دعاء الى السماء
د. الياس ميشال الشويري
لبنان، ذلك الوطن الذي تتداخل فيه ثقافات وأديان متعددة، شهد على مر تاريخه لحظات من المجد والازدهار كما شهد نكسات وصراعات عصفت بمستقبله. في العصر الحديث، يجد اللبناني نفسه في مواجهة واقع مليء بالتناقضات، حيث تتفشىّ الضغينة بين الطوائف، ويزدهر الكذب والنفاق والفساد في الحياة السياسية والاجتماعية، ويتراجع الإيمان عند البعض في ظل انهيار القيم الاقتصادية والأخلاقية.
السؤال الذي يطرحه الكثيرون أمام هذا الواقع المرير هو: كيف يمكن لله أن يرضى عن وطن يبدو أنه غارق في الفساد والضلال؟ وهل من سبيل لإعادة لبنان إلى سكة الخلاص ليكون وطنًا للصدق والأمانة والمحبة، فينعكس ذلك في بركة إلهية تنقذه من أزماته المتراكمة؟ هذا المقال يهدف إلى استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان يصل إلى هذا الحال، مع التركيز على الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي قد تكون المفتاح للخروج من المأزق.
- المغزى الروحي للرضا الإلهي.
الرضا الإلهي هو مفهوم مركزي في جميع الأديان السماوية، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بسلوك الأفراد والمجتمعات. الله، في نظر المؤمنين، ليس مجرد قاضٍ يعاقب المخطئين، بل هو رحيم يغفر الذنوب ويمنح فرصًا لا حصر لها للعودة إليه. القرآن الكريم يردّد باستمرار أن رحمة الله واسعة وتشمل كل شيء: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر:53). وفي المسيحية، يعكس إنجيل يوحنا هذا المبدأ: فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة (يوحنا 16:3).
لبنان، رغم ما يبدو عليه من فساد وابتعاد عن القيم، يظّل في دائرة الرحمة الإلهية. المجتمعات البشرية ليست كاملة، ولبنان كغيره من البلدان قد يمّر بفترات ضعف وفساد، لكن الأمل في رضا الله يكمن في السعي نحو الإصلاح والعمل من أجل العدالة والخير.
- الجانب الأخلاقي: العلاقة بين الأخلاق والرضا الإلهي.
الأخلاق هي عماد المجتمعات، وإذا سقطت القيم الأخلاقية، أصبح المجتمع عرضة للانهيار من الداخل. الكذب، الرياء، النفاق والفساد ليست مجرد عادات سلبية فردية، بل هي أمراض اجتماعية تقوّض أسس الدولة. في لبنان، تفشّى الكذب والفساد في الحياة السياسية والاقتصادية إلى درجة أصبح فيها فقدان الثقة بالحكومة والمسؤولين أمرًا عاديًا. وامتد هذا السلوك إلى العلاقات الاجتماعية، حيث أضحى الرياء وسيلة للنجاح والترقّي.
لكن، كما يقول الكتاب المقدس: ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإِنسانُ بَدَلاً لِنَفسِه؟ (متى 26:16)، كذلك فإن المجتمعات التي تبني نجاحاتها على أسس غير أخلاقية لا تلبث أن تنهار. القرآن الكريم أيضًا يذم الكذب ويعتبره من علامات المنافقين: وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (سورة الجاثية الآية 7). لذلك، يمكن القول إن رضا الله عن لبنان يبدأ باستعادة القيم الأخلاقية في جميع مناحي الحياة، من السياسة إلى التعاملات اليومية.
- دور الأفراد في التغيير: الإصلاح يبدأ من الذات.
التغيير الجذري لا يمكن أن يأتي من الخارج فقط، بل يجب أن يبدأ من داخل الإنسان. يقول القرآن إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم (سورة الرعد: 11)، وهذا المبدأ يؤكد أن الإصلاح الحقيقي يعتمد على الأفراد أنفسهم. إذا أراد اللبنانيون أن ينالوا رضا الله، فعليهم أن يسعوا لإصلاح أنفسهم أولاً، وأن يعملوا على نشر قيم العدل والأمانة في محيطهم.
في التاريخ اللبناني، هناك نماذج عديدة لأفراد قادوا حركات إصلاحية واجتماعية ساهمت في بناء لبنان الحديث. هؤلاء الأفراد، الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية التغيير، استطاعوا تحقيق إنجازات عظيمة، ما يدل على أن الفرد يمكن أن يكون بذرة التغيير التي تؤدي إلى نهوض المجتمع بأسره.
- التوبة والعودة إلى الله: لبنان في حاجة إلى نهضة روحية.
التوبة والعودة إلى الله ليست مجرد أفعال فردية، بل يمكن أن تكون حركة اجتماعية واسعة تؤدي إلى إصلاح حقيقي. في الأديان السماوية، تُعتبر التوبة والرجوع إلى القيم الروحية خطوة أساسية في تحقيق الرضا الإلهي. في لبنان، يمكن أن تكون هذه النهضة الروحية وسيلة للخروج من الأزمات المتراكمة.
الصلاة والدعاء الجماعي، والمبادرات التي تجمع الناس على أساس الأخلاق المشتركة بدلاً من الطائفية والمصالح السياسية، يمكن أن تكون بداية لهذه النهضة.
- القيم الروحية كطريق للخلاص.
القيم الروحية ليست مجرد شعائر دينية، بل هي نظام أخلاقي يمكن أن يقود المجتمعات نحو الاستقرار والسلام. المحبة، التسامح، العدل، والأمانة هي قيم مشتركة في جميع الأديان، وإذا استطاع اللبنانيون التركيز على هذه القيم، يمكن أن يتغيّر واقعهم نحو الأفضل.
لبنان كان دائمًا نموذجًا للتعددية الثقافية والدينية، وهذه التعددية يمكن أن تكون نقطة قوة إذا تم استثمارها بشكل إيجابي، بحيث تكون أساسًا لبناء وطن يجمع بين جميع أبنائه، بدلًا من أن تكون مصدرًا للفرقة والضغينة.
- الخاتمة.
رغم كلّ ما يمرّ بلبنان، فإن الأمل في التغيير لا يزال قائمًا. رضا الله عن الأوطان لا يتحقّق بالعقوبات الإلهية أو الثواب فقط، بل هو انعكاس لحالة المجتمع وأفراده. إذا تمكن اللبنانيون من إعادة بناء وطنهم على أسس المحبة والعدل والصدق، فإن الله سيرضى عنهم، وستنعم بلادهم بالسلام والازدهار.
هذا البحث ليس مجرد تأمّل في الوضع الحالي، بل هو دعوة للعمل الجاد من أجل إصلاح لبنان، لأن الوطن الذي يحظى برضا الله هو وطن يعمل أفراده من أجل الخير والحق في جميع الظروف.