مكتبة يافث في الجامعة الأميركية في بيروت
د. الياس ميشال الشويري
في عالم يتّسم بتسارع التقدّم التكنولوجي والابتكار، تعتبر القراءة والكتابة والتعليم الجيّد والنشاط الثقافي، مؤشرات أساسية لتقييم تقدّم الدول. هذه العوامل تلعب دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتعزيز اقتصاده. ومن خلال استكشاف الفروقات بين دول مثل إسرائيل ولبنان وبعض الدول العربية الأخرى، يمكننا فهم كيف تؤثّر هذه العناصر على مسار التنمية والتطوّر في البلدان المختلفة.
إسرائيل تقدّم نموذجاً لافتاً في كيفية تحقيق الدول للاستفادة القصوى من استثماراتها في التعليم والثقافة، حيث تُسهم هذه الاستثمارات في خلق بيئة شفّافة ومشجّعة على الابتكار والنمو الاقتصادي. على النقيض، تواجه لبنان ومعظم الدول العربية تحدّيات جسيمة في هذه المجالات، ما ينعكس سلباً على قدراتها الاقتصادية والاجتماعية. في لبنان، على سبيل المثال، أدّى الفساد وسوء الإدارة في النظام السياسي اللبناني إلى تهيئة بيئة مواتية للنهب المؤسسي، ممّا تسبب في انهيار العديد من مؤسسات الدولة، بما في ذلك القطاع التربوي.
فهم هذه الفروقات يمكن أن يوفّر رؤى قيّمة حول كيفية تحسين السياسات التعليمية والثقافية، وتعزيز الشفافية، وتطوير بيئات داعمة للابتكار. هذه التحسينات يمكن أن تساهم في بناء مجتمعات أكثر قدرة على التنافس والنمو، وتوفير فرص أفضل للأجيال القادمة.
1-أهمية الإلمام بالقراءة والكتابة كركيزة للتنمية البشرية. ان الإلمام بالقراءة والكتابة هو الأساس الذي يعتمد عليه تطوّر المجتمعات، إذ يُعتبر مفتاحًا للولوج إلى عالم المعرفة والتعليم. في الدول التي تتمتّع بمعدّلات عالية من الإلمام بالقراءة والكتابة، يتمكّن الأفراد من الوصول إلى مستويات أعلى من التعليم والفرص الاقتصادية، ممّا يعزّز المشاركة الفعّالة في الحياة السياسية والاجتماعية. هذه القدرة تُسهم بشكل كبير في تمكين الأفراد من تحقيق إمكاناتهم الكاملة، سواء في حياتهم المهنية أو الشخصية.
في المقابل، تعاني العديد من الدول العربية، بما في ذلك لبنان، من تفاوتات كبيرة في نسب الإلمام بالقراءة والكتابة، حيث تؤدي الظروف الاقتصادية والسياسية المعقدة إلى ضعف في الوصول إلى التعليم الجيّد، خاصة في المناطق الريفية والفقيرة. هذا الضعف يؤدي إلى تحدّيات مستمرّة تعيق تقدّم هذه الدول على عدّة مستويات، بما في ذلك تحقيق التنمية المستدامة وتقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية.
2-جودة التعليم وتأثيرها على التطوّر المجتمعي والاقتصادي. جودة التعليم تُعّد عاملاً حاسمًا في تحديد مستقبل الدول وقدرتها على المنافسة في الاقتصاد العالمي. إسرائيل، على سبيل المثال، تستثمر بشكل كبير في قطاع التعليم، حيث تركّز على العلوم والتكنولوجيا باعتبارهما ركيزتين أساسيتين لدفع عجلة الابتكار والنمو الاقتصادي. الجامعات الإسرائيلية تحتّل مراتب متقدمة عالميًا، وتسهم بشكل مباشر في تكوين قاعدة من العقول القادرة على تطوير صناعات تكنولوجية متقدّمة، ممّا يعزّز مكانة إسرائيل كقوة اقتصادية في المنطقة.
في لبنان، ورغم وجود بعض المؤسسات التعليمية التي تتمتّع بسمعة جيدة، إلا أن النظام التعليمي يعاني من مشاكل هيكلية. التعليم الحكومي، الذي يخدم غالبية السكان، يعاني من نقص في التمويل، ما يؤدّي إلى تدهور جودة التعليم وعدم توفر الموارد التعليمية الكافية. هذا الأمر ينعكس سلبًا على قدرة البلاد على إنتاج قوّة عاملة مؤهلة تلبّي احتياجات السوق المحلي وتساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية.
الدول العربية الأخرى تشهد تفاوتات كبيرة في جودة التعليم. في دول الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة، هناك استثمارات كبيرة في تطوير نظام تعليمي حديث يركّز على الابتكار والبحث العلمي، ممّا يسهم في خلق اقتصاد معرفي متقدّم. في المقابل، تعاني دول مثل مصر والمغرب من تحديات في تحسين جودة التعليم، حيث تواجه مدارسها وجامعاتها مشاكل تتعلّق بكثافة الفصول الدراسية، نقص الموارد التعليمية، وتدنّي مستوى التدريب للمعلمين، مما يحّد من قدرة هذه الدول على تحقيق تنافسية اقتصادية قوية.
3-النشاط الثقافي ودوره في تشكيل الهوية وتعزيز الوعي. ان النشاط الثقافي الذي يشمل نشر الكتب وتوفير المكتبات العامة، يلعب دورًا حيويًا في تشكيل الهوية الوطنية وتعزيز الوعي المجتمعي. إسرائيل تتمتع بنشاط ثقافي مزدهر، حيث تنتشر المكتبات العامة بشكل واسع وتدعم الحكومة نشر الكتب والفعّاليات الثقافية. هذا النشاط يعزّز من قيمة الثقافة والمعرفة في المجتمع الإسرائيلي، ويشكّل جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، تشهد إسرائيل تطورًا كبيرًا في مجال المكتبات الرقمية، ممّا يسهّل الوصول إلى المعرفة ويعزّز من القدرة على البحث والابتكار.
في لبنان، يمتاز النشاط الثقافي بتاريخه العريق، إلا أنه يعاني من صعوبات كثيرة في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة. المعارض الثقافية، مثل معرض بيروت الدولي للكتاب، تُعّد من أبرز الفعاليات الثقافية في العالم العربي، لكنها تواجه تحديات كبيرة في الاستمرار نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وقلّة الدعم الحكومي. رغم ذلك، يبقى لبنان مركزًا ثقافيًا مهمًا في المنطقة، حيث تواصل النخب الثقافية اللبنانية العمل على تعزيز الوعي الثقافي والتمسك بالهوية الوطنية.
الدول العربية الأخرى تظهر تفاوتات واضحة في مستوى النشاط الثقافي. الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، تقود المنطقة في مجال النشر وتنظيم المعارض الثقافية، مثل معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي يعد من أهم المعارض في العالم العربي. في المقابل، تواجه دول مثل مصر تحديات كبيرة في دعم نشاطها الثقافي بسبب نقص التمويل وتدهور البنية التحتية الثقافية، رغم غنى مصر بتراث ثقافي عريق.
4-تأثير التعليم والثقافة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لا يمكن فصل تأثير التعليم والثقافة عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهما يشكلان معًا أساسًا لتحقيق التنمية المستدامة. الدول التي تستثمر في التعليم وتدعم النشاط الثقافي، مثل إسرائيل، تشهد نموًا اقتصاديًا متسارعًا وقدرة أكبر على المنافسة في السوق العالمي. التعليم الجيّد ينتج عمالة ماهرة ومبتكرة، والنشاط الثقافي يعزّز من تماسك المجتمع واستقراره، ما يسهم في خلق بيئة ملائمة للنمو الاقتصادي.
في المقابل، تعاني الدول التي تفتقر إلى استثمارات كافية في هذين المجالين من بطء في النمو الاقتصادي وتزايد في الفجوات الاجتماعية. في لبنان، تؤدي الأزمات المتتالية إلى تراجع القدرة على تمويل التعليم والثقافة، ممّا يفاقم من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. هذا الوضع ينطبق أيضًا على دول عربية أخرى، حيث يؤدّي ضعف التعليم والثقافة إلى تراجع في الإنتاجية الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفقر.
إدراك هذه العلاقة بين التعليم والثقافة والتنمية الاقتصادية يدفع بعض الدول العربية، مثل الإمارات والأردن، إلى تبنّي سياسات تهدف إلى تحسين جودة التعليم وتعزيز النشاط الثقافي. هذه الجهود تظهر نتائج إيجابية، حيث تتمكّن هذه الدول من تحسين معدلات النمو الاقتصادي وتقليل الفجوات الاجتماعية.
5-الفجوة في براءات الاختراع والإبداع بين إسرائيل والدول العربية. أحد أبرز المؤشرات على تقدّم دولة ما في مجال التعليم والثقافة هي قدرتها على الابتكار، والذي يمكن قياسه من خلال عدد براءات الاختراع المسجلة. إسرائيل تتمتّع بمعدّل تسجيل براءات اختراع مرتفع للغاية مقارنة بالدول العربية، ممّا يعكس تفوقها في مجال البحث والتطوير. هذا التفوّق لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة لاستثمار طويل الأمد في التعليم والعلوم، ودعم حكومي قوي للابتكار.
في المقابل، تعاني معظم الدول العربية من ضعف في هذا المجال، حيث تتسم معدلات تسجيل براءات الاختراع بالانخفاض الشديد. هذا الأمر يعكس عدم كفاية الاستثمار في البحث العلمي والتطوير، بالإضافة إلى ضعف البيئة الحاضنة للابتكار. بعض الدول، مثل الإمارات، بدأت تدرك أهمية الابتكار وتعمل على تحسين هذا الوضع من خلال برامج تحفيزية، لكنها ما زالت تواجه تحديات كبيرة للوصول إلى مستوى الدول المتقدمة.
6-التحديات والفرص المستقبلية. التفاوتات الكبيرة في مجالات التعليم والثقافة بين إسرائيل والدول العربية تشير إلى وجود تحديات ضخمة، ولكنها تفتح أيضًا الباب أمام فرص مستقبلية للتعاون والإصلاح. الدول العربية التي تستثمر في التعليم وتحسين بيئتها الثقافية ستكون قادرة على تقليل الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة، وتحقيق مستويات أعلى من التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
على المدى البعيد، يمكن أن تؤدّي هذه الإصلاحات إلى تحولات كبيرة في المجتمعات العربية، حيث يصبح التعليم والابتكار محركات رئيسية للنمو. تعزيز الاستثمار في البنية التحتية الثقافية والتعليمية، وتحفيز النشاط الثقافي والابتكار، يمكن أن يسهم في خلق جيل جديد من المفكرين والمبدعين الذين يقودون دولهم نحو مستقبل أفضل وأكثر استدامة.
الخاتمة
في الختام، تبرز الفروقات الكبيرة بين إسرائيل ولبنان والدول العربية الأخرى في مجالات القراءة والتعليم والنشاط الثقافي كعوامل حاسمة في تحديد مسار التنمية والتقدّم. إسرائيل، من خلال استثماراتها الكبيرة في التعليم والثقافة، أظهرت كيف يمكن للابتكار والنمو الاقتصادي أن يتحققان من خلال تحسين جودة التعليم وتعزيز النشاط الثقافي. هذه الاستثمارات أدّت إلى تعزيز قدرتها التنافسية وتحقيق تقدّم ملحوظ في المجالات التكنولوجية والاقتصادية. من جهة أخرى، تواجه لبنان والدول العربية الأخرى تحديات كبيرة في هذه المجالات. في لبنان، أدّت الأزمات السياسية والاقتصادية والفساد المستشري إلى تدهور كبير في جودة التعليم والنشاط الثقافي، ممّا ساهم في تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. في الدول العربية الأخرى، يؤدي التفاوت في جودة التعليم والأنشطة الثقافية إلى تعزيز الفجوات الاجتماعية، ويحّد من القدرة على تحقيق التنمية المستدامة.
هذه الفروقات تشير إلى الحاجة الملحة لإصلاحات شاملة تعزّز من جودة التعليم، وتدعم النشاط الثقافي، وتواجه الفساد وسوء الإدارة. تحقيق هذه الإصلاحات ليس فقط ضرورة لضمان تقدّم هذه الدول، بل هو أيضاً شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة والرفاهية الشاملة لجميع المواطنين. ملخّص الكلام، الاستثمار في التعليم والتثقيف الثقافي يمكن أن يخلق فرصاً جديدة، ويعزّز من الإبداع والابتكار، ويساهم في بناء مجتمعات أكثر تماسكاً وقوة. الدول التي تدرك أهمية هذه العوامل وتعمل على تحسينها ستكون في موقع أفضل لمواجهة التحديات المستقبلية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.