مظاهرات أمام المصرف المركزي للمطالبة باستعادة الودائع
د. الياس ميشال الشويري
في هذا المقال، سنناقش غياب الضمير في لبنان من خلال تحليل الأبعاد الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لهذه الأزمة، مع تسليط الضوء على أمثلة واقعية من الأحداث والتطورات الأخيرة. سنركّز أيضًا على تفاعل مختلف الأطراف مع هذه الأزمة، واستكشاف السبل الممكنة لمعالجتها على المدى الطويل.
1-السياق التاريخي والاجتماعي لغياب الضمير. لبنان مرّ عبر تاريخه الحديث بفترات من الصراع والحروب، والتي أسهمت في تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية الحالية. الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) لم تكن مجرد نزاع مسلح بين الفصائل المختلفة، بل كانت أيضًا حربًا على القيم والمبادئ. فقد أدّت إلى تحطيم المؤسسات، وتدمير البنية التحتية، وزرع بذور الانقسامات الطائفية. بعد انتهاء الحرب، كان من المتوقع أن يسعى اللبنانيون إلى بناء دولة حديثة وعادلة، لكن بدلاً من ذلك، استمرّت نفس القيادات التي كانت جزءًا من الصراع في السيطرة على السلطة. هذه القيادات، التي تربّت في ظروف الحرب، غالبًا ما تبنّت أساليب التلاعب والفساد للبقاء في السلطة.
2-النظام الطائفي في لبنان كمصدر للفساد. ان هذا النظام لا يوزّع السلطة فقط، بل يوّزع أيضًا المسؤولية بطريقة تجعل من الصعب تحديد المسؤول عن الفشل أو الفساد. كل طائفة أو حزب يستخدم نظام المحاصصة لضمان ولاء أتباعه، ممّا يخلق بيئة من المحسوبية والزبائنية التي تعزّز غياب الضمير. هذا النظام يُشجّع على تفضيل الولاء الطائفي أو الحزبي على الكفاءة والنزاهة، وهو ما أدّى إلى تآكل القيم الأخلاقية في المجتمع. فعندما يشعر الفرد بأنه محمي بسبب انتمائه الطائفي أو السياسي، يفقد الرادع الأخلاقي ويصبح أكثر استعدادًا للتورّط في الفساد.
3-غياب الضمير على المستوى المؤسسي. من الناحية المؤسسية، غياب الضمير يظهر بوضوح في الأداء السيئ للقطاع العام. الوزارات والمؤسسات الحكومية غالبًا ما تكون غير فعالة وتعاني من الفساد والمحسوبية. هذه المؤسسات التي يُفترض أن تخدم الشعب، أصبحت مصدراً للربح الخاص للسياسيين وأتباعهم. على سبيل المثال، أزمة النفايات التي عانت منها البلاد في عام 2015 كانت نتيجة واضحة لسوء الإدارة والفساد. رغم تظاهر آلاف اللبنانيين في الشوارع مطالبين بإيجاد حل للأزمة، إلا أن المنظومة السياسية الفاسدة استمرت في التلاعب بالملف لتحقيق مكاسب شخصية.
4-الجانب الاقتصادي. الفساد وغياب الضمير في لبنان لهما تأثيرات اقتصادية مدمّرة. في بلد يعاني من ديون ضخمة، حيث تتجاوز نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 170%، يصبح الفساد سببًا رئيسيًا في انهيار الاقتصاد. الأموال التي يُفترض أن تُستخدم لتطوير البنية التحتية، وتحسين الخدمات العامة، وتعزيز الاقتصاد، تُهدر بسبب سوء الإدارة والفساد. على سبيل المثال، الكهرباء هي أحد القطاعات التي تعكس بوضوح أزمة غياب الضمير. على الرغم من مليارات الدولارات التي أنفقت على هذا القطاع، لا يزال لبنان يعاني من انقطاع التيار الكهربائي بشكل يومي، مما يُجبر المواطنين على الاعتماد على مولدات خاصة مكلفة.
5-التأثير الاجتماعي والنفسي. غياب الضمير له تأثيرات اجتماعية ونفسية كبيرة على المجتمع اللبناني. الشباب، الذين يمثلون الأمل في بناء مستقبل أفضل، يشعرون بالإحباط والخيبة بسبب فساد النظام. البطالة المرتفعة، التي تجاوزت 40% بين الشباب، تخلق بيئة من اليأس تدفع العديدين إلى الهجرة بحثًا عن فرص أفضل. هذه الهجرة المستمرة للعقول والكفاءات تؤدي إلى فقدان لبنان لأفضل موارده البشرية، ممّا يزيد من تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
الضغط النفسي الناتج عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة يؤدي أيضًا إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق بين السكان. زيادة في معدلات الجريمة والعنف الأسري هي أيضًا مؤشرات على التدهور الاجتماعي الذي يحدث عندما يفقد الناس الثقة في النظام وفي إمكانية تحسين حياتهم. غياب الأمان والاستقرار يولد شعورًا باليأس والإحباط، ممّا يؤدي إلى زيادة في التصرفات الفردية التي تفتقر إلى الضمير.
6-غياب الضمير في قطاع التعليم. حتى قطاع التعليم، الذي يُفترض أن يكون محركًا للتغيير الإيجابي في أي مجتمع، لم يسلم من تأثيرات غياب الضمير. الفساد والمحسوبية تؤدي إلى تدهور جودة التعليم في المدارس والجامعات العامة، مما يدفع العائلات إلى البحث عن تعليم خاص مكلف لضمان مستقبل أفضل لأبنائهم. هذا يخلق فجوة تعليمية بين الأغنياء والفقراء، ويُكرّس انعدام العدالة الاجتماعية. التعليم، بدلاً من أن يكون وسيلة لتوحيد المجتمع وتعزيز القيم الأخلاقية، أصبح جزءًا من المشكلة، حيث يتعلّم الطلاب منذ الصغر أن النجاح مرتبط بالعلاقات والمحسوبيات أكثر من الكفاءة والنزاهة.
7-دور الإعلام في تعميق الأزمة. الإعلام اللبناني يلعب دورًا مزدوجًا في هذه الأزمة. بدلاً من أن يكون وسيلة لنشر الوعي وكشف الفساد، غالبًا ما يكون الإعلام جزءًا من المشكلة. العديد من وسائل الإعلام مملوكة من قبل زعماء سياسيين أو رجال أعمال لهم مصالح مباشرة في النظام القائم. هذا يؤدي إلى تغطية إعلامية منحازة تساهم في تعزيز الانقسامات الطائفية وتبرير الفساد. الإعلام، بدلاً من أن يكون منبرًا للحقيقة والشفافية، يتحول إلى أداة للتضليل والتلاعب.
8-دور المغتربين. يلعب هؤلاء دورًا مهمًا في الاقتصاد اللبناني من خلال تحويلاتهم المالية التي تُعتبر شريان حياة للعديد من العائلات. لكن على الرغم من هذا الدعم، فإنهم غالبًا ما يشعرون بالإحباط بسبب الفساد واللامبالاة في الداخل. العديد من المغتربين فقدوا الثقة في إمكانية تغيير الوضع في لبنان، وهذا يؤدي إلى تراجع حماسهم للمساهمة في إعادة بناء الوطن. غياب الضمير في الداخل يؤثر بشكل مباشر على رغبة المغتربين في الاستثمار في بلادهم.
9-دور الدين والقيم الأخلاقية. لبنان، كبلد متعدّد الطوائف والأديان، يُفترض أن يستمد قيمه الأخلاقية من تعاليم دينية متنوعة تدعو إلى النزاهة والعدل والمساواة. ولكن للأسف، استُخدمت هذه التعاليم أحيانًا كأداة للتلاعب السياسي. بعض القادة الدينيين يدخلون في تحالفات مع السياسيين لتعزيز مصالحهم، مما يؤدي إلى تآكل القيم الأخلاقية في المجتمع. بدلاً من أن تكون المؤسسات الدينية مصدرًا للضمير والأخلاق، تتحول في بعض الأحيان إلى جزء من النظام الفاسد.
ما هي الحلول المقترحة لمعالجة غياب الضمير؟
–إصلاح النظام القضائي: يجب أن يكون القضاء مستقلًا تمامًا عن السلطة السياسية لضمان محاسبة المسؤولين عن الفساد. الإصلاح القضائي هو حجر الزاوية لأي تغيير حقيقي في لبنان.
–تعزيز التعليم الأخلاقي: يجب أن يتضمن المنهاج التعليمي برامج تركز على النزاهة، والمسؤولية الاجتماعية، والعدالة. التعليم يجب أن يكون أداة لتشكيل ضمير جماعي يؤمن بأهمية المصلحة العامة.
–تشجيع الشفافية والمساءلة: يجب تطبيق قوانين الشفافية بحزم، مع ضمان أن تكون جميع العمليات الحكومية شفافة وخاضعة للمساءلة من قبل مؤسسات رقابية مستقلة.
–تمكين المجتمع المدني: دعم المنظمات غير الحكومية والمبادرات الشعبية التي تهدف إلى مكافحة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان. المجتمع المدني هو القوة المحركة للتغيير في أي مجتمع، ويجب تمكينه من العمل بحرية وفعالية.
–إصلاح النظام الطائفي: لا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي دون معالجة جذور النظام الطائفي الذي يشكل عائقًا كبيرًا أمام بناء دولة حديثة. يجب العمل على فصل الدين عن السياسة، وتعزيز مفهوم المواطنة التي تتجاوز الانتماءات الطائفية.
–إعادة بناء الثقة: على المسؤولين السياسيين والقيادات الدينية والاجتماعية، إن كانت لا تزال لديهم ذرّة من الضمير، أن يتكاتفوا لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة. يتطلّب ذلك إطلاق مبادرات حقيقية لتحسين حياة الناس، ومكافحة الفساد بجدية، وإثبات أن التغيير ليس مجرد شعار، بل هدف يمكن تحقيقه.
الخاتمة: غياب الضمير في لبنان ليس مشكلة يمكن حلها بين ليلة وضحاها. هو نتيجة عقود من الفساد، وسوء الإدارة، والاستغلال السياسي والديني للطوائف. ولكن مع ذلك، يبقى الأمل في التغيير قائمًا. عبر تعزيز قيم النزاهة والشفافية، وتمكين القضاء المستقل، ودعم المجتمع المدني، يمكن للبنان أن يبدأ في بناء دولة تحترم حقوق مواطنيها وتعمل لصالحهم. التغيير يتطلب التزامًا طويل الأمد من جميع فئات المجتمع، وإرادة حقيقية من القيادات السياسية والدينية لتحقيق الإصلاحات الضرورية. الأمل في لبنان أفضل يبدأ من صحوة الضمير الجماعية، والتخلّي عن الأنانية والفساد، والعمل من أجل مصلحة الوطن ككل.