حجر الرحى من النوع الصغير
د. الياس ميشال الشويري
اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل وعاء يُحمّل المعاني العميقة للتجارب البشرية. ومن أبرز الأمثلة التي ترسّخت في الذاكرة الشعبية العربية مثل: “أسمع جعجعة ولا أرى طحناً.” هذا المثل الذي وُلد من مشهد ريفي بسيط – صوت الرحى دون طحين – تجاوز معناه الحرفي إلى مجاز يعبر عن انفصال القول عن الفعل، والكلام المنمق عن الإنجاز الواقعي. في لبنان، الذي يعيش منذ عقود أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، أصبحت هذه العبارة أكثر من تعبير بلاغي؛ صارت توصيفاً دقيقاً للحال، حيث كثرت التصريحات وقلّت النتائج، وتكررت الوعود دون أن تتحقق الحلول.
- الأصل اللغوي والبلاغي للمثل
نشأ هذا المثل في بيئة زراعية، حيث اعتاد الناس سماع صوت الطاحونة (الجعجعة) حين تدور الرحى لطحن الحبوب، فإذا سمعوا الصوت دون أن يشمّوا رائحة الطحين أو يروا نتائجه، شكّوا في جدوى الدوران. هذه المفارقة بين الصوت والنتيجة، بين الظاهر والباطن، اختُزلت بذكاء في عبارة قصيرة، ذات دلالة واسعة. إنها دعوة للتفريق بين المظاهر الخادعة والنتائج الحقيقية.
بلاغيًّا، تقوم العبارة على المجاز، حيث تشير “الجعجعة” إلى الكلام الفارغ، و”الطحين” إلى الإنجاز أو الفعل الملموس. هذا التحول من المعنى الحرفي إلى المعنى المجازي هو ما منح العبارة قوتها التعبيرية. تحوّلت من وصف لحالة مادية إلى نقد اجتماعي مرير، وتطوّرت إلى تعبير اصطلاحي عن الثرثرة السياسية والوعود غير المنجزة، خصوصاً حين يُستخدم في سياقات إعلامية أو شعبية.
شاعت عبارة “أسمع جعجعة ولا أرى طحناً” في الأوساط الثقافية والسياسية والإعلامية، حتى أصبحت من الأدبيات النقدية الجاهزة. وغالباً ما تُستخدم في خطابات احتجاجية على الخطاب السياسي الفارغ. في البرامج الحوارية أو في الشارع الشعبي، يردّدها المواطن العربي كناية عن انعدام الثقة بينه وبين صناع القرار. أصبحت العبارة أداة للتعبير عن خيبة الأمل، وعن السخرية من الواقع.
- واقع “الجعجعة” في السياسة اللبنانية
السياسة في لبنان امتلأت بالجعجعة، إذ يعجّ الإعلام بخطابات السياسيين وتصريحاتهم ووعودهم المتكررة بالإصلاح ومحاربة الفساد وبناء الدولة. لكن رغم هذه الجعجعة، لا يرى المواطن اللبناني “طحناً” فعلياً على أرض الواقع. تتكرر الوعود ذاتها في كل موسم انتخابي، فيما تتدهور الخدمات العامة وتُهدر الموارد. وقد فقد اللبناني الثقة في الخطاب السياسي لأنه غالباً لا يتعدى كونه صوتًا مرتفعًا بلا مضمون.
تُستخدم الجعجعة الطائفية كأداة سياسية خطيرة لتشتيت الانتباه عن القضايا الحقيقية. ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن تناقش الحكومة خطط الكهرباء والمياه والتعليم، ينشغل الخطاب العام بالسجالات الطائفية والهوية المذهبية، التي تُحدث ضجيجًا هائلًا دون إنتاج أي طحين عملي. هذه الجعجعة ليست فقط بلا فائدة، بل تُستخدم لإبقاء الناس منقسمين وعاجزين عن المطالبة بحقوقهم.
أصبح اللبناني يشاهد جعجعة السياسيين يومياً على الشاشات، فيما يفتقد أبسط مقومات العيش الكريم: الكهرباء، الماء، الراتب، الطبابة، التعليم. هذه المفارقة المريرة بين الضجيج الإعلامي والفقر المعيشي جعلت المثل الشعبي أكثر تعبيراً عن الواقع من أي خطاب تحليلي. يعيش المواطن تحت رحى الجعجعة بينما يُحرم من “طحين” الحقوق والخدمات.

- الجعجعة في قطاعات الدولة: التعليم والاقتصاد نموذجاً
لطالما تغنّى المسؤولون اللبنانيون بجودة التعليم في لبنان و”العقل اللبناني المبدع“، لكن في الواقع، يعاني القطاع التربوي من انهيارات متتالية: هجرة الأساتذة، ضعف المناهج، غياب الاستثمار. يُسمع صوت الرحى – مؤتمرات، تصريحات، استراتيجيات – لكن لا طحين. الطالب والمعلم على حد سواء رهينة وعود لا تُنفّذ، وقرارات لا تُطبّق.
في كل أزمة اقتصادية، تتعالى أصوات المسؤولين بخطط إنقاذية، ومشاريع نهوض، ولكن دون نتائج ملموسة. صندوق النقد يُستدعى دون اتفاق، والدولار ينهار ثم يُضبط نظرياً، والمواطن يُطلب منه الصبر بينما تهدر الدولة ما تبقى من الاقتصاد الوطني. تكثر الجعجعة الاقتصادية، ولكن الطحين – أي النمو والاستقرار – يبقى مفقودًا.
الإعلام اللبناني ساهم في تضخيم صوت الجعجعة، فأصبح في كثير من الأحيان منبرًا لنقل التصريحات بلا تمحيص، وتحويل كل تصريح إلى حدث دون مساءلة حقيقية عن الإنجازات. غابت المحاسبة، وحلّت مكانها الإثارة. وبدلاً من أن يكون الإعلام صوتًا للحقيقة، صار في بعض جوانبه بوقًا للجعجعة السياسية، مما ساهم في تعميق الفجوة بين المواطن والدولة.
الخاتمة
“أسمع جعجعة ولا أرى طحناً” ليست مجرد عبارة مأثورة، بل مرآة لواقع نعيشه، خصوصاً في لبنان. هذا البلد الذي لطالما تغنّى بحضارته وتعدديته، غرق في ضجيج الشعارات والخطابات، بينما تآكلت فيه مقومات الدولة الفعلية. وفي ظل هذا الضجيج، لم يعد المواطن يريد سماع جعجعة جديدة، بل ينتظر طحناً حقيقياً يُشبع جوعه إلى الكرامة، والخدمات، والعدالة. المطلوب اليوم ليس صوت الرحى، بل نتاجها، لأن الأوطان لا تبنى بالتصريحات، بل بالأفعال.