفية تحوّل دولة صغيرة ذات موارد طبيعية محدودة إلى قوة عظمى في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي. ومن خلال رؤية حاييم وايزمان والاستثمار المستدام في التعليم والبحث ومكافحة الفساد، نجحت إسرائيل في بناء بيئة حاضنة للإبداع والابتكار، ما جعلها واحدة من أكثر الدول ابتكارًا في العالم. إرث وايزمان العلمي والسياسي لا يزال ينعكس في نجاحات إسرائيل المستمرة في شتى المجالات، مؤكدة بذلك على أهمية البحث العلمي والابتكار ومكافحة الفساد كركيزة أساسية لبناء مستقبل مزدهر.
وفي المحصلة، فإن التقدّم والحضارة في إسرائيل هما نتيجة جهود العبقرية، لا نتيجة الفساد وثرثرة الأكثرية، كما هو الحال في لبنان.