لحظة إنفجار مرفأ بيروت
د. الياس ميشال الشويري
على مدى عقود، ظلّ النظام السياسي في لبنان قائمًا على التوازنات الطائفية والمحاصصة، ما جعل من الانقسام الطائفي السمة الرئيسية للمشهد السياسي والاجتماعي. هذا النظام، الذي وُضع لضمان مشاركة جميع الطوائف في الحكم، سرعان ما تحوّل إلى أداة لاستغلال السلطة منذ التسعينات، حيث تمكّنت المنظومة السياسية الفاسدة بامتياز من استخدامه للحفاظ على نفوذها وتحقيق مكاسب شخصية على حساب الدولة والشعب. ومع مرور الوقت، تراجعت قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية، وتفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ممّا دفع لبنان نحو انهيار شامل.
في السنوات الأخيرة، تفجّرت أزمات متتالية، أبرزها الأزمة الاقتصادية الخانقة وانفجار مرفأ بيروت المروّع.. أزمات كشفت النقاب عن حجم الفساد المتفشّي في مؤسسات الدولة، وعن المنظومة السياسية التي تستفيد من الفوضى والفساد لتأمين بقائها. ومع هذه التطورّات، بدأ الشعب اللبناني يتجاوز الهويات الطائفية التقليدية، ليبرز نوع جديد من الوعي الوطني، يركّز على الصراع بين “الخير” الذي يمثّله من يسعى إلى الإصلاح وبناء دولة عادلة وشفافة، وبين “الشر” الذي يمثّله من يتمسّك بالفساد والمحاصصة لتحقيق مصالحه الضيقة.
هذا التحوّل في طبيعة الصراع يُعّد نقطة فاصلة في تاريخ لبنان الحديث. لم يعد اللبنانيون الشرفاء ينظرون إلى الانقسامات الطائفية كجوهر الصراع، بل باتت معركتهم تدور حول تحقيق العدالة والمساواة ومحاربة الفساد الذي يقوّض حياتهم اليومية. مع كل أزمة، يزداد إيمان المواطنين الشرفاء بأن الحل لا يكمن في العودة إلى الطائفية والمحاصصة، بل في بناء نظام جديد يقوم على الكفاءة والشفافية، ويضمن حقوق الجميع بغض النظر عن الطائفة أو الدين.
في هذا السياق، يصبح الصراع بين الخير والشر في لبنان ليس مجرّد معركة سياسية، بل هو صراع من أجل مستقبل لبنان وأبنائه، بين من يريدون دولة القانون والعدالة، وبين مَنْ يسعون لاستغلال الفوضى لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الشعب.
في ما يلي سنتعمّق أكثر في هذا التحوّل ونحلّل أسبابه وتأثيراته على مختلف جوانب الحياة اللبنانية.
1-نهاية الهيمنة الطائفية التقليدية.
على مدار العقود الماضية، تم بناء النظام السياسي في لبنان على أسس طائفية، حيث تم تقسيم السلطة بين الطوائف المختلفة وفق اتفاقات سياسية مثل اتفاق الطائف. هذا النظام كان قائمًا على فكرة “التوازن الطائفي“، إلا أن الفساد واستغلال السلطة من قبل المنظومة السياسية والطائفية حوّل النظام إلى وسيلة للسيطرة والهيمنة، استناداً الى:
–تآكل الشرعية الطائفية. مع مرور الوقت، أصبحت الطائفية وسيلة للمنظومة السياسية الفاسدة للبقاء في السلطة بدلاً من تحقيق المصلحة العامة. بدلاً من العمل على توحيد المجتمع، استُخدمت الطائفية لتعميق الانقسامات وضمان استمرار الولاء لهذه المنظومة الفاسدة. ولكن الأزمات المتتالية كشفت عيوب هذا النظام وأدت إلى تآكل الشرعية التي كانت تمنحها هذه الهويات الطائفية للمنظومة الحاكمة. الشعب اللبناني الحر والشريف والعظيم، بكل ما لهذه الكلمات من معنى، بدأ يعي أن مشكلاته الحقيقية تتعلّق بالفساد وسوء الإدارة، وليس بالطوائف بحد ذاتها.
–ظهور وعي وطني جديد. بفضل الأزمات الاقتصادية والانفجارات السياسية والأمنية، بدأت تظهر طبقة جديدة من اللبنانيين تتجاوز الهويات الطائفية وتسعى نحو هوية وطنية شاملة. هؤلاء الأفراد يرون أن الفساد وسوء الإدارة هو العدو الحقيقي، وليس الطوائف الأخرى. لقد أدركوا أن النظام الطائفي، في شكله الحالي، لا يخدم سوى الحثالة المستفيدة منه.
2-الفساد كمحور للصراع.
في قلب الأزمة اللبنانية يكمن الفساد الذي يستشري في مؤسسات الدولة والمجتمع، وهو ما يمثّل العائق الأساسي أمام أي تطوّر أو تحسين في حياة المواطنين. الفساد ليس مجرد نتيجة لسوء الإدارة، بل هو نظام متكامل تستفيد منه الفئات الحاكمة الفاسدة من جميع الطوائف، وهو على نوعَيْن:
–الفساد المنظم. منذ التسعينات، أضحى النظام السياسي اللبناني مبنياً على شبكة معقدة من المصالح المشتركة بين النخب السياسية والاقتصادية التي تتجاوز الانتماءات الطائفية. هؤلاء يستخدمون موارد الدولة وتوزيع المناصب لضمان ولاء أتباعهم وتعزيز نفوذهم. التعيينات والمحاصصة في القطاع العام تُستخدم كأداة لتوزيع المنافع، وتهميش الكفاءات الحقيقية.
–الشر في هذه المعادلة. هنا يمكن رؤية الفساد كجزء من “الشر” في الصراع الحالي. هو ليس مجرّد استغلال مالي، بل هو استغلال ممنهج للسلطة من أجل الحفاظ على النفوذ، حتى لو كان ذلك على حساب انهيار الدولة. هذا الشر يمثّل مقاومة لأي إصلاح حقيقي، لأنه يُبقي القوى الفاسدة في مواقعها ويحمي مصالحها.
3-الأزمات المتراكمة وخلق الوعي الشعبي.
كل أزمة تمّر بلبنان، من الأزمة الاقتصادية إلى انفجار مرفأ بيروت المأساوي، ساهمت في خلق وعي جديد لدى المواطنين الأحرار. أصبحت الصورة أكثر وضوحًا لجميع الشرفاء: الانقسام الطائفي ما هو إلا غطاء لتمرير الفساد والصفقات السياسية المشبوهة. ومن الأمثلة.
–انفجار مرفأ بيروت: نقطة تحول. حادثة انفجار المرفأ في آب 2020 كانت لحظة فارقة في الوعي الشعبي. لم يكن الانفجار مجرّد كارثة، بل كان نتيجة إهمال وفساد مستمرين لعقود. هنا، تجاوزت المأساة الطوائف؛ المسيحيون والمسلمون، الشيعة والسنة، كلّهم عانوا من هذا الإهمال والفساد. بدأ الشعب الحر يدرك أن النظام الطائفي ليس مصدر الأمان، بل هو جزء من المشكلة.
–الأزمة الاقتصادية. الانهيار الاقتصادي الذي بدأ في أواخر 2019 أدى إلى انهيار العملة الوطنية وارتفاع معدلات البطالة والفقر. أصبحت حياة اللبنانيين اليومية مليئة بالصعوبات، ولم تعد الطائفة تقدّم لهم أي حماية أو حلول. المواطن اللبناني بات يبحث عن حلول اقتصادية واجتماعية، وليس عن الانتماءات الطائفية. هذا الصراع من أجل البقاء، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية، يمثّل صراع “الخير” ضد “الشر“، حيث الخير هنا يعني البحث عن العدالة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للجميع.
4-الحركات المدنية والشعبية.
أحد أبرز التطورات في السنوات الأخيرة هو ظهور الحركات المدنية والشعبية التي تتجاوز الطائفية وتدعو إلى محاربة الفساد وبناء دولة قانون عادلة، منها:
–الحراك الشعبي في تشرين الأوّل 2019. انتفاضة تشرين الأوّل 2019 أو “ثورة 17 تشرين” كانت نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ لبنان الحديث. خرج مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع، متحدّين ضد الفساد وسوء الإدارة، وليس ضد طائفة معينة. شعارات مثل “كلن يعني كلن” تعبّر عن رفض النظام الطائفي بالكامل، والدعوة إلى إعادة بناء النظام السياسي على أساس الكفاءة والمساءلة.
–دور المجتمع المدني. المجتمع المدني لعب دورًا كبيرًا في هذه الحركات. منظمات غير حكومية وجماعات ناشطة بدأت في تنظيم مبادرات لمراقبة الفساد، تقديم المساعدات الإنسانية، ومحاولة بناء شبكات اقتصادية بديلة تساعد على تخفيف العبء عن المواطنين. هذه الحركات تُمثّل جانب “الخير” الذي يسعى إلى تحقيق العدالة وبناء مستقبل أفضل.
5-الصراع على مستقبل لبنان.
اليوم، الصراع في لبنان هو صراع على مستقبل البلاد. هل سيكون هناك نظام جديد أكثر عدلاً وشفافية، أم سيستمر النظام الحالي الذي يكرس الفساد والمحاصصة؟ هذا الصراع بين “الخير” و”الشر” يتجاوز كل الحدود الطائفية والسياسية التقليدية.
–الخير، ويمثله المواطنون العاديون، الحركات الشعبية، والجماعات المدنية التي تسعى إلى دولة تقوم على القانون والمساواة وتوفير الفرص للجميع. هؤلاء يطالبون بتفكيك النظام الفاسد وإجراء إصلاحات جذرية تشمل القضاء المستقل، المحاسبة المالية، واستعادة سيادة الدولة والأموال المنهوبة من المال العام والخاص.
–الشر، هو النظام الفاسد القائم، المدعوم من الفئات المستفيدة من الوضع الراهن. هذه الفئات تسعى إلى إدامة الانقسام والفوضى لتجنّب المحاسبة. تحاول تلك القوى إعاقة الإصلاحات بأي ثمن، مستخدمة القوة السياسية والإعلامية وحتى العنف أحيانًا لحماية مصالحها.
6-الحلول الممكنة.
في ظل هذا الصراع، لا تزال هناك حلول يمكن أن تساعد في إعادة بناء لبنان على أسس جديدة، منها:
–إصلاح النظام السياسي. هناك حاجة ماسة لإعادة صياغة النظام السياسي في لبنان بطريقة تضمن التمثيل العادل والمساءلة الحقيقية. الانتقال من نظام المحاصصة الطائفية إلى نظام يركّز على الكفاءة والشفافية سيخلق بيئة مناسبة للتنمية والتقدّم.
–دعم الحركات المدنية. المجتمع المدني يجب أن يكون جزءًا أساسيًا من الحل. دعم الحركات التي تعمل على تعزيز الشفافية ومحاربة الفساد هو جزء من بناء “الخير” في لبنان الجديد.
–المساءلة والعدالة. من الضروري إنشاء آليات للمساءلة القانونية ومحاسبة الفاسدين، سواء كانوا من السياسيين أو رجال الأعمال. العدالة يجب أن تكون هي الأساس الذي يقوم عليه أي إصلاح في لبنان.
الخاتمة:
في خضم الأزمات المتلاحقة التي يعيشها لبنان، بات من الواضح أن الصراع القائم لم يعد يدور حول الانقسامات الطائفية التي هيمنت على البلاد لعقود، بل تحوّل إلى معركة بين قوى تسعى للإصلاح وقوى أخرى تتشبث بالفساد والفوضى لتحقيق مصالحها الخاصة. ما يجري اليوم في لبنان هو صراع بين “الخير” الذي تمثله الحركات الشعبية والمدنية الشريفة الساعية لإقامة دولة قائمة على العدالة والمساواة، وبين “الشر” الذي تجسّده المنظومة السياسية الفاسدة والمستفيدة من حالة الانهيار.
إن الشعب اللبناني الحر، الذي يعاني من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تجاوز الحدود الطائفية التقليدية، مطالبًا بإصلاح شامل يمّس جميع جوانب الحياة. انفجار مرفأ بيروت والأزمة الاقتصادية العميقة كشفا عن فشل النظام القائم الذي يعتمد على الفساد والمحاصصة الطائفية، ودفعا نحو وعي وطني جديد يدعو إلى بناء دولة القانون والمحاسبة.
ومع ذلك، تبقى المعركة طويلة وشاقة، إذ أن القوى التي تستفيد من الوضع الراهن ما زالت تملك نفوذًا كبيرًا، وتستخدم كل الوسائل الممكنة للحفاظ على مصالحها. هذه القوى لا تتردّد في عرقلة أي محاولات للتغيير، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار لبنان ومستقبله.
لذا، من الضروري أن يتكاتف الشعب اللبناني الحر، بجميع طوائفه، حول مطلب بناء دولة عادلة وشفّافة تحترم حقوق المواطنين وتضع مصلحتهم فوق كل اعتبار. الطريق إلى التغيير قد يكون مليئًا بالتحديات، لكنه السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان من حالة الانهيار التي يعيشها. بفضل الوحدة والتضامن، يمكن للبنانيين الشرفاء أن يتغلبوا على الفساد ويعيدوا بناء وطن يتسّع للجميع، دولة تقوم على أسس الحق والعدالة، حيث تكون المصلحة العامة هي الهدف الأسمى. إن هذا الصراع ليس مجرّد معركة سياسية، بل هو صراع من أجل روح لبنان ومستقبله، بين من يسعون لبناء وطن للجميع ومن يريدون إبقاءه رهينة لفسادهم ومصالحهم الضيقة.