د. الياس الشويري
لطالما شكّل مظهر المرأة محور جدل اجتماعي وديني في المجتمعات العربية، بعدما ارتبط الحجاب والنقاب في أذهان الكثيرين بمستوى الأخلاق والسلوك، وكأنّ غطاء الرأس أصبح مرآةً تعكس نقاء الضمير أو صلاح النية. غير أن هذا الربط القائم على الصورة الخارجية يتجاهل جوهر الإنسان وسلوكياته الحقيقية، ويفرض مقاييس أخلاقية مشروطة بالمظهر لا بالجوهر. لقد نبّهت المفكرة والطبيبة نوال السعداوي إلى “خطورة هذا الاختزال”، حين اعتبرت أن “حصر شرف المرأة في جسدها ولباسها هو عنف ناعم يمارَس عليها باسم الفضيلة”، مؤكدة أن “الأخلاق لا تُقاس بطول الثوب، بل باتساع العقل وصدق المعاملة.”
في واقعنا العربي، كثيرًا ما تُختزل القيم في القماش، وتُهمل النية والسلوك والمعاملة، مما يحوّل الحجاب والنقاب إلى أدوات تصنيف أخلاقي مسبق، لا علاقة له بالواقع النفسي أو الأخلاقي للمرأة. هذه الظاهرة ليست فقط شكلًا من أشكال التنميط السطحي، بل هي آلية تضليل أخلاقي تُستخدم لتبرير القبول أو الرفض، الطعن أو التبجيل، بناءً على المظهر الخارجي فقط. من هنا، يسعى هذا البحث إلى تفكيك هذه الإشكالية، عبر توضيح أن الحجاب والنقاب لا يمكن أن يكونا معيارًا حقيقيًا للأخلاق، وأن جوهر القيم ينبع من المبادئ والسلوك والتربية، لا من قطعة قماش توضع على الجسد.
- الحجاب والنقاب كرمزين دينيين لا أخلاقيين
تاريخيًا، نشأ الحجاب والنقاب كجزء من التشريعات الدينية التي تهدف إلى تنظيم العلاقة بين الجنسين داخل المجتمعات الإسلامية. وقد تم تقديمهما “كوسيلتين لحماية المرأة من الفتنة والنظرة الشهوانية”، وفقًا لتفسيرات فقهية متباينة. غير أن هذا الإطار التشريعي غالبًا ما تحوّل في الواقع إلى معيار أخلاقي مفترض، يُقاس به شرف المرأة وكرامتها. هذا التحوّل من الوظيفة الدينية إلى الوظيفة الأخلاقية يُعد خطأً مفاهيميًا يُؤدي إلى إصدار أحكام مسبقة وظالمة بحق النساء.
في المجتمعات العربية، يُنظر إلى المرأة المحجبة أو المنقبة على أنها بالضرورة ذات خلق ودين، بينما تُتهم السافرة بانعدام الأخلاق، وهذا التصنيف ينمّ عن سطحية ثقافية لا تُراعي تنوع الشخصيات والسلوكيات. كثيرات من المحجبات قد يقمن بتصرفات منافية للأخلاق كالكذب أو الغيبة أو النفاق، بينما نجد غير المحجبات يتسمن بالصدق والعدل والإحسان. هذا التناقض يدلّ على أن الأخلاق لا تُستنبط من الزي بل من الممارسة اليومية للفضائل.
في بعض المجتمعات، يُستخدم الحجاب والنقاب كوسيلة اجتماعية لإثبات الصلاح، ما يُجبر كثيرًا من النساء على ارتدائه تحت الضغط لا عن قناعة، فيتحول إلى قناع اجتماعي لا يعكس الواقع الداخلي. حينها، تصبح القيم مجرّد واجهة، وتُختزل الأخلاق في الانضباط الشكلي. هنا يغيب المعيار الحقيقي للتدين: التعامل الإنساني، احترام الآخر، الصدق في القول والعمل. فالمظهر وحده، دون نية خالصة وسلوك صادق، لا يمكن أن يكون معيارًا للأخلاق.
- الأخلاق كسلوك مستقل عن المظهر
الأخلاق هي مجموعة من المبادئ والمواقف والسلوكيات التي يُعبّر بها الفرد عن احترامه لذاته وللآخرين. وهي تُبنى عبر التربية، التجربة، والنمو الوجداني والروحي، وليس عبر نوع اللباس أو تغطية الجسد. فالشخص الصادق لا يحتاج إلى زي ليثبت صدقه، ولا الكاذب يتطهر بالحجاب أو النقاب. ولذلك، من الظلم أن نرهن قيمة المرأة الأخلاقية بقطعة قماش، أو نحكم على نواياها من شكلها الخارجي فقط.
في المجتمع اللبناني على وجه الخصوص، نجد مفارقات صارخة تُظهر أن اللباس لا علاقة له بالأخلاق. فهناك نساء يرتدين الحجاب وينخرطن في شبكات الوساطات والفساد، وأخريات سافرات يُساهمن في العمل الخيري والحقوقي بأعلى درجات النزاهة. هذه المشاهد تُكذّب الافتراض القائل إن الأخلاق حكر على فئة بعينها. كما أن نسبة كبيرة من السلوكيات المنحرفة تُمارس في السرّ، بغض النظر عن اللباس، ما يفضح هشاشة الأحكام المسبقة.
الوعي الحقيقي لا يُقاس بالمظهر، بل بالقدرة على التعاطف، التفهم، احترام الغير، ومحاربة الظلم. وتلك خصال لا يمكن للحجاب أو النقاب أن يُعبّرا عنها بمفردهما. المرأة الأخلاقية هي من تملك ضميرًا حيًا، لا من تغطي شعرها أو وجهها فقط. ومن هنا، فإن ربط الأخلاق بالمظهر يُنتج مجتمعًا منافقًا يقدّس المظهر ويتغاضى عن السلوك، ما يُساهم في خلق بيئة ظاهرها تقوى وباطنها فساد.

- التوظيف السياسي والاجتماعي للحجاب والنقاب
في كثير من السياقات السياسية، يُستخدم الحجاب والنقاب لتبرير الأيديولوجيات الدينية أو القومية. فنرى أنظمة سياسية أو أحزابًا تستثمر في صورة المرأة “المحتشمة” لإثبات التزامها الديني، بينما تسكت عن الفساد أو العنف أو التمييز الذي تمارسه خلف الكواليس. بهذا التوظيف، يتحول الحجاب إلى أداة دعائية تُستخدم لا لتحسين سلوك المجتمع بل لتجميل صورة السلطة أو الجماعة.
المرأة في بعض المجتمعات المحافظة قد تُجبر على ارتداء النقاب أو الحجاب لتتجنب التنمر أو الشك، ما يجعل الالتزام بالزي جزءًا من منظومة السيطرة الذكورية لا من اختيار حر. وإذا ما قررت خلع الحجاب تُواجه بسيل من الاتهامات الأخلاقية، وكأنها فقدت قيمتها الأخلاقية لمجرد كشف شعرها. هذا النوع من الابتزاز الأخلاقي يُضعف حرية المرأة ويُربط كرامتها بلباسها لا بذاتها.
من جهة أخرى، يُمارس نوع من “التحصين الكاذب” بحق المرأة المحجبة أو المنقبة، فيُفترض أنها لا تخطئ ولا تُحاسب، بينما قد تُمارس سلوكيات سلبية تُغضّ عنها الأنظار لأنها “محتشمة“. هذا التضليل يخدم المنظومة الذكورية التي تهمّها الصورة لا المضمون، ويعفي المرأة من مسؤولية أخلاقية حقيقية حين تُصبح الأخلاق قناعًا لا واقعًا. في المقابل، تُجرّم غير المحجبة لأي هفوة صغيرة، ما يُنتج ميزانًا أخلاقيًا مختلًا.
- الخاتمة
الحجاب والنقاب، مهما بلغ احترامنا لهما كرمزين دينيين وثقافيين، لا يُمكن أن يكونا مقياسًا لأخلاق المرأة. إن اختزال الأخلاق في قطعة قماش هو جريمة معرفية وأخلاقية في حق الوعي الجمعي. الأخلاق لا تُقاس بالمظهر بل بالفعل، لا باللباس بل بالمبدأ، لا بالتديّن الظاهري بل بالإنسانية العميقة. ما نحتاجه هو مجتمع يُعيد تعريف الأخلاق كمنظومة إنسانية شاملة تُحاكم السلوك لا الغلاف، وتُكرّم الإنسان لجوهره لا لزيفه. آن الأوان لأن نحرّر المرأة من سجن الصورة، ونُعيد الاعتبار لأخلاقها ككائن مستقل لا كرمز متنازع عليه.